عرض مشاركة واحدة
قديم 10-21-2011, 09:03 PM
المشاركة 178
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
والان مع سر الروعة في رواية :
61ـ كاتشر إن ذا راي - الحارس في حقل الشوفان ، للمؤلف جي. دي. سالينغر.
الغياب الثاني لصاحب «ذا كاتشير إن ذا راي» / فادي طفيلي
الجمعة 19 شباط (فبراير) 2010


صورة واحدة لا غير لذاك الذي نعرفه بـ «جي دي» سالنجر. والرجل، من فرط انسحابه وغموضه وطيفيّة شخصيّته على حساب رسوخ ما كتب، جعلنا نكتفي بصورته الواحدة تلك، وباسمه الناقص أيضاً. فها هو قد جاءنا بـ «نصف اسم» وأسكتنا به، فلم نفكّر كثيراً بما يمكن أن يكون الاسم الكامل المحتجب بدوره خلف حرفين مختصرين، «J.D.».


الآن عندما مات (الأسبوع الماضي، يوم الأربعاء في 27 كانون الثاني 2010) عرفنا أنّه جيرومي ديفيد سالنجر. مولود في نيويورك في الأوّل من كانون الثاني 1919، من أبٍ يهودي كان تاجر أجبان «كوشير»، وأمّ ايرلنديّة. وقد نشأ «جي دي» في الطرف الغربي أعلى مانهاتن، هناك في مدينته، مدينتنا، التي كتبها بكلام يشبه السحر، ودرس في مدارسها ودخل جامعتيها الرئيسيتين، جامعة نيويورك وجامعة كولومبيا، من دون أن يتخرّج من أيّ منهما. كما أنّه كان، وبإلحاح من والده، قد دخل المدرسة العسكريّة، «فالي فورغ ميليتري أكاديمي» في بنسلفانيا، واستتبع الأمر الأخير في مطلع الأربعينات (1942) بالتحاقه بالجيش الأميركي ومشاركته بالحرب العالميّة الثانية كجندي في ألوية المشاة. في الحرب المذكورة، قام بالهبوط في ساحل يوتا بيوم الـ «دي داي»، وشارك كرقيب في شتاء 1944 1945 في «معركة الثُغرة» (Bulge) الشهيرة. ابنته مارغريت سالنجر في كتاب مذكّراتها، «دريم كاتشر»، الصادر عام (2001)، كتبت أنّ أبيها لا بدّ قد تعرّض «لأذى نفسيّ» جرّاء مشاركاته الحربيّة تلك. وهو عبّر، بحسبها، عن ذلك الأذى في ميله الشديد للعزلة وفي صعوبة شخصيّته، وفي ما قاله مرّة على مسمعها: «لن يسعك أبداً إخراج رائحة اللحم البشري المحترق من منخريك. لن يسعك مهما حييت».


الصحف كلّها في صبيحة اليومين التاليين لموته، الصحف الأميركيّة والكنديّة التي اهتمّت بخبر رحيله الثاني الأبدي والجسدي، لم يسعها الحصول سوى على صورة واحدة له. الصورة الواحدة عينها التي نعرفها.


هو بشعره الأسود اللامع، المسرّح إلى الجهة التي كان قد وقف فيها مصوّره، وبسالفيه القصيرين. بشرته تبدو مائلة قليلاً إلى الاسمرار، أو الدكنة. وجهه مليء بالظلال. ظلّ كبير على خدّه في جهة المصوّر، وقد امتدّ ذلك الظلّ صعوداً إلى طرف جبهته، ونزولاً إلى عنقه. ظلٌّ آخر امتد تحت أنفه الدقيق، وآخر وصل حاجبيه الأسودين الكثيفين باسوداد عينيه الواسعتين. أذناه كبيرتان، وقد بدت لنا أذنٌ واحدة في جهة المصوّر. وفمه دقيق، بشفة سفلى أكبر من العليا، كوّنت ظلاًّ صغيراً تحتها. فمُه ذاك ينتهي عند طرفيه بغمّازتين كأنهما ابتسامة عالقة لا تزول. وقد ارتدى سالنجر، في صورته تلك، سترة فاتحة اللون من قماش المخمل الذي بانت ضلوعه واضحة في الزاوية السفلى للصورة من جهة المصور. وقميصاً أبيض وصدريّة داكنة اللون بان جزء بسيط منها، وربطة عنق صغيرة العقدة، توحي، هي وياقة القميص، أنّ صاحبها يرتدي زيّ الخمسينات، تاريخ التقاط صورته التي أراد لها أن تظهر للملأ.


إلى صورته الوحيدة تلك، التي جعلت الصحف والمجلاّت وباقي وسائل النشر المرئي عاجزة عن إضافة أيّ شيء جديد إلى معلوماتنا المرئيّة البصريّة عنه بعد موته، فأن جيرومي ديفيد سالنجر كان في الخمسينات، تحديداً .



في العام 1951، قد نشر روايته الوحيدة أيضاً، The Catcher in the Rye («الحارس في حقل الشوفان»، بحسب ترجمة غالب هلسا العربيّة). فيكون سالنجر بذلك قد قرّر أن تكون الخمسينات المذكورة حقبةً لأغزر «ظهوراته» علينا، هذه الظهورات التي تمثّلت بصورة واحدة بالأسود والأبيض، ورواية واحدة مؤلّفة من 214 صفحة، رواية لها بطل واحد ووحيد، بعمر السادسة عشرة، يدعى هولدن كولفيلد.


«The enemy of phonies» «عدو المدّعين»، أو «الزائفين»، أو»الدجّالين»، كان الفتى هولدن كولفيلد، بطل «ذا كاتشر إن ذا راي» وراويها. فتى مطرود من المدرسة الإعداديّة منكسر وحزين، يجول من مكان إلى آخر في أنحاء نيويورك ويروي هواجسه وأفكاره وقلقه.



هولدن كولفيلد في أحاديثه يصفُ أنماطاً عديدة من شخصيّات البالغين، عاثراً في كلٍّ منها على ما يجعله يتقزّز ويشمئز. كما يعلّق الفتى على ما لا يحبّه أو يستسيغه في تصرّفات أهله وفي علاقتهم به. فيبدو إذ ّ ذاك مثالاً كثيف التعبير عن فتوّة مهمّشة وملفوظة. على أنّ الأسى المباشر الذي يرهقه ويثقل عليه يبقى غير جليّ وموزّعاً نتفاً وأحاسيس بسيطة، هنا وهناك، في سياق سرده وعوالم قصصه.


بين الحين والآخر، في قصص الطواف النيويوركي الهائم ذاك، يشير كولفيلد بكلام بسيط إلى «أخطار الحبّ» مثلاً، وإلى ضرورة احتفاظ المرء بمشاعره لنفسه. «إيّاك أن تبح بشيء لأحد»، يقول. «إن فعلت، فستبدأ ساعتئذٍ بفقد كلّ شيء». والرواية تنبئنا أنّه كان قادراً على نسج صلة عاطفيّة مع شخص واحد فقط، هو شقيقته الصغرى ابنة الأعوام العشرة.


رحلة في تفاصيل المشاعر الرقيقة والصغيرة يذهبُ كولفيلد بها. المشاعر التي لم تكن قد وجدت مفردات مكرّسة لها أو طريقة أدبيّة بعد. رحلة بين نبضات البراءة القصوى والمختبئة، وبين هدير الزيف الصاخب والمحتفي. وذاك الاختبار «السالنجيري» في تفاصيل المشاعر الصغرى، وفي دقائق الكلمات والإيحاءات والصور، وفي المشاهد المدينيّة الخارقة برقّتها في قلب الجسد المدينيّ العملاق، كان أشبه بفتح أدبي سيكولوجي استثنائي وسّمّ الأدب الأميركي وسماً عميقاً ومؤثّراً. وللوقوف على ذلك وقوفاً عملانيّاً مقروءاً في رواية «ذا كاتشر إن ذا راي»، يكفي التأمّل بذلك المقطع البهي، والإشراقي، والاعتراضي، حين يتساءل هولدن كولفيلد إذ يمرّ بقطيع من البط فوق بقعة ماء، عمّا ستفعله تلك الطيور حين تتجلّد المدينة بأسرها.


والحال فأنّ تجربة سالينجر تلك جاءت لتبلور في الأدب الأميركي النزعة المبكرة والسبّاقة في اكتشاف الذات ومواجهتها والكتابة عنها. النزعة التي تمتّعت على الدوام بقدرة الإصابة العالمية الشاملة، والرشاقة الهائلة في الانتشار والاتّصال بالفنون البصريّة والسماعيّة الحيّة، وذلك من خلال كلام يقال تارة بلهجة المسيسيبي في الجنوب الأميركي (هاكلبيري فين مارك تواين)، وطوراً بلهجة مانهاتن في نيويورك (هولدن كولفيلد سالينجر).


وقد بدت تلك التجارب الأميركيّة باستمرار تجارب حياة يوميّة راهنة، مضادّة للملحميّة والتعقيد والتفلسف الفكري الجاف، مفضية الى تأسيس فعلي لفنّ القصّة القصيرة المكثّفة، وغير الثرثارة.


البداية والاختفاء الطوعي


لم ينشر دجي دي سالينجر رواية أخرى مكتملة غير «ذا كاتشر إن ذا راي». بداياته الأدبيّة بدأت منذ ما قبل الحرب العالميّة الثانية، حيث أخذ ينشر قصصه في مجلّة «ستوري» (Story ) التي كان يرأس تحريرها ويت بورنيت، هذا الأخير الذي التحق سالينجر بأحد دوراته في الكتابة الإبداعيّة.


خلال الفترة التي قضاها دجي دي في الجيش باع قصصه إلى مجلاّت «إسكوير»، «كوليرز»، و«ساترداي إيفنينغ بوست». قصصه في تلك الفترة لم يجمعها أبداً ولم يعاود نشرها، وقد راحت تنتقل وتُتداول بواسطة أشخاص من المعجبين بكتاباته أخذوا ينسخونها ويوزّعونها فيما بينهم. في عام 1948، عندما نشرت مجلّة «ذا نيويوركر» قصّته القصيرة «The Perfect Day for Bananafish» («اليوم المرتجى لسمك الموز»، على ما ترجمها الصديق الراحل بسّام حجّار)، كان جليّاً أنّ كاتباً جديداً، بصوت جديد، قد ظهر. القصّة المذكورة كانت نموذجاً مثالياً لما تتمتّع به شخصيّاته من حساسيّة مفرطة ومن جاذبيّة حاذقة. على أنّ الشخصيّات تلك بدت منذ البداية، متّجهة في مصائرها إلى اعتماد خيارات محيّرة، كأنّ تقدم مثلاً على الانتحار لسبب ما، لن يكون سهلاً على القرّاء اكتشافه.


أعماله في «ذا نيويوركر» أكملت بعد نشره روايته الوحيدة «ذا كاتشر إن ذا راي» عام 1951. وقد أخذ ينشر في المجلّة المذكورة قصصاً متسلسلة أبطالها أفراد «عائلة غلاس»، التي تتألف من مجموعة من الفتيان الحاذقين. الأفراد هؤلاء، في تلك القصص، غدوا أبطالاً لطقوس غامضة، تتعلّق بمعتقدات روحيّة، أخذوا يشرحونها لبعضهم البعض في رسائل توّجت بالعمل الأخير لسالينجر. إنّها قصّة «هابوورث 16، 1924» (Hapworth 16, 1924) التي تألّفت من 25 ألف كلمة. القصّة خصّصت لها «ذا نيويوركر» معظم صفحات عددها الصادر في 19 حزيران 1965، وكان بطلها الطفل المعجزة في عائلة غلاس، سايمور غلاس، البالغ من العمر سبع سنوات، وهو نفسه بطل قصّة «اليوم المرتجى لسمك الموز».


الظهور الثاني ذاك للطفل المعجزة سايمور غلاس في عمل قصصي لسالينجر، أراده الأخير اختتاماً لظهوره هو في النشر كما في الحياة العامة.


على انّه كان قد اعتزل هذه الأخيرة منذ العام 1953، أي بعد عامين من نشره «ذا كاتشر»، منسحباً إلى بلدة صغيرة تُدعى «كورنيش»، بولاية نيوهامبشاير الأميركيّة. باعتزاله ذاك انقطع عن كلّ اللقاءات ورفض كل المقابلات الصحافيّة. الشيء الوحيد الذي عرف عنه في ذلك المنفى، بعد أن نشر آخر قصصه في «ذا نيويوركر، أنّه ظلّ لفترة يتابع قراءة ملحق صحيفة «نيويورك تايمز» يوم الأحد. وفي عام 1973، قرأ في الملحق المذكور قصّة لكاتبة شابة في عمر الثامنة عشرة، تُدعى جويس ماينارد. أغرم بالكاتبة، الطالبة في السنة الإعدادية في جامعة يال، فراسلها ودعاها لزيارته. ردّها كان أن تركت الجامعة وجاءت إليه لتقضي عنده سنة كاملة، سنة اختتمت بخيبة أمل كبيرة للكاتبة الشابة التي نشرت فيما بعد مذكّرات تجربتها مع جي دي سالينجر: «At Home in theWorld».


قرار اعتزاله النشر والحياة العامة والظهور وانزوائه في كورنيش، نيوهامبشاير، حتّى وفاته يوم الأربعاء الماضي عن عمر الواحدة والتسعين، أحيط بتأويلات عدّة، لا يخلو بعضها من الغرابة. الكاتبة المعروفة في «ذا نيويوركر»، ريناتا أدلير، أوردت في كتابها «Gone: The Last Days of The New Yorker»، أن سالينجر بدأ يتجنّب النشر كي يتجنّب إحراج صديقه القريب جدّاً إلى قلبه، ويليام شون، المحرّر الخجول في المجلّة المذكورة. شون ذاك المشهور بخجله، كان يحاول، بحسب أدلير، تجنّب نشر المواضيع التي تقارب الجنس وتتضمّن إيحاءات إليه في مجلّته. وترى أدلير أن كتابات سالينجر التي ألّفها في عزلاته كانت تتضمّن إيحاءات جنسيّة حسّاسة تفوق قدرة شون على التحمّل. فقرّر سالينجر التوقّف عن إرسال ما يكتبه إلى صديقه كي ينشره، وهو لشدّة وفائه رفض النشر في أيّ مكان آخر.


الآن بعد وفاة سالينجر، النجم الأكثر اعتزالاً في تاريخ الأدب الأميركي، الاهتمام ينصبّ على احتمال أن يكون الكاتب قد ترك خلفه تفسيراً يوضح سبب قراره في الانزواء والتنحّي عن النشر طوال 45 عاماً تلت نشره قصّته الأخيرة. أمّا الاهتمام الأكبر بعد موته فيبقى موجّهاً إلى احتمال أن يكون سالينجر، الذي قال مرّة أنّه لا ولن يتوقّف عن الكتابة، قد ترك خلفه دفاتر وأوراقاً سوّدها بحبر عزلته.


عن ملحق نوافذ - جريدة المستقبل