عرض مشاركة واحدة
قديم 08-14-2010, 09:16 PM
المشاركة 13
أحمد صالح
ابن منابر الـبــار

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي تابع
حمل الديك إلى غرفة النوم. وأبدلت هي ثيابها ثم مضت لتشرب ماء من الصالة في الوقت الذي كان به الكولونيل قد انتهي من ملء الساعة وجلس ينتظر إشارة منع التجول ليضبط الساعة.
سألها الكولونيل:
ـ أين كنت؟
ـ 'هنا'، أجابت المرأة. ووضعت الكأس على الخابية دون أن تنظر إلى زوجها وعادت إلى غرفة النوم، وقالت: 'لم يكن أحد يصدق بأنها ستمطر بهذه السرعة'. لم يعلق الكولونيل بشيء. وعندما دقت إشارة منع التجول ضبط الساعة على الحادية عشرة، ثم أغلق الزجاج وأعاد الكرسي إلى وضعه. وجد زوجته تصلي صلاة المساء.
ـ لم تجيبي على سؤالي قال لها الكولونيل.
ـ أي سؤال.
ـ أين كنت؟
فقالت هي:
ـ لقد كنت أتحدث مع الناس. فمنذ زمن طويل لم أخرج إلى الشارع.
علق الكولونيل سرير نومه. وأغلق باب البيت ورش الغرفة بالمبيدات. بعد ذلك وضع المصباح على الأرض واستلقي في السرير. ثم قال بأسي:
ـ إني أفهمك. فأسوأ ما في حالات الشدة هو أنها تجبر المرء على الكذب.
نفثت هي زفرة طويلة، وقالت:
ـ لقد ذهبت إلى الأب أنجل. ذهبت لأطلب منه قرضا مقابل خاتمي الزواج.
ـ وماذا قال لك؟
قال: إن المتاجرة بالأغراض المقدسة، خطيئة.
وتابعت من وراء الكلة: 'منذ يومين حاولت أن أبيع الساعة. ولكن لم يقبل شراءها أحد، لأنهم يبيعون الآن بالتقسيط ساعات حديثة لها أرقام مضيئة، يمكن رؤية الوقت بها في الظلام'. تحقق الكولونيل من أن أربعين سنة من الحياة المشتركة ، ومن الجوع المشترك، والمقاساة المشتركة، لم تكن كافية ليتعرف على زوجته. وأحس بأن شيئا قد شاخ في الحب أيضا.
قالت هي:
ـ ولم يقبل أحد شراء اللوحة. فالجميع تقريبا لديهم نفس اللوحة.. حتى إنني ذهبت إلى منطقة الأتراك.
شعر الكولونيل بالمرارة:
ـ وبهذا أصبح الجميع الآن يعرفون بأننا نموت جوعا.
فقالت المرأة:
ـ لقد تعبت. فأنتم معشر الرجال لا تنتبهون إلى مشاكل البيت. لقد وضعت عدة مرات حجارة في القدر وغليتها كي لا يعرف الجيران بأنه ليس لدينا ما نملأ به القدر.
شعر الكولونيل بالاستفزاز، فقال:
ـ أن هذا الذي فعلته هو المسكنة الحقيقية.
غادرت المرأة الكلة واتجهت نحو السرير المعلق قائلة: 'إني مستعدة لأقضي على التصنع والأوهام في هذا البيت'.. بدأ صوتها يكفهر غضبا: 'لقد طفح كيلي من الصبر والوقار'.
لم يحرك الكولونيل عضلة واحدة في جسده.
وتابعت هي:
ـ عشرون سنة وأنا أنتظر العصافير الملونة التي يعدونك بها بعد كل انتخابات، ومن كل هذا الانتظار بقي لنا ابن ميت.. لا شيء سوي ابن ميت.
قال الكولونيل الذي كان معتادا على هذا النوع من المهاترات:
ـ لقد قمنا بواجبنا.
فردت المرأة:
ـ وهم قاموا بكسب ألف بيزو شهريا في مجلس النواب طوال عشرين سنة. فهذا صديقنا دون ساباس وبيته ذو الطبقتين الذي لا يتسع لأمواله. لقد أتي إلى القرية كبائع أدوية يعلق أفعى حول عنقه.
ـ ولكنه يموت شيئا فشيئا بالسكري قال الكولونيل. فردت المرأة:
ـ وأنت تموت جوعا. كل هذا لتتأكد أن الوقار لا يؤكل.
قطع البرق عليها حديثها، ثم انفجر الرعد في الخارج، ودخل إلى غرفة النوم ومرق إلى ما تحت السرير مثل سيل من الحجارة. قفزت المرأة بحثا عن مسبحتها.
ابتسم الكولونيل وقال:
ـ أن هذا يصيبك لأنك لا تكبحين لسانك. لقد قلت لك دائما أن الرب عضو في حزبنا.
ولكنه في الواقع كان يشعر بالمرارة. بعد لحظات أطفأ المصباح وغرق في التفكير وسط ظلام يشقه البرق. تذكر ماكوندو، لقد انتظر الكولونيل عشر سنوات حتى تتحقق مواثيق ميرلانديا. وفي غيبوبة قيظ الظهيرة رأي قطارا أصفر يصل معفرا بالغبار ومحملا بالرجال والنساء والحيوانات الذين سحق الحر أنفاسهم، وهم مكدسون في كل مكان، وحتى على سطح العربات. تلك الفترة كانت فترة حمي الموز.
وخلال أربع وعشرين ساعة عمروا القرية. عندها قال الكولونيل: 'إني ذاهب، فرائحة الموز تعفن أمعائي' وغادر ماكوندو في قطار العودة، يوم الأربعاء السابع والعشرين من يوليو (تموز) سنة ألف وتسعمائة وست، في الساعة الثانية وثماني عشرة دقيقة بعد الظهر. لقد احتاج لنصف قرن بعدها ليكتشف. انه لم ينعم بدقيقة راحة بعد الاستسلام في نيرلانديا.
فتح عينيه، وقال:
ـ إذن يجب ألا نفكر في الأمر بعد الآن.
ـ ماذا؟
قال الكولونيل:
ـ أعني مسألة الديك.. غدا بالذات سأبيعه إلى صديقي ساباس بمبلغ تسعمائة بيزو.

ما أعظم أن تكون غائبًا حاضر ... على أن تكون حاضرًا غائب