عرض مشاركة واحدة
قديم 08-14-2010, 09:15 PM
المشاركة 12
أحمد صالح
ابن منابر الـبــار

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي تابع
ثبت الفونسو النظارات على أنفه ليتفحص بشكل أفضل حذاء الكولونيل ذا الكعب العالي، ثم قال:
ـ إني أتكلم عن الحذاء. فأنت تلبس حذاء مريعا.
ـ ولكنك تستطيع قول ذلك دون كلمات نابية قال الكولونيل، وعرض عليه نعل الحذاء قائلا:
ـ لقد أصبح عمر هذا الحذاء الفظيع أربعين عاما، وها هو يسمع الآن لأول مرة كلمة نابية.
ـ 'قضي الأمر'، صرخ خيرمان من الداخل في نفس الوقت الذي انطلقت به دقات الساعة. وفي البيت المجاور، ضربت امرأة على الجدار الفاصل، وصرخت:
ـ دعوا هذا الغيتار جانبا، فلم تمض سنة بعد على موت اغوستين.
انفجرت قهقهة عالية.
أنها الساعة.
خرج خيرمان حاملا الساعة الملفوفة، وقال:
ـ لم يكن بها شيء، إذا أردت فسأصطحبك إلى البيت لأعلقها مكانها.
رفض الكولونيل العرض.
ـ بكم أنا مدين لك؟
ـ لا تهتم بهذا أيها الكولونيل، فالديك سيدفع في كانون الثاني (يناير). رد عليه خيرمان وهو يحتل مكانه بين المجموعة.
عندها وجد الكولونيل أن الفرصة مواتية، فقال له:
ـ إني أعرض عليك شيئا.
ـ ما هو؟
ـ أهديك الديك. ثم تفحص الوجوه المحيطة به وقال:
ـ إني أهدي الديك لكم جميعا.
تطلع إليه خيرمان حائرا.
ـ 'لقد أصبحت عجوزا على هذه الأمور'، تابع الكولونيل كلامه وقد هيمنت على صوته صرامة مقنعة.
ـ 'انه مسئولية كبيرة بالنسبة لي. ومنذ أيام وأنا أشعر بأن الحيوان يموت شيئا فشيئا'.
قال ألفونسو:
ـ لا تهتم لهذا أيها الكولونيل، كل ما في الأمر أن الديك يبدل ريشه في هذه الفترة، ولذا فإن منابت الريش تكون ملتهبة.
وقال خيرمان مؤكدا:
ـ في الشهر القادم سيكون في حالة جيدة.
ـ على كل حال أنا لا أريده. قال الكولونيل.
اخترقه خيرمان بنظرات حدقتيه، وقال بإصرار:
ـ تذكر أيها الكولونيل أن الأمر المهم، هو أن تكون أنت من يضع ديك اغوستين في حلبة الصراع يوم المباراة.
فكر الكولونيل بهذا، وقال: 'إني مدرك للأمر. ولهذا السبب احتفظ بالديك حتى الآن'. ضغط على أسنانه وأحس بقوة تجعله يتقدم:
ـ ولكن السيئ في الأمر هو مازال أمامنا ثلاثة شهور. كان خيرمان أول من فهمه، فقال:
ـ إذا لم يكن هناك شيء آخر سوي هذا الأمر فليس من مشكلة.
ثم اقترح حله للمسألة.. ووافق الآخرون. وفي أوائل الليل، عندما دخل إلى البيت واللفافة تحت ذراعه، شعرت امرأته بالإحباط، وسألته:
ـ لا شيء.
ـ لا شيء أجابها الكولونيل، ثم أردف:
ـ ولكن الأمر ليس مهما الآن، فالشباب سيؤمنون الغذاء للديك.
ـ انتظر وسأعيرك مظلة أيها الصديق.
فتح دون ساباس خزانة مركبة في جدار المكتب. وكشف عن محتوياتها المكركبة، منها جزم متلبدة لركوب الخيل، وحلقات ركائب، وأحزمة وسيور جلدية وإناء من الألمنيوم مليء بالمهاميز التي يستخدمها الخيالة. وفي القسم العلوي من الخزانة توجد نصف دزينة من المظلات المعلقة إلى جانب قبعة نسائية.
ـ 'شكرا يا صديقي'. قالها الكولونيل وهو يستند بمرفقيه إلى النافذة، 'أفضل الانتظار حتى يتوقف المطر'.
لم يغلق دون ساباس الخزانة. وجلس وراء المكتب ضمن مجال المروحة الكهربائية. ثم أخرج من الدرج حقنة ملفوفة بالقطن، وأخذ الكولونيل يتأمل أشجار اللوز الرصاصية من خلال المطر. لقد كان مساء مقفرا.
قال:
ـ أن المطر مختلف من خلال هذه النافذة، فهو يبدو كأنه يهطل في قرية أخرى.
ـ المطر هو المطر من أية زاوية نظرت إليه. رد دون ساباس، وهو يضع الحقنة ليغليها على اللوح الزجاجي الذي يغطي المكتب، ثم أردف:
ـ ما هذه القرية سوي براز.
هز الكولونيل كتفيه. وسار إلى وسط المكتب: صالة واسعة بلاطها أخضر وبها قطع موبيليا مغطاة بقماش ألوانه حيوية. وفي طرفه أكياس ملح، وخوابي عسل، وسروج خيل مكومة بفوضى. تابعه دون ساباس بنظرة فارغة تماما.
ـ لو كنت مكانك لما فكرت هكذا قال الكولونيل. جلس مقاطعا ساقيه، وثبت نظرته الهادئة على الرجل المنحني فوق المكتب. كان رجلا قصيرا، ضخما ولكن لحمه مترهل، وفي عينيه حزن ضفدع حديثة الولادة.
قال دون ساباس:
ـ اعرض نفسك على طبيب أيها الصديق. فأنت تبدو جنائزيا بعض الشيء منذ يوم الدفن.
رفع الكولونيل رأسه، وقال:
ـ إنني في حالة جيدة.
انتظر دون ساباس حتى تغلي الحقنة. وقال متأسفا: 'لو إني أستطيع أن أقول هذا! كم أنت محظوظ! فأنت قادر على أكل ركاب نحاسي'. تأمل ظاهر كفه ذات الشعر الغزير والمليئة بالنمش البني. كان يضع خاتما به فص أسود فوق خاتم الزواج.
ـ هذا صحيح قال الكولونيل موافقا.
نادي دون ساباس زوجته من خلال الباب الذي يصل ما بين المكتب وبقية البيت. ثم بدأ بشرح مؤلم للنظام الغذائي الذي يتبعه. تناول زجاجة دواء صغيرة من جيب قميصه ووضع فوق المكتب قرص دواء أبيض بحجم حبة لوبيا، وقال:
ـ انه تعذيب أن أحمل هذا معي في كل مكان أذهب إليه. انه كمن يحمل الموت في جيبه.
اقترب الكولونيل من المكتب. وتفحص قرص الدواء في كف يده إلى أن دعاه دون ساباس لتذوقه. ثم قال له شارحا:
ـ انه لتحلية القهوة. أي، سكر ولكن بدون سكر.
فقال الكولونيل، ولعابه مضمخ بطعم الحلاوة الحزين:
ـ فعلا، انه شيء يشبه قرع الأجراس ولكن دون أجراس. اتكأ دون ساباس على المكتب بمرفقيه ووجهه بين يديه بعد أن زرقته زوجته بالحقنة. لم يعد الكولونيل يعرف ما يفعله بجسده. أطفأت المروحة الكهربائية، ووضعتها فوق الصندوق المصفح ثم اتجهت نحو الخزانة قائلة:
ـ أن للمظلات علاقة ما بالموت.
لم يعرها الكولونيل اهتماما. كان قد خرج من بيته في الساعة الرابعة وغرضه انتظار البريد، ولكن المطر اضطره إلى أن يلتجىء إلى مكتب دون ساباس. وعندما صفرت المراكب كان المطر ما يزال يهطل.
ـ 'الجميع يقولون بأن الموت هو امرأة'، تابعت المرأة حديثها. لقد كانت بدينة وأطول من زوجها، ولها تؤلول مغطي بالشعر على شفتها العليا. تذكر طريقتها في الحديث بأزيز المروحة الكهربائية. 'ولكني لا أعتقد بأنه امرأة'، قالت. ثم أغلقت الخزانة والتفتت وكأنها تستشير عيني الكولونيل:
ـ إني اعتقد بأن الموت هو حيوان بأظلاف.
فقال لها الكولونيل موافقا:
ـ ربما. فأحيانا تحدث أمور غريبة جدا.
فكر بموظف البريد وتخيله وهو يقفز إلى المركب مرتديا ممطرا من المشمع. لقد انقضي شهر على استبداله المحامي. وله الحق الآن بانتظار الرد. وتابعت زوجة دون ساباس الحديث عن الموت إلى أن انتبهت لتعابير الذهول التي تلف الكولونيل. فقالت:
ـ لابد أن هنالك ما يشغل تفكيرك أيها الصديق.
استعاد الكولونيل وعيه، وقال كاذبا:
ـ أجل أيتها الصديقة. إني أفكر بأن الساعة قد تجاوزت الخامسة ولم أعط الحقنة للديك بعد.
وقفت مشدوهة، ثم هتفت:
ـ حقنة لديك وكأنه كائن بشري. أن هذا دنس.
لم يعد بامكان دون ساباس احتمالها. فرفع وجهه المحتقن، وأمر زوجته:
ـ أغلقي فمك للحظة.
وفعلا رفعت يديها إلى فهمها. فتابع هو:
ـ منذ نصف ساعة وأنت تزعجين صديقي بحماقاتك.
ـ لا، أبدا قال الكولونيل معترضا.
صفقت المرأة الباب. وجفف دون ساباس رقبته بمنديل مضمخ بالخزامى.
اقترب الكولونيل من النافذة. كان المطر يهطل دون توقف. ودجاجة لها قوائم صفراء طويلة تعبر الساحة المقفرة.
ـ هل صحيح أنكم تحقنون الديك؟
ـ أجل صحيح. فالتمرينات ستبدأ في الأسبوع القادم قال الكولونيل.
فقال دون ساباس:
ـ أن هذا تهور. فأنت لست مهيئا لهذه الأعمال.
قال الكولونيل:
ـ أجل، ولكن هذا ليس سببا للوي عنق الديك.
ـ 'أنها مجازفة حمقاء' قال دون ساباس وهو يتجه إلى النافذة. أخذ الكولونيل نفسا ككير حداد. وعينا صديقه جعلته يشعر بالشفقة على نفسه.
قال دون ساباس:
ـ خذ نصيحتي أيها الصديق. خير لك أن تبيع هذا الديك قبل أن يصبح الوقت متأخرا.
ـ ليس ثمة ما يؤسف عليه أبدا.
فقال دون ساباس بإصرار:
ـ لا تكن واهما. أن هذا الديك صفقة بحدين: فمن ناحية سترفع عن كاهلك وجع الرأس، ومن ناحية أخرى ستضع في جيبك مبلغ تسعمائة بيزو.
ـ تسعمائة بيزو هتف الكولونيل.
ـ أجل، تسعمائة بيزو.
ـ أتعتقد بأنهم يدفعون هذا الثمن مقابل الديك؟
أجابه دون ساباس:
ـ ليس الأمر اعتقادا. إني متأكد من هذا.
كان هذا الرقم هو أعلى رقم دخل رأس الكولونيل منذ سلم ميزانية الثورة. وعندما خرج من مكتب دون ساباس أحس بأحشائه تتلوي، ولكنه كان على يقين هذه المرة بأن الألم لم يكن بسبب الطقس. وفي مكتب البريد اتجه مباشرة إلى الموظف، وقال:
ـ إني انتظر رسالة مستعجلة. ستصل بالطائرة.
بحث الموظف في الكوى المصنفة وعندما انتهي من القراءة وضع الرسائل حسب الحروف المطابقة لها ولكنه لم يقل شيئا. نفض راحتيه ووجه إلى الكولونيل نظرة ذات مغزى.
ـ كان يجب أن تصلني اليوم بكل تأكيد قال الكولونيل.
هز الموظف كتفيه. وقال
ـ الشيء الوحيد الذي يصل بكل تأكيد هو الموت أيها الكولونيل.
استقبلته زوجته بطبق من عصيدة 'ماثامورا' الذرة. أكله صامتا، وكان يتوقف طويلا ليفكر ما بين ملعقة وأخرى. خمنت امرأته التي كانت تجلس مقابله بأن ثمة أمرا قد تغير في البيت، فسألته:
ـ ماذا جري لك؟
قال الكولونيل كاذبا:
ـ إني أفكر بالموظف المسئول عن التقاعد. فخلال خمسين عاما سنكون تحت التراب مطمئنين. بينما هذا الرجل المسكين سيحتضر كل يوم جمعة وهو ينتظر راتبه التقاعدي.
ـ 'أنها بادرة سيئة.. فهذا يعني انك بدأت تخضع للقدر'. قالت المرأة، وتابعت تناول العصيدة. ولكنها انتبهت بعد برهة إلى أن زوجها مازال غائبا.
ـ أن ما عليك عمله الآن هو أن تلتهم هذه العصيدة. فقال الكولونيل:
ـ أنها لذيذة جدا. من أين طلعت بها؟
أجابت المرأة:
ـ من الديك. فقد أحضر له الشبان كثيرا من الذرة، وقرر هو أن يقاسمنا إياها.. هكذا هي الحياة.
تنهد الكولونيل:
ـ نعم هكذا. أن الحياة هي أفضل شيء تم اختراعه.
نظر إلى الديك المربوط بدعامة الموقد وبدا له هذه المرة حيوانا مختلفا. ونظرت المرأة إليه أيضا، وقالت:
ـ هذا المساء اضطررت لإخراج الصبيان بالعصا. فقد أحضروا دجاجة هرمة ليجامعوها مع الديك.
قال الكولونيل:
ـ ليست المرة الأولي التي يحدث هذا. فهكذا كانوا يفعلون في القرى مع الكولونيل أوربليانو بوينديا. إذا كانوا يحضرون له الصبايا ليضاجعهن.
أعجبت هي بالمقارنة الطريفة. وأصدر الديك صوتا من حلقه وصل إلى الممر كصوت إنساني مكتوم. ـ 'أحس أحيانا وكأن هذا الحيوان سينطلق متكلما' قالت المرأة. وعاد الكولونيل لينظر إليه، وقال:
ـ انه ديك حاك وصائح.
ثم أجري بذهنه عمليات حسابية بينما كان يتناول ملعقة من العصيدة، وقال:
ـ انه يكفي لإطعامنا ثلاث سنوات.
ـ الأحلام لا تؤكل قالت المرأة.
ـ لا تؤكل، ولكنها تغذي رد الكولونيل، ثم تابع: أنها شبيهة بعض الشيء بالحبوب العجيبة التي يتناولها صديقي دون ساباس.
نام نوما سيئا هذه الليلة وهو يحاول أن يمحو أرقاما من رأسه. في اليوم التالي عند الغداء قدمت المرأة صحنين من عصيدة الذرة، والتهمت طبقها ورأسها منحنيا، دون أن تتلفظ بكلمة واحدة. أحس الكولونيل وكأنه مصاب بعدوي تعكر المزاج.
ـ بماذا تفكرين؟
ـ لا شيء قالت المرأة.
سيطر عليه انطباع بأن دور زوجته في الكذب قد جاء هذه المرة. حاول أن يجرها للكلام. ولكن المرأة أصرت:
ـ لست أفكر بشيء غريب. إني أفكر بأن قرابة شهرين قد انقضيا على رحيل الميت ولم أذهب لأعزي حتى الآن.
وهكذا ذهبت لتقديم العزاء هذه الليلة. اصطحبها الكولونيل حتى بيت الميت ثم توجه إلى صالة السينما تجذبه الموسيقي المنبعثة من مكبرات الصوت. كان الأب أنخل يجلس على باب مكتبه مراقبا مدخل السينما ليعرف الذين يحضرون العرض بالرغم من تحذيراته الإثني عشر. تموجات الضوء، والموسيقي الصاخبة وصرخات الأطفال فرضت مقاومة طبيعية في الحي. هدد أحد الأطفال الكولونيل ببندقية خشبية وقال له بصوت متسلط فوقي:
ـ ما هي أخبار الديك أيها الكولونيل.
رفع الكولونيل يديه.
ـ ها هو الديك.
كان ثمة ملصق بأربعة ألوان يحتل واجهة الصالة بكاملها كتب عليها (عذراء منتصف الليل). وعليه رسم امرأة ترتدي ملابس الرقص وإحدى ساقيها عارية حتى الفخذ. تابع الكولونيل التسكع في المكان إلى أن انفجرت رعود وبروق بعيدة. وعندما عاد إلى حيث ذهبت زوجته، لم يجدها في بيت الميت، ولا في بيتها وقدر الكولونيل بأنه لم يبق وقت قصير على بدء منع التجول، ولكن الساعة كانت متوقفة، انتظر، وهو يشعر بالعاصفة تقترب من القرية. وعندما تأهب ليخرج من جديد دخلت زوجته إلى البيت.

ما أعظم أن تكون غائبًا حاضر ... على أن تكون حاضرًا غائب