عرض مشاركة واحدة
قديم 07-01-2012, 01:00 PM
المشاركة 28
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
قراءة المستقبل في شعر البردوني


عن الموقع الإخباري اليومي : سبتمبر نت.
بقلم رئيس التحرير : بحيى عبدالله السلقدي

صحيفة 26سبتمبر
عاش البردوني صدراً مفتوحاً لكل الناس لم يغلق في وجه أحد
تنبؤات البردوني تندرج تحت بند الاستقراء مع شيء من رهافة الإحساس وشفافية الروح
> لقد ظل القلق والخوف من المستقبل ملازماً لحياة الامة العربية والاسلامية منذ ان قطع التمزق والتشرذم أوصالها وأصابها تسلل الوهن والجهل الى مكامن القوة من كيانها ومن ثم جادت قرائح مبدعيها بكل صور الثبات وأوغلو في قراءة الكف الزمني حتى خيل للمتتبع أساليب تنبؤاتهم أن الأمة قابعة في كهوف الظلام الدامس لا تعي ولا تسمع لذلك ظل المبدعون يدقون نواقيس الخطر ويحذرون من القادم المخيف لكن صرخاتهم وتحذيراتهم ذهبت سدىً وكانوا كمن يحرث في البحر ويبني قصوراً في الهواء حتى إذا ما هبت العاصفة جاء من يقول لقد قال لنا فلان ان هذا سيحدث فما أدراه؟!
لينهض المعنى بين انقاض الخرائب الآدمية بعد فوات الأوان ليعزي الأمة في مصابها الذي هي فيه وفي عدم تفاعلها من التحذير والإنذار المبكر الآتي من ثنايا الأفق للمبدع عبر تجليات الإحساس المرهف.
وها نحن اليوم نستخرج من تحت ركام الثورة العربية معاني كان حقها ان تدرك مبكراً وتستوعب وتبني على أثرها خطط المستقبل لكن طغيان الهواء الاستبدادي مستمر في طغيانه، مفتوناً بثناء الخانعين عليه واستعطافهم لجنابه حتى إذا ما قادنا الطغيان إلى الغرق هلك الجميع دون استثناء.
أ/ علي حسن وهبان
لقد كانت هزيمة 1967م نقطة تحول في القصيدة العربية حتى وجدنا نزار قباني يترك مغازلة ومداعبة الخدود والنهود والشفاة النسائية ويطالع الساحة بقصيدته الشهيرة هوامش على دفتر النكسة التي بدأها بنعي اللغة القديمة والكتب القديمة وأساليب الحياة السائدة ليلاقي من العنت والانتقاد ما كان المفترض ان يوجه الى المتسببين في النكسة.
إن الداخل الى بساتين البردوني يجد نفسه بين مروج الإبداع الانساني وحدائق الوجدان الفني محاطاً بنجوم الشعر وآلهة الجمال وأنوار الروح المشرقة بقبسات الإلهام المحلق في سماء الخيال الملائكي فلا يساعفه التمني إلا أن يكون نحلة ترتشف من رحيق الأزاهير البردونية ما يكفيها لتعود الى الخلية موفورة الحظ فتبتكر الشهد من الزهر والعسل من الرحيق شراباً سائغاً فيه شفاء للناس ولا تهتم بعد ذلك بمن سيكون آكله أو المستفيد منه وتظل المروج زاهرة ويظل الزهر ندياً جواداً بالرحيق العذب مهما كثرت النحل الواردة اليه وتعددت مناحلها ووجهاتها ولم يسمع الناس بزهرة تسأل نحلة من أين أنت وما مذهبك ولماذا تأخذين رحيقي؟ وإلى أين تسوقينه؟ وماذا تفعلين به؟ الى آخر الاسئلة التي تلازم البشر دون سواهم غير أننا قد نجد نحلة تقاتل نحلة اخرى إذ أن الصراع بين الآخذين ناموس من نواميس وجود الجنس الواحد للكائن الحيواني باعتبار التنافس أصل الابداع والتطور.
ولقد عاش البردوني صدراً مفتوحاً لكل الناس لم يغلق في وجه احد وقد خلف الباب مفتوحاً الى قلبه البشري النابض بحب الآدمية السوية والحياة الطاهرة النقية تاركاً ثروة لا تقدر بثمن مشاعة لمن شاء من بني الانسان الاستفادة والإفادة منها او التمتع بجمالها لأنه كان يعتبر الجمال ملكاً للجميع لا فرق بين إنسان وآخر الا بمقدار القدرة على اكتشاف الاجمل، فالأجمل والترقي في معارج الاكتشاف والاستكشاف وها أنا واحد من الوافدين الى جنة البردوني الوارفة مشتاقاً الى التمر واللبن والى استراحة العاشق في جمال معشوقه.
لست اكاديمياً وما كان البردوني كذلك لذلك أطلقت لسجيتي العنان كما علمني استاذي البردوني وتركت مناهج الدارسين رغبة في البقاء على الفطرة التي لازمت الشاعر الفطري عبدالله البردوني.
قال الاستاذ خالد عبدالله الرويشان في مقدمة ديوان البردوني (الأعمال الشعرية الكاملة) لم يكن البردوني مجرد عابر سبيل في حياتناولن يكون أوبالنسبة لليمن فإنه شاعر كل العصور إنه شاعر الألف عام الماضية على الأقل وأحسب أن زمناً طويلاً سيمر قبل أن تعرف اليمن شاعراً آخر يمكن ان يرتقي هذه الذرى التي حلق البردوني في اجوائها وقد كانت ذرىً صعبة مستحيلة على المستويين الابداعي والانساني وإنما يحزن حقاً أن الضوء لم يلق بما فيه الكفاية على تجربته الإبداعية والاكثر مدعاة للحزن أن الاهتمام ينصب في العادة وفي اليمن على وجه التحديد على تأويلات مباشرة وربما لأبيات ومواقف او حتى لرأي عابر في ظرف عابر، وأقول للسيد الوزير هذه هي عظمة الابداع البردونية، وقال الدكتور عبدالعزيز المقالح في تقديمه لأحد الدواوين هل تستطيع الساقية أن تقدم النهر وهل يستطيع النهر أن يقدم البحر.
وأنا إنما أردت الخوض في هذا البحر الخضم فهو البحر بكل ما تعنيه الكلمة وقد قال عن نفسه ذلك:
وحدي نعم كالبحر وحدي *** مني ولي جزري ومدي
وحدي وآلاف الرؤى فوقي *** وكل الدهر عنــــــــــــــــدي
لست إذاً بصدد التعريف بالبردوني ومن اكون حتى انتحل ما عجز عنه المقالح وغيره؟ كل ما أردته هو نيل وسام شرف الكتابة الأدبية من خلال هذا البحر والدخول خلسة الى الحدائق الوارفة في غفلة الرقباء لعلي أحصل على جائزة ثمينة من ملك البحر وسيد الحدائق.
ولم أعد الى مراجع كثيرة وإنما اكتفيت بما لديَّ من تراث البردوني وأطلقت ذائقتي البسيطة في فهم النصوص لأصل الى غرضي من قراءة المستقبل في شعر البردوني.
لكي نحدد ما هية التنبؤات المستقبلية في شعر البردوني علينا أولاً البحث عن فلسفة الشاعر نفسه ومعرفة ينابيع ثقافته ومصادر معرفته ومدى علاقته بالقوى الميتافيزيقية لأن الذين يتنبأون بالمستقبل لابد ان يتمتعوا بقوى روحية تخترق العادات وتتجاوز حدود المعقول الزمني الملازم للحظة التنبؤ ويكون التنبؤ أو النبوة كذلك لسببين الاول أن يكون صاحبها قد وهب من الإدراك ما لم توهب لأبناء جنسه في مختلف الأزمنة والعصور، والثاني أن يكون عالماً فاهماً مطلعاً ومن حوله خلاف ذلك فيرون في توقعاته المنطقة نبوة وليست كذلك، أما بالنسبة للشاعر فإن حظه من التنبؤات هي التي جعلت العرب ينسبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الى الشعر فرد عليهم الله جل وعلا في كثير من سور القرآن أنه ليس كذلك وحتى سميت احدى سور القرآن سورة الشعراء.
ذلك ان شفافية الروح ورقة العاطفة وسمو المشاعر ترتقي بصاحبها الى معارف عليا مما يجعلها خارج إطار القدرة الجسدية للفهم والاستيعاب وبذلك سمي أبو الطيب (بالمتنبي) ليس لما قيل من انه أدعى النبوة، ولكن لأن في شعره تنبؤات مستقبلية والمتنبين بالاحداث المستقبلية كثيرون كالمنجمين والبعض من المتصوفة وأهل العرفان والزاعمين الاتصال بالجن والمتمكنين من معرفة جوهر الأعداد وهناك اصحاب البصر الخارق والبصيرة الخارقة والفكر الخارق وهناك في العصر الحديث النبواءات الاستخباراتية التي تمهد لأغراض سياسية معينة وتجعلها مقبولة للعوام والخواص وخلاصة القول في هذا الموضوع من وجهة نظري الآتي:
1- إنما نجهله نحن ويعلمه واحد او اكثر من واحد من بني البشر ثم يثبت وجوده فيما بعد قد كان موجوداً غير مدرك للإدراك العادي.
2- أن طبيعة الابداع الانساني باحثة عن الجوهر ومبتكرة لوجود موجودات لم تكن ظاهرة للعيان ولا سهلة المنال.
3- ان التفكر في الاسباب والنتائج بتجرد وحرية تمكن صاحبها من الإخبار عن نتيجة عمل ما (قبل حصولها).
4- إن التحليق بأجنحة الخيال سياحة تفضي عن الإحساس شفافية الشعور بالحدث قبل وقوعه.
5- هناك فرق بين التنبؤ والنبوءة من حيث المعنى وإن كان الاشتقاق واحداً.
6- كلمة نبوءة لا تمس جوهر الدين الا حين تتعارض مع ما جاء به الدين كأن تحلل حراماً او تحرم حلالاً أو تنفي أمراً واضحاً من الدين.
7- هناك فرق بين الإلهام والإيحاء بين تلقي الوحي مباشرة من السماء او عن الملائكة الذي هو خاص بالانبياء والمرسلين ولا حظ لغيرهم فيه.
8- إن السياسة قد تضفي على التوقعات او التنبؤات حالة توصلها الى مرتبة القداسة لخدمة مصالح قوى معينة وكثيراً ما تقوم بذلك اجهزة الاستخبارات وتروج له عبر وسائل الاعلام أو من خلال كتيبات الفلكيين والمنجمين والعرافين.
9- إن تنبؤات البردوني تندرج تحت بند الاستقراء مع شيء من رهافة الاحساس وشفافية الروح والأهم عندي من التسمية يكمن في التنبه الى ما قلته في أكثر من موضع في هذه الورقة من أن البردوني كان حاد البصيرة، ينظر الى المستقبل من خلال التاريخ بأزمنته الماضي، والحاضر، والمستقبل، ويقارن مقارنة فكرية بين الفعل المستمر ونتائجه والزرع وثمرته ويشارك الآتي مشاركة وجدانية تحقق له معايشة الحدث نفسه او رؤيته رأي العين وإن الغالب على قراءة المستقبل في شعر البردوني التصوير الواقعي للحدث، إلا أن ذلك لا يمنع من عدم إتيان بعض القراءات او التنبؤات كفلق الصبح لأن البردوني بشر أولاً وأخيراً وقد يأتي من يستغل نص ما في زمن ما وفق هواه ليحقق غرضاً ما في نفسه وتحديد قراءة البردوني في المستقبل تعود الى البردوني نفسه وعبقريته الابادعية وحقيقته الروحية إذ إن البساطة في حد ذاتها رياضة روحية والعبقرية نبوغ فكري معرفي يحدث مفارقات كثيرة بين الانسان وعصره وثقافة البردوني المعرفية تشتمل على كل الاتجاهات الفكرية والتوجهات الماورائية والمذاهب الفلسفية والعرفانية عقيدته الدينية هي العقيدة التي ترفع الانسان الى درجة الملائكة إضافة الى فقدانه للبصر والتعويض عنه بالبصيرة على اننا نجازف لو اغفلنا السائد في المجتمع العربي عامة واليمني خاصة من التمسك بالتنبؤات المستقبلية وما تعكسه على شخصية الابداع الادبي والانساني على مر العصور يقول في ديوان (زمن بلا نوعية) في قصيدة بعنوان (الحقل العقيم):
قيل جاءوا وغيرهم جاء حينا*** جد شيء فما الذي جد فينا
السراب القديم صار جديداً*** الخواء البديد أمسى مشينا
الجــــــلود التي عليــــــنا طـلاء*** كاذب يركب الفراق الحزينا
إلى أن يقول:
أي فرق مــــــا بين ذاك وهــــــــــــذا*** ذا هزيل وذاك يبدو سمينا
والذي كان كالذي أمتد منـــــــــــه *** نزع الورد شـــــوكه يجتثينا
كيف شئنا زهراً فأعشب شوكاً*** كأن فينا غش البذور دفينا
ويقول في قصيدة أغنيات المغني عام 1977م مخاطباً أم كلثوم:
ألا تنـــــظرين زحوف الصــــليب*** أتوا ثانياً كإنقضاض السباع
يسوسون من نصبوهم رؤوساً*** يدوسون من لقــــــبوهم رعـــاع
هي الخطوة الخطوة استوطنت*** الى الداخل اجتازت المستطاع
فحلت عن الخط أعلى القصور*** ومــددت على كل شبرين بـــاع
ولايترك اليأس يفعل فينا ما يشاء فسرعان مايقفز بنا قفزة واحدة بتساءلاته يقول في نفس القصيدة:
أكل النجوم أنطفأت ربما*** تنحت لأخرى أجد التـماع
فما بين ظاهر هذا الرماد*** وبين طواياه أعلى نـــــــزاع
أما تحت كل خمود بريق*** يدل على مبعث الإندفاع
إن البردوني كاللغوي الذي أدرك المبتدأ ويبحث عن خبره في جمل الاحداث واسمائها وظروفها ثم رحل عن الدنيا وفي قلبه شيء من حتى ولم يرحل الا وقد امطر السين وسوف بأوفر ما في التنبؤات الشعرية من وقائع واحداث يستقبلها المضارع المستمر الى ما شاء الله.
وفي المحاضرة أوراق أخرى مازالت تحت الطبع.
قد لا استطيع تحديد بداية معينة للبردوني في قراءة الكف الزمني او التنبؤ بما سيحدث في الآتي من الزمان ، فالزمان عند البردوني حركة ثورية مستمرة باعتبارها اللفظي والمعنوي ومرد ذلك بتصوري يعود الى ثقافة البردوني الدينية وفهمه لما تحتويه الافعال الثلاثة من الإيحاء الدلالي الذي يمنح المعاني حركة مستمرة وأمثال ذلك في كتاب الله أكثر من ان تحصى ، وعلى سبيل المثال نجد الامر المستمر في قوله تعالى «قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس ، وقل يأيها الكافرون، وقل لعبادي» ومما يجمع الامر مع المضارع (قل لا يعبأ بكم ربي)، وكثير هو هذا الضرب من الافعال.
وأما للماضي فمثل قوله «خلق كل شيء وقدره تقديراً» وقوله «خلق الإنسان علمه البيان» أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين، وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم»، أما السين وسوف فقد أضفيتا الى المضارع لزيادة الاستقبال وبذلك يصبح المضارع الاكثر استمرارية واستقبالاً للأزمنة ومن ذلك قوله تعالى «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم » وقوله «ولسوف يعطيك ربك فترضى» وحتى لا أخوض فيما ليس لي به علم أكتفي بالإشارة العابرة حتى أصل الى غرضي من كيفية فهم قراءة المستقبل عند الشاعر البردوني.
ربما أن تحديد البداية متعذر على اللحظة على الاقل ومع تعذره فلابد لي من الاخذ بطرف الموضوع وتحديداً أبدأ من قصيدة بعنوان (عتاب ووعيد) والتي يرجع تاريخها الى 1/ جماد الآخر سنة 1380هـ إذ نجد ان تاريخ هذه القصيدة أقدم من القصيدة التي أخذت المكان الاشهر بين قصائد ديوانه (في طريق الفجر) ونجد فيها قراءة للمستقبل توحي بأن الثورة على وشك القيام.. يقول البردوني:
غداً سوف تعرفني من أنـــــــــــــا*** ويسلبك النبل من نــــــــبـــــلك
ففي أضلعي في دمي غضبة*** إذا عصفت أطفأت مشعلك
غداً تلعنك الذكريــــــــــــات*** ويلعن ماضيك مستقـبـــــــــلك
ويرتد آخرك المستكــــــــين*** بآثامه يزدري أولــــــــــــــــــــــــــك
ويستفسر الآثم أين الأثيـــــم*** وكيف انتهى؟ أي درب سلك
غداً لا تقل تبت لا تعتــــــــذر*** تحسر وكفن هنا مأمـــــــــــــــلك
ولا لا تقل أين مني غـــــــــداً*** فلم لم تسمر يداك الفــــــــــــلك
غداً لن أصفق لركب الظلام *** سأهتف يا فجر ما أجمـــــــــلك
هذا الفجر هو الذي تغنى به بعد سنة واحدة في قصيدته التي اخذت عنوان الديوان (في طريق الفجر):
أسفر الفجر فانهضي ياصديقة*** نقتطف سحره وفيض بريقه
كم حننا اليــــه وهو شجونـــا*** في حنايا الظلام حيرى غريقه
وتباشيره خيـــــــــالات كــــأس*** في شفاه الرؤى ونجوى عميقة
وظــــمئنا اليــــــــه وهو حنـين*** ظامئ يرعش الخفوق شهيـقه
وليس مهماً الآن تحديد بداية التنبؤ أو قراءة الكف الزمني في شعر البردوني إنما المهم حقاً أن نقف طويلاً على قدرة البردوني على القفز فوق اسوار الزمان ومعايشته الآتي لعشرات السنين وأظن أن أكثر القصائد شهرة في الوقت الحالي وأصدق صورة صورتها قراءة البردوني الوجدانية للمستقبل هي قصيدة (أبو تمام عروبة اليوم) قد تجاوز عمرها الثلاثين عاماً منذ إلقائه لها في أرض الرافدين عام 1971م.
إن في هذه القصيدة من الاكتشاف المستقبلي الحدثي ما جعلها اليوم اغنية الشارع العربي من المحيط الى الخليج حتى ان الانسان يقف حائراً أمام هذا الاعجاز البلاغي المحمول على أجنحة الرؤيا البعيدة لأحداث ما وراء الزمن لعشرات السنوات، بل ان التوافق العجيب بين الالفاظ والشعارات التي استخدمت في الحرب على العراق من قبل المهاجم والمدافع يجعل الفكر بين أمرين:
الاول أن يجزم بأن البردوني عاش الحدث كما هو قبل حدوثه.
والثاني: أن يكون الفريقان المتحاربان قد اتفقا على الأخذ (بالعبارات البردونية) مثل قوله:
اليوم عادت علوج الروم فاتحة وموطن العرب المسلوب والسلب
فكلمة علوج استخدمها وزير الاعلام العراقي (محمد سعيد الصحاف) وكلمة فتح وتحرير استخدمتها قوات الحلفاء او المعتدين على الأرض العربية والعجيب أن يكون موطن إلقاء القصيدة هو المستهدف.
وبالعودة الى النص يتضح لنا دقة في التصوير ولنعيد ما حدث في العراق من خلال النص صورة صورة وحدثاً بحدث وموقفاً بموقف ليتضح لنا بجلاء ما في شعر الراحل (عبدالله البردوني) من قراءة مستقبلية، فالقصيدة والعودة اليها ستحقق العائد اليها صورة المأساة كاملة في رحلة درامية شعرية فريدة ومتجددة يخاطب فيها البطل ماضي أمته العربية العريقة عن طريق مخاطبة الشاعر الأكثر شهرة في ذلك الماضي المجيد ويخوض اليه البحر الذي خاضه شاعر الرشيد (ابو تمام حبيب ابن فراس الطائي) ثم مايلبث الا لحظات حتى يعاجل الماضي بوصف الحاضر المزري وكأن الماضي هو السائل عن الحال.
ماذا جرى يا أبا تمام تسـألني
عفواً سأروي ولا تسأل ماالســبب
يدمي السؤال حياء حين نسأله
كيف احتفت بالعدا حيفا او النقب
عروبة اليوم أخرى لا ينــم على
وجودها اسم ولا لــــــون ولا لقـــــب
ومن أروع صور البلاغة في قراءة المستقبل في هذه القصيدة أنه يحدث الماضي بالحاضر ولا يفصل بين الحاضر والمستقبل كأن الحدث الآتي قد وقع فعلاً
اليوم عادت علوج الروم فاتحة
وموطن العرب المسلوب والسلب
وليس الامر عجيباً فهذا البيت مسبوق بسببه.
من ذا يلبي أمام إصرار معتصم
كلا وأخزى من الأفشين ما صلبوا
وبعد هذه النتيجة الحتمية يصور الموقف العربي برمته أدق تصوير.
ماذا فعلنا غضبنا كالرجال ولم
نصدق وقد صدق التنجيم والكتب
وبإمكان من اراد تتبع قراءة المستقبل في شعر البردوني ومقارنة التنبؤات البردونية بالواقع الذي اعقب ولادة القصيدة أن يرجع إلى دواوينه فمعظم القصائد تحمل هذا النوع بأسلوب واضح ومباشر كما هو في القصائد التالية:
1- عتاب ووعيد.
2- أسمار أم ميمون
3- أبو تمام وعروبة اليوم.
4- أولاد عرفجة الغبشي.
5- يقظة الصحراء.
6- أغنيات في انتظار المغني.
7- وفي رجعة الحكيم.
8- صنعاء والموت والميلاد.
ابن زايد وهو من اشعار التسعينات، نستطيع استخلاص فلسفة البردوني في قراءة الازمنة الثلاثة وبالعودة الى الديوان تتجلى عبقرية البردوني وشفافيته واستطاعته القفز على أسوار الزمن، وليعذرني الجميع إذا لم استطع أن أفي الموضوع حقه.
وأخيراً أجد نفسي حاولت ان استخرج مقتطفات تدل على شفافية القراءة البردونية للأزمنة الثلاثة (الماضي، الحاضر، المستقبل)، ومن أراد المزيد عليه بالرجوع الى دواونه فإنها مليئة بكل ما لذ وطاب، وليعذرني الجميع في قصوري عن بلوغ المرام