عرض مشاركة واحدة
قديم 01-05-2015, 12:54 PM
المشاركة 18
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
خاتمة

وقفت مشدوهاً اتأمل اللوحة الدموية التي رسمتها بنفسي في قلب بيت علوش الطيني .. الدم وشظايا الجمجمة ورقائق المخ البيضاء تلطخ الجدار الطيني وراء علوش .. علوش الذي كان منذ ثوان يتأملني في تلذذ ..
الأن جاء دوري كي اتلذذ ولأول مرة في حياتي بقتل إنسان
صحيح أن علوش لم يكن إنساناً لكنه يبدو كذلك وهو ميت ..
جثة تعسة فقدت عينها اليمنى مقابل صفقة مع الأسياد وفقدت اليسرى بطلقة من مسدس خادم أخر من خدامهم ..دجال أخر وإن كان من نوع خاص ..
الأن لقى المجرم الاول عقابه ..وحان وقت عقاب المجرم الأخر
الذي يستحق القتل عشرات المرات ..
هنا لمحته .. بالفعل لم يكن له ظل وهو يعبر الباب المهشم ويتجه حثيثاً إلى حيث جثة علوش ..لقد حكى لي الأخير مشهداً مماثلاً يوم عقد الصفقة مع الأسياد .. الكلب الأسود الذي يلغ في دم الأضحية التي يتقرب بها للأسياد ..ترى هل قرر الأسياد اعتبار دم علوش مقدم لصفقة جديدة .. معي ..
ولما لا .. إن الإغراء يبدو شديداً ..ذلك العالم المجهول الذي
يفتح أبوابه أمامك لتدخل ..
- لكنك تملك خيار الرفض كذلك ..
التفت لمصدر الصوت .. كان ماركس يستند إلى الجدار في لامبالاة وهو يستطرد :
- ضغطة واحدة على الزناد وتتحرر من كل القيود ..
نعم ..ربما حان الوقت لقطع الصلة بينك وبين الأسياد .. وللأبد ..
ملمس الفوهة الساخنة التي يفوح منها رائحة البارود بدت وكأنها لمسة الموت ذاتها .. أغمضت عيناي ..
مداعبة يسيرة للزناد وتغادر ذلك العالم الغامض ..
لكن إلى أين ..؟ ربما لعالم أشد غموضاً ورهبة .. و..
وتذكرت ..
كانت أمي تنهرني إذا أكلت بالشمال وتخبرني أن ذلك فعل الشيطان ..
وإذا كذبت تنهرني وتخبرني أن ذلك من وسوسة الشيطان ..
وأن علي ألا استجيب لنداءات الشيطان التي يبثها في روحي فهو يجري في عروقي مجرى الدم .. وإلا صرت من حزبه وفريقه المخلد في النيران ..
وعلى أن استجيب لنازع الخير ..الملاك الذي يرشدني إلى الخير كي أصير من أهله..
وصرخت موقفاً تداعي سيل الذكريات :
- لا ...
لقد اختفى الكلب الأسود اللعين ..لكن كارل ماركس ظل واقفاً مستنداً للجدار بلامبالاة .. لو كانت النظرات تحرق لتحول ماركس إلى رماد الأن..
- لن أطيعكم ..
بالفعل كانوا هم المستفيدين في كلتا الحالتين .. إما أن أكون عبداً لهم وإما منتحراً هالكاً في سقر..
قال ماركس :
- لقد انذرتك منذ البداية ..لكنك ركبت رأسك ودمرت كل شئ ..
همست من بين أسناني :
- كنت شيطاني منذ البداية وأنا الذي حسبتك ملهمي ..
ابتسم في تواضع قائلاً :
- كنت ملهمك بالفعل ..ومازلت ..
جذبت نفس عميق وأنا أنظر إليه في غل ..
- لا ..
كان علي أن أخيب ظنه وأخالف وساوسه .. ولو لمرة واحدة..
وتناولت موقد الكيروسين ..
- ماذا تظن نفسك فاعلاً ؟..
تجاهلته وقمت بإفراغ الموقد على كل شئ تقريباً في ذلك البيت الشيطاني الكريه ..
- أنت تدمر اليوتوبيا ..
التفت إليه ممسكاً بعود ثقاب مشتعل وقلت ببرود :
- نعم ...
هل هذه أصوات صرخات ..؟ لن أرتجف .. هل هذه أصوات توسلات .. ؟ لن استجيب ..
لقد تحررت منكم يا سادة الجحيم .. وحينما وقفت بالخارج
اتأمل النيران وهي تأكل البيت الشيطاني كنت أشعر في الحقيقة أنني
لا أحرق بيت علوش ..
بل أحرق شيء أخر عشت أسيراً له منذ نعومة أظفاري.
وأذكر وقتها أنني كنت أردد على أصوات طقطقة اللهب :
- فلتسقط اليوتوبيا ...
***
ومع أول شعاع للشمس عدت لداري ..
الدار التي تركت فيها فاطمة غارقة في دمائها ..لابد للمجرم أن يعود إلى موضع جريمته كي ينال عقابه ..
اتجهت إلى الفراش وانحنيت عليها وطبعت قبلة على جبينها الوضاء..لم أعد أملك إلا مراقبتها وهي تموت .. ودوت كلمات الكلب العقور في أذني ..
(( لم يعد باستطاعة أحد إنقاذها ..))
((لم يعد باستطاعة أحد إنقاذها..))
هنا رأيتها تفتح عينيها ببطء.. وسمعتها تهمس :
- مجدي ..لقد عدت ..
- نعم يا حبيبتي ..
تمتمت في وهن :
- حمداً لله على سلامتك ...
ساعتها لم اتحمل كل هذا القدر من الطهر والنقاء ..لقد نست ما جرى وما كان من بطشي بها ولم يشغلها إلا سلامتي ..
وبكيت بين يديها كطفل ..يوشك أن تفارقه أمه للأبد ...
- مجدي أنا بخير ..
رفعت طرفي إليها وشهقت مستجمعاً أنفاسي المتلاحقة :
- ستكونين بخير .. بمشيئة الله ستكونين بخير ..
نعم ..
فاطمة لن ترحل وما كان لها أن ترحل وتتركني وحدي لأكمل الرحلة رحلة الإيمان ..
سأقضي جوارها الليل والنهار بين يدي مصحف أبي ..
((قبل أن ترحل سأعطيك شيئاً ..))
((حاول أن تثبت أنك ابني حقا ..))
نعم يا أبي ..الأن فقط صرت ابنك حقاً.. بيد مرتجفة افتح المصحف ..
(( لم يعد باستطاعة أحد إنقاذها ..))
كذب علوش .. لقد انساه سحره إرادة الله ..
كما انستنيها أفكار اليسار ...

وبصوت مرتعش من أثر الرهبة .. قرأت..
((وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ..
وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ..
وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ))
ستشفى فاطمة.. بإذن الله ستشفى ..هذا هو رجائي في الله .. وهو لن يخذلني ..
بعد أن خذلتني زبالات أفكار البشر ..
الله وحده هو القادر على شفاء فاطمة ..
ولا يأس مع الإيمان ..

***
كان خبر احتراق بيت علوش قد شاع وصار حديث الناس ..
و تردد بينهم أن البيت احترق بفعل فاعل ..لكن من ..؟ هنا لا استطيع أن أجزم أنني خرجت من دائرة شكوكهم ..خصوصاً أهل أهل فاطمة لكن من يستطيع أن يثبت شيئاً ..ومن الذي ينكر على من يقتل ثعباناً.. لقد ذهبت مع ديريني وعبد الرحيم إلى موضع البيت المحترق ..وكان كلاهما لم يتخلص بعد من رهاب علوش .. مازال يخيفهم وإن صار كومة من الرماد..
أخذا يرددان بعض الأيات القرأنية وأنا معهما كذلك مما أثار الدهشة في عيونهما.. لكنني لم التفت.. كنا قد أبلغنا المركز وعملنا الإجراءات المطلوبة .. لقد تنفس رجال كثيرون الصعداء بموت علوش حتى رجال المركز فقد قال لي وكيل النيابة وهو يغلق ملف احتراق بيت علوش :
- لا شك أن الحادث لا يخلوا من شبهة جنائية ..لكن لو كان الأمر بيدي لأعطيت للفاعل نيشاناً ..
وبعد فترة قصيرة تمت ترقيتي فابتسمت متذكراً كلام وكيل النيابة
لقد تغيرت كثيراً جداً .. وأنا الذي جئت لأغير تلك القرية البكر
التي نظرت إليها يوماً باحتقار ..فغيرتني وكشفت لي حقيقتي..
كنت أشعر بسعادة غامرة وطمئنينة لم أشعر بها من قبل ..
فقد بدأت فاطمة تتعافى بالفعل ..لقد زال عنها سحر علوش ..
صار بإمكاني الاقتراب منها ولمسها ومداعبة وجنتيها فيتوردان خجلاً وقد زالت عنهما الصفرة المقيتة وغزاهما دم الحياء ..والحياة ..
وغداً أخذها لزيارة عائلتي ..
نعم ..
نعم يا فاطمة لقد كنت كاذباً حينما ادعيت أنني مقطوع من شجرة .. فلدي عائلة .. وسأفخر جداً حينما أقدمك إليهم ..
وسأظل أفخر بك حتى وأنا بالمعاش ..حتى وأنا أدون تلك الذكريات.. وإلى جوار افتخارى بك سأكتب : أنني كنت الأحمق الذي تحدى الدجل بالإلحاد..واجه الشر بالشر..
انكرت الشمس في وضح النهار ..وكان الدرس قاسياً ..
كنت أقول أن الرجل الحقيقي هو الذي يعرف متى يتكلم ومتى يصمت ولقد تكلمت كثيراً جداً وأرى أنه قد آن الأوان ..كي ألوذ بالصمت..
وإن كنت موقناً أن صدى كلماتي سيظل يتردد عبر ردهات العقول وفي أقبية الأذهان..

***

تمت


عمرو مصطفى

انتهيت منها بفضل الله ومنته وكرمه في
الأحد 21 شعبان 1434- هـ
30 يونيه 2013 – م