عرض مشاركة واحدة
قديم 01-05-2015, 12:52 PM
المشاركة 17
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
(6)
تلك الحقيقة


منذ سنوات عديدة ظهر علوش في أطراف القرية ..
البحث الدءوب عن مكان خرب مليئ بالقاذورات والنجاسات كانت بغيته .. ولم يكن هناك أفضل من ذلك البيت الطيني الخرب في اطراف القرية .. القاذورات في كل مكان حوله والرائحة خانقة لا تطاق تلك الأشياء مهمة جداً لما سيقوم به .. وتلك الرائحة بالنسبة له كانت كعبير الياسمين ..الطقوس ستكون بالليل..
أشعل مصباح الكيروسين واخرج ادواته من جعبته التي جاء بها للقرية .. كل شئ سيتم بهدوء ويسر وليحالفه الحظ وليلقى رضا الأسياد .. وهكذا استل مديته وقام بذبح أرنب وفرق دمه على شكل
نجمة خماسية على الأرضية .. وجلس ينتظر ..
وفي الليلة الأولى لم يلقى استجابة .. كان هذا متوقع .. فالأسياد يحتاجون إلى ما هو أكثر .. تضحيات أكثر ..
وهكذا عاد في الليلة التالية بكبش سرقه من أحد بيوت الفلاحين في غفلة من أهله .. دماء أكثر لكن بلا استجابة ..
الأن لم يعد هناك مفر من الخطوة التالية .. الضحية البشرية ..
لن يستطيع اختيار ضحية بشرية من أهل القرية سيقلب هذا القرية رأساً على عقب .. عليه أن يستدرك طفل من قرية مجاورة ..
يقوم بتخديره ويحمله في جوال إلى حيث البيت الطيني الخرب الذي سيصير مقره فيما بعد ..
ذبح البشر ليس سهلاً ..خصوصاً الأطفال لكنه تعلم أن قلبه مجرد مضخة تضخ الدماء وتبقيه على قيد الحياة ولا أثر لأي مشاعر من تلك التي تشعرك بأدميتك .. المجد ينتظره وعنق هذا الطفل هي مفتاح العبور لذلك المجد ..
لذا فقد تناول المدية الحادة وقام بشحذها عدة مرات على قطعة حجر
وتوجه إلى الجوال وقام بفك ربطته وإخراج الطفل فاقد الوعي ..
ما حدث بعد ذلك كابوس اتركه لخيالك ..
المهم أن الضحية هذة المرة أثمرت .. حيث سمع العواء الطويل الحزين بالخارج .. وتهلل وجهه وهو يرنوا جهة الباب ..
- يا مرحب بالأسياد ..
بالخارج جاء يمشي حثيثاً ..أسوداً كالليل البهيم .. عيناه جمرتان من جهنم ..أسنانه تبرق كالماس تحت ضوء القمر ..
كلب أسود بلا ظل ..
وخر الرجل على ركبتيه في تبجيل مستقبلاً ذلك الذي وفد عليه من الجحيم .. أخيراً لبى الأسياد نداءه ..
مر الكلب بجواره وتجاوزه متجاهلاً إياه ..ثم اتجه حثيثاً ناحية جثة الطفل المذبوح ..
دار حولها وهو يتشمم الدم .. ثم ولغ فيه فتوهجت عيناه ..ثم دار على أربع وانصرف كان لم يكن ..
إنها علامة القبول ..
وأغمض الرجل عينيه وقلبه موشك على التوقف .. وبدأ يهذي بكلمات بلغة الأسياد ..ورأسه يتمايل يمنة ويسرة ثم صاح بصوت مرتجف دون أن يفتح عينيه :
- ستجدونني خادم مطيع .. خادم مطيع ..
شعر بشئ بارد يتحسس وجهه ففتح عينيه على اتساعهما وهو يلهث محاولاً السيطرة على ردود أفعاله ..لم يكن هناك شئ ..فقط هواء بارد يداعب وجنتيه ..قال بصوت مبحوح :
-أنا خادم الأسياد المطيع..
وشعر أن جدران البيت الطيني كأنها تتموج ..وبرودة تسري في اطرافه
-أنا خادم الأسياد الـ...
هنا بدأ يهتز كأنما مسه ألف جان ..وبدأ يهذي كالمحموم :
-أنا خادم الأسياد .. بحق طارش لم يسبق لي أن عقدت صفقة مع الأسياد من قبل ..؟
ثم بدأ يزوم مثل القط :
- هووووم ..فعلت.. كل الموبقات فعلت..كلها .. حتى أكل لحوم الموتى في قبورهم ..فعلت ..هووووم ...لم يعد لي قلب ..هووووم ولا ينبغي لي أن يكون ...هووووم ...مستعد للتضحية في سبيل رضاكم عني ..هووووووم .. لقد بذلت كل ما بوسعي ..
هووووم ..
ثم فجأة تبدل صوته إلى صوت أنثوي حاد :
-عينك اليمنى أيها الفاني ..عينك اليمنى .......
وحينما استعاد علوش وعيه بعد اللقاء الحميم مع الأسياد شعر بذلك الألم الحارق في عينه اليمنى وسائل الحياة اللزج يلطخ وجهه وثيابه وأنه لا يرى بعينه اليمنى و..
دوت صرختة مجلجلة طويلة ملتاعة ..
صرخة رجل نزع عينه ليضعها في طبق ..قرباناُ للأسياد ..

***

وبعد أيام من تلك الوقعة الحافلة بدأ في البحث عن معاون له فيما هو أت ..فظهر له فتى يدعى عطوة وهومثال جيد لمساعد الشيطان ..هو يريد لقمة ونومة ولن يسألك عن شئ بعدها ..وهذا هو ما يريد ..لا يريد أسئلة كثيرة فقط يريد سمع وطاعة بلا نقاش ..
الزبائن تترى من أهل القرية وربما القرى المجاورة لقد ذاع صيته منذ عقد الصفقة مع الأسياد .. البداية كانت معالجاً للسحر وبعد مرور سنوات صار كابوساً جاثماً على قلوب أهل كفور الصوالح ..
كانت الأمور تمضي على وتيرة واحدة حتى علم أن ضابطاً جديداً جاء إلى القرية ..هو لا يحب الحكومة ولا رجالها القادمون من مصر .. لقد حدثت له مشاكل كثيرة معهم على مدار السنون وكانت تنتهى دائماً بتعهد عدم تعرض من الجانبين ..
أنت في حالك ونحن في حالنا .. فقط لا تخالف القانون ..
وهذا القادم الجديد سيحتاج إلى فترة حتى يصل معه لنقطة اتفاق ..
من قال أن كفور الصوالح تحتاج للحكومة .. هو كان السلطة الزمنية المتحكمة فعلياً بأهل القرية ..هو المنبع والمصب .. من يجرؤ اليوم على الزواج دون زيارته .. ومن يجرؤ اليوم أن ينجب ويستهل ولده صارخاً قبل أن يضع الحلوان في حجره .. بل من يجرؤ على أذية جاره خوفاً من لجوء جاره للشيخ علوش ..
العمدة زوج ولده الشهر الماضي ولقد وضع في حجره مبلغاً يسيل
له اللعاب غير المواشي والطيور ..فقط .. دع ولد العمدة يتزوج في سلام .. بعدها بعدة أشهر سيدعه كي ينجب وكي (يسبع) وكي.. وكي ..
وكل كي بكية .. وابتلع ريقه الذي سال ..ثم تذكر ضابط النقطة
وتمنى لو طلب من الأسياد إزالة النقطة من الوجود ..
لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه والأسياد لا يفعلون شئ دون مقابل ..
متى سيحتك به البك الضابط ؟.. وكيف ؟..
فليدع هذا للأيام ..
-شيخ علوش ..
التفت في حدة إلى مصدر الصوت ..صوت أنثوي يثير رجفة في قلبه ..لماذا .. لأنه صوت فاطمة ..
-شيخ علوش ..
غادر الدار الطينية فوجدها واقفة على بعد ثلاثة أمتار من الدار..
فاطمة جاءت إليه اخيراً بعد طول انتظار .. وبرقت عينه الوحيدة
وارتعشت شفتيه :
-خطوة عزيزة يا فاطمة ..
قالت له في رهبة وهي تضع كفها على صدرها :
-أمي تريد منك خدمة ..
-أنا خدام ..
-تريد عمل لأخي مداح كي ينصلح حاله.. ولك الحلوان ..
ابتلع ريقه وهو ينظر لها بعينه الوحيدة في ثبات :
-بدون حلوان يا فاطمة .. يكفي تشريفك ..
لوحت له بكفها أن لا ..ثم أخرجت صرة من جيبها ورفعتها إليه قائلة :
-امي تريد هذا سراً ..انا هنا بدون علم أبي ..
تناول الصرة منها دون ان يرفع نظره عنها متمتماً :
-سرها في بئر بلا قرار ..
هنا استدارت فاطمة دون مزيد كلام .. وانطلقت مبتعدة دون سابق انذار .. ووقف هو يتبعها بعينه الوحيدة ..
لقد وجد قلبه أخيراً في فاطمة وظيفة جديدة غير ضخ الدماء ..
لكن هذا لن يعجب الأسياد .. تمخط وبصق بصقة محترمة قبل أن يقول في اعتداد :
-تباً للأسياد ..
بعمل واحد من أعماله السفلية فاطمة ستاتي إليه راكعة ..
لأول مرة سيستعمل سحره لنفسه .. العطف .. كثيراً ما عمل العطف لرجال ونساء ولم يفهم سر طلب الناس أن يحبهم فلان ويهيم بهم علان .. وما فائدة الحب أصلاً .. لكنه حينما قابل فاطمة فهم .. صحيح أن فرق السن وطبيعة عمله تجزم أنه ليس عريساً مناسباً لواحدة من الأحياء لكن من قال أن الأمور هنا تخضع لقانون الناس .. قانون علوش سيمضي ولن يعترض عليه أحد .. وبالفعل عادت الفتاة لتأخذ عملين بدلاً من عمل وانطلت عليها خدعة علوش ..لقد قرر أن هذه الفتاة له وليست لأحد غيره .. والويل كل الويل لمن تسول له نفسه الاقتراب من طرف ذيلها

***
لكنني ظهرت وطمعت فيما هو أكثر بكثير من ذيلها ..
ووصلته الأخبار بسرعة فهو المصب لكل المعلومات في القرية حتى الأمور بالغة الحساسية لا تخفى عليه ..دعك من أن مثل هذه الأشياء ينقلها الهواء قبل أن تتناولها الألسن ..
فاطمة ستتزوج ضابط النقطة .. البك الضابط الذي جاء من مصر ليخطف فاطمة على حصان أبيض..ولم يتوقع علوش أن يكون الصدام بينه وبين ضابط النقطة من أجل فاطمة ..
لابد أنه شاب ووسيم .. .. ومغرور كذلك ..لايمكن أن يتصوره إلا هكذا .. كما أنه لا يتصور نفسه إلا عجوزاً قبيحا ضحى بعينه اليمنى كي يرضي الأسياد ..
ً والأن ماذا حدث للعمل الذي أعطاه لفاطمة .. هل أخطأ في شئ ..
هل ألقت الفتاة العمل بمجرد أن مرت على ترعة..؟
لايمكن لفتاة في مثل سنها أن تفعل وقد اخبرت أن في تلكم اللفافة يقبع عريس المستقبل .. إذن ماذا حدث ..؟
-هل أصرف الزبائن بالخارج ..؟
التفت إلى عطوة بوجه خالي من التعبيرات وتمتم :
-أصرفهم ..
لا زبائن بعد اليوم .. سيكرس مجهوده كله في حل ذلك اللغز ..
ترى هل تخلت عنه الأسياد ..؟ بعد كل ما فعل .. أي شيطان جاء من مصر كي يعكر عليه صفو الأيام .. سيقضي الليل كله متفنناً في إيذاء ذلك الضابط .. سيخرج كل مواهبه الشيطانية فيه كي يجعله عبرة لمن يعتبر .. سترتجف من هول ما سيكون جدران البيوت في كفور الصوالح و ..
لكن عليه أولاًً أن يتأكد من أن الأسياد مازالو في صفه ..
وهكذا جلس أمام صفحة مليئة بالرمل وبدأ يخط عليها ثم أغمض عينيه وبدأ يقرأ ..
يهتز ويقرأ .. يحرك رأسه يمنة ويسرة ويقرأ ..
اخيراً تشنجت قبضته وهي تقبض قبضة من الرمل مصدراً انيناً كأنما يعذب في سقر .. ثم فتح عينه السليمة حمراء كالدم وهو يردد في حنق :
-لكن لماذا هو ..؟
و ضرب صفحة الرمل بقدمه فتناثر الرمل في كل مكان ورفع عقيرته إلى السماء صارخاً :
-لماذا ....؟

***

نعم لماذا ..؟
السؤال الذي يتردد بداخلي ويعصف بكياني .. والتمعت عينه الباقية في تلذذ ..هو مستمتع بإثارة الرعب في نفسي ..لكن هل كنت أبدو حينها خائفاً ؟
لقد تغيرت مائة وثمانون درجة يا مجدي .. وغرقت حتى أذنيك في مستنقع عالم لم تتخيل يوماً أن له وجود واقعي وليس في مخيلة العجائز .. ولفح صوته المتشهي أذناي :
-بعد رفض الأسياد التصديق على إيذائك وجعلك عبرة ..
قررت أن اكرس انتقامي من تلك التي فطرت قلبي حين تزوجتك ..
- لـ ..لماذا رفضوا إيذائي ..؟
قلتها كطفل تائه تركه أبواه في دهاليز عالم مزدحم بالطلاسم والأحاجي .. وكان صوت علوش هو المرشد لي في تلك المتاهة :
-لأنك .. لأنك مهم جداً بالنسبة إليهم ..
-لا أفهم ..
صاح علوش في جشع متلذذ :
-بل تفهم وتدرك في قرارة نفسك ..لكنك تكابر .. كل منا يخدم الأسياد بطريقته الخاصة .. وجهان لعملة واحدة .. لكن يبدو أنك في الوقت الراهن الأهم بالنسبة إليهم ..

***
حينما كنت صغيراً كانت أمي تنهرني إذا أكلت بالشمال وتخبرني أن ذلك فعل الشيطان ..وإذا كذبت تنهرني وتخبرني أن ذلك من وسوسة الشيطان .. وأن علي ألا استجيب لنداءات الشيطان التي يبثها في روحي فهو يجري في عروقي مجرى الدم وإلا صرت من حزبه وفريقه المخلد في النيران .. وعلى أن استجيب لنازع الخير..
الملاك الذي يرشدني إلى الخير كي اصير من اهله لكنني بالرغم من التحذيرات كنت اتلذذ بكل الموبقات التي يقع فيها طفل من سني ثم أنسب ذلك إلى الشيطان ..وما ذنبي أنا إنه الشيطان..
ولما كبرت وداهمتني أفكار اليسار أمنت أنه لا غيب وبما أن الملاك والشيطان غيب فهما لا وجود لهما على الحقيقة .. وكل ما يصدر مني هو مني ولا دخل لعوامل أخرى خارجية ..والخير والحق والعدل امور نسبية تختلف من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ..
هل عشت قرابة الثلاثين عاما في خدمة الشيطان ..وتذكرت ماركس وحواراتي معه ..هل كانت محض خيال أم وساوس شيطان مريد ..

هل كنت مهندساً في معمار الأسياد المسمى يوتوبيا ..؟
وهل يمكن أن اعود بعد قرابة الثلاثين عام إلى نقطة البداية مرة أخرى .. الإيمان بوجود نازع الخير ونازع الشر ..؟
الملاك والشيطان ..وما فوقهما من تدبير كوني ..بيد الله..
الله ..
كلمة لم أرددها منذ زمان ..
رباه ..لقد كان بإمكاني إنهاء عذابي ..فقط لو كنت لجئت إليك ..
لقد وقعت فاطمة البريئة الندية ضحية لذئبان ضاريان لا مكان للرحمة في قلبيهما ..؟
علوش أيها التاريخ الحافل بالإيذاء ..الأن بعد أن فهمت .. وعرفت حقيقتي لم أعد بحاجة إليك.. ودون تردد صوبت مسدسي الميرى إلى عين علوش المتبقية قائلاً في برود :
-كلانا يعرف في قرارة نفسه أنه يستحق ..
ولمحت شبح ابتسامة باهتة تغزو تجاعيد وجهه الشاحب وهو يتمتم :
-نعم ..
و ضغطت الزناد ..

***