عرض مشاركة واحدة
قديم 01-04-2015, 10:48 AM
المشاركة 14
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
(5)

ذلك النزيف


وحينما حان وقت انحسار شلال الطبيعة الانثوية أخيرا وبعد طول انتظار عدنا إلى حيث بدأنا في ليلة الزفاف ... ابتسمت لها في إشراق فأطرقت خجلى .. ثم رفعت وجهها وقالت في بطء :
-لا ..
-ماذا ..؟
-مازال ...
هرشت مؤخرة رأسي وسألتها محبطاً :
-وهل هذا طبيعي ..؟
-لا أدري ..
-الطبيب يدري ..
هنا انفتحت أبواب الجحيم - إن كان هناك واحداً – وخرجت الشياطين تغزو سحنة الفتاة البريئة ..والزبد يتطاير من شدقيها :
-تريدني أن أذهب لطبيب ..هذا محال .. هذه معرة كبيرة ..
كيف ..؟ كيف ..؟
وضع عندك عشرات من (كيف ) حتى تصل إلى المريخ ..
غاية ما هنالك هو أن والدتها ستستدعي الداية والتي سيكون اسمها – غالبا - أم شئ ما .. كي تفحصها وهو ماكان سيثير جنوني حتما ..هذا ما كان ينقصني ..علوش أخر في قالب انثوي ..
تباً للريف الذي يتعامل مع جسد الانثى بتلك الحساسية المفرطة الموروثة من القرون الغابرة ..!! قيود وعقد نفسية ذكورية لا أكثر.. !!
الواحدة من هؤلاء تتصور نفسها مطمعاً لكل ذكر متحمس حتى وإن كان طبيب لا يعبأ غالباً إلا بفاتورة الكشف الفلكية التي سيدفعها الزوج .. كنا في القاهرة قد تحللنا بقدر كافي من تلك القيود الشرقية بفضل الانفتاح على العالم المتحضر !! لكن المجتمع الريفي مازال يرسف في أغلال الماضي !!
وكان يوم عرضت فاطمة على الطبيب يوماً مشهوداً وأسوداً في تاريخ أل جابر الصوالحي ..
الفتاة عادت منهارة كأنما تعرضت لاغتصاب ..وعدت أنا محتاراً مشوشاً تدوي في أذني كلمات الطبيب :
-لا شئ .. زوجتك تتدلل عليك ...
-والدماء ...؟
-الفتيات يتحججن بما هو أكثر لتأخير اللقاء ..
هل هذا هو ما كان .. ؟ هل خدعت الفتاة القروية ضابط النقطة
الفذ .. وهذا كان يعني بالنسبة إلي قرار واحد .. لقد ولى عهد
الدبلوماسية وأتى عهد الحديد والنار ..
لم تكن بحالة مزاجية جيدة بعد زيارة الطبيب لكنني كنت حانقاً جداً ومصراً جداً .. سمعت كثيراً عن مكر الفلاحين ..لكنني اليوم أعاينه وأراه متجسداً في تلكم الفتاة التي تدعي السذاجة والبراءة الخادعة .. لكنني لم أكد أمسك كتفيها حتى انهارت كالبالون الفارغ من الهواء وانفلتت من بين ذراعي وخرت إلى الأرض..
لكنني لم أقبل أن اخدع مرتين فأهويت إليها حانقا وقبل ان اتفوه بكلمة ارتطمت عيني ببقعة الدماء التي تتسع وتتسع من تحتها ..
فرفعت بصري ملتاعاً إلى وجهها فهالتني الصفرة التي بدأت تغزو بشرتها ..تباً .. حتى المتنورون أمثالي يرتكبون الحماقات
القاتلة ..
(( لا شئ ..زوجتك تتدلل عليك ..))
ترددت الكلمات في عقلي وأنا اتحرك أمام غرفتها ذهاباً وأيابا
لقد تركتها بالداخل ومعها أمها ..لقد حضرت مع والدها الحاج جابر نزولاً عن رغبتها في استدعاء أمها لتكون بجوارها ..الفتاة في تلكم الاحوال تفتقد والديها وتحن إليهم .. لكنني غير مستعد لحلول أمها الخرافية ..لست مستعداً ولن أحتمل.. عقلي قد تحول إلى خلية نحل نشطة لا تكف عن الطنين ..
ترى مالذي يجري لي .. ماذا اصاب فاطمة .. النزيف يأتي أحياناً
للمتزوجين حديثاً لكننا لم نتزوج عملياً بعد ..
الطبيب يعلن لي انه لا سبب منطقي لذلك النزف .. وهل علي أن ابحث عن سبب خارج حدود المنطق .. لكن الحاج جابر عاجلني
بالضربة القاضية..

***

-علوش ..
التفت إليه في حدة .. كان جالساً على أحد المقاعد وقد اراح رأسه على كفيه المشبكتين واستطرد بصوت متحشرج :
-هذا انتقام علوش منا ...لأنك لم تذهب إليه ..
كنت قد نسيت ذلك الاسم تماماً كانه لم يوجد إلا في مخيلتي ..
وهاهو ذا يقتحم على حياتي في أحلك الأوقات ..فقط ليزيد الطين بلة ..
وتداعت في ذهني ذكريات كابوس لم تندمل اثاره في نفسي بعد ..مطاردة كلب أسود لا ظل له .. بيت طيني ورائحة خبيثة ..وجه علوش المرحب والمائدة الخشبية .. و.. والساعة الرملية التي تحوي سائلاً أحمرا كالدم ..لا بل هو دم ..دم ينساب من أعلى لأسفل ..
لا اااااااااا .....
لا يمكن أن يكون هو وراء كل ذلك ..أنا الذي تحديته وكان ينبغي له أن يوجه سهامه إلي ..لا إلى فاطمة ..هذا لو كان يملك سهاماً أصلاً .. إنها الصدفة تلعب لعبتها مع العقول التي عششت فيها الخرافة وباضت وفرخت ..
-ولماذا لم يجرب حظه معي ..
قلتها في حدة فنظر لي باحثاً عن رد مقنع ثم أطرق إلى الأرض في أسى .. لعله يلعنني الأن في نفسه ويلعن اليوم الذي تزوجت فيه ابنته ..ألعني كما تشاء فقناعاتي لم ولن تهتز ..
لكن الأيام التالية وجهت لي المزيد من اللطمات ..
النزيف لا يأتي إلا حينما أحاول الاقتراب.. مجرد التفكير في ممارسة حياة زوجية طبيعية يعني عودة النزيف مرة أخرى ...
الطب النفسي ..؟ فكرت فيه وأخذتها بالفعل إلى واحد أعرفه
دون أن اخبر احداً حتى هي لم تفهم لأنني لا أريد المزيد من الاعتراضات التي يغذيها نازع الجهل لديها والذي يعتبر عيادة الطبيب النفسي هي عش للمجانين ..لذا تصورت انه طبيب أخر من أولئك الذين فحصوها من قبل ولم يقدموا لها سوى الحيرة وبالفعل لم يشأ الطبيب النفسي كسر القاعدة وعدنا للدار بخفي حنين ..
لا شئ يفسر ما نحن فيه ..تفسيراً علمياً منطقياً .. الجنون .. أحدهم يدفعنى لحافة الجنون ..أحدهم يغلق كل الأبواب ويترك لك باباً واحداً ..
باباً واحداً لكنك تتجنب حتى مجرد التفكير فيه ..
ووقفت أرمق أرفف الكتب المصفوفة في مكتبتي المتواضعة
كتب اليسار التي غرقت فيها حتى شحمة أذني ..وكأني انتظر منها الجواب .. لكن لا جواب .. لا فائدة ..حتى ماركس امتنع عن الظهور لي منذ قررت الزواج من فاطمة ..ولا أدري لماذا ؟..
حتى أنت يا ماركس تخليت عني ..
وطاشت يدي في الرفوف وتناثرت الكتب على الأرض لتدهسها قدمي بكل الحقد والغيظ .. لقد كفرت بمبادئي بعد كل هذا الزمن ووطئتها بقدمي ..
ونظرت لاهثاً لارفف المكتبة فوجدت كتاباً واحداً قد تبقى صامداً
لم يهتز ولم تطله بطشة يدي ..وتذكرت..
(( قبل أن ترحل سأعطيك شيئاً ..))
أغمضت عيني متوقعاً العطية التقليدية في مثل تلك المناسبات .. وسرعان ما دس أبي المصحف المزركش في يدي..نعم اتذكر
الكتاب الوحيد الذي لم يتهاوى مع بقية الكتب ..
لكن لماذا .. ؟
ولماذا احتفظت به رغماً عني وكأن هناك قوة ما دفعتني للإبقاء عليه .. وسط كل هذا الكم من الكتب التي تتنافى أفكارها مع
ثوابته ...ترى ما كنه تلك القوى ..وهل لديها حل لمعضلتي ..
كنت موشكاً على الجنون .. والفتاة تزداد اصفراراً وفرقاً كلما اقتربت منها ..
لقد تحول عش الزوجية إلى حفرة من حفر جهنم .. وصرت عصبيا انفجر عند أدنى كلمة ..وكنت كالصخرة التي تتدحرج حثيثاً نحو هاوية بلا قرار ..
-انا لا أصدق أن الشيخ علوش هو السبب ..
نظرت إليها بعينين منتفختين بسبب الإرهاق وقلة النوم..
علوش مرة أخرى ..حتى في الساعات المتأخرة من الليل ..لم أعد أحتمل .. ولم أرد عليها ..لأني لا أضمن أن يفلت الزمام من قبضتي ..و..
لكنها تابعت بحذر :
-لم يكن ليؤذيني فهو الذي جلبك إلي ..
- تباً لك ولعلوش ..
بعدها لم أشعر بنفسي ..المسكينة تلقت شحنة الغضب التي ما كان لها أن تتلقاها .. وما كان لها أن تحتمل صفعات وركلات ضابط شرطة محنك مثلي ..
وحينما تهاوت على الأرض لمحت بقعة الدماء التي انطبعت عبر ثيابها وأدركت الكارثة .. لقد عاد النزيف هذة المرة ليشترك معي في القضاء عليها ..هززتها عدة مرات لكنها لم تستجب .. صرخت في أذنها لكنها لم تستجب وضعت أذني على صدرها لأسمع دقات قلبها ..لكن دقات قلبها لم تستجب..
صرخت في أذنها لكنها لم تستجب.. دفنت وجهي في صدرها واستجديتها ..لكنها لم تستجب .. فاطمة البريئة الندية .. الشئ
الطيب الوحيد في حياتي .. فاطمة التي أشعرتني بأدميتي وأن لقلبي وظيفة أخرى غير ضخ الدماء ..
فاطمة الزهرة اليانعة التي سحقتها يد قاسية ..
فاطمة البسمة الرقيقة سقطت ضحية للعند والكبر والقسوة ..
ذئب ضاري لا يرحم هذا هو ما كنته.. لافرق بيني وبين علوش..
علوش .. الباب الذي رفضت طرقه .. والأن أنا مستعد لما هو أكثر ..
وحملتها حملاً إلى حيث غرفة النوم ووضعتها بحرص على الفراش ..وكان هناك خيط أحمر يتبعني حيث سرت .. تباً
الفتاة تتفلت مني ..تماسكي يا فاطمة حتى أعود..تماسكي أرجوك..وغادرت هائماً على وجههي قاصداً البيت الذي ظل يطاردني فترة في أحلامي ..

***
بيت علوش مرة أخرى لكنها ليست كالمرة السابقة ..
قمت بتوجيه أقسى ركلة ممكنة للباب الذي لم يحتمل وانفتح على مصرعيه فإذ بالشيطان يعدو في فزع ناحية باب أخر خلفي ..لكن رصاصة مدوية استقرت في فخذه جعلته يبرك كما يبرك الجمل أمام الباب .. ونهض مساعد الشيطان عطوة مذعوراً من نومه وعقله لم يستوعب بعد ما يجري وحينما رأني فتح فمه ليقول شيئاً لكنني عاجلته بطلقة هشمت أسنانه وخرجت من قفاه.. وحينما هوى كالحجر تجاوزته بخطوة لأصل إلى علوش الذي صرخ حينما قبضت على ياقته وجررته إلى منضدته الأثيرة ..
دفعته ليرتطم بالمنضدة فانقلبت وتناثر من تحتها موقد كيروسين
وبعض اللفائف من ورق وجلد ومساحيق لا أدري كنهها ..
وشئ أخر أثار عند رؤيته الرجفة في أوصالي .. الساعة الرملية
التي رأيتها في الكابوس .. بيد مرتجفة رفعتها وتأملتها عن قرب
لقد قرب السائل الأحمر في أعلاها على النفاذ ..
-لم يكن مجرد كابوس إذن ..
ثم التفت إلى علوش مستطرداً :
- كنت أنت السبب في كل ذلك ..وإن كنت لا أدري كيف ..ودفعت فاطمة ثمن عبثك ..لكنك ستخبرني كيف اتخلص من تلك اللعنة ..
سعل العجوز مرتين ..وعض شفته السفلى في ألم وهو يتحسس فخذه
ثم رفع طرفه إلي في مقت مستطرداً :
-إذن فقد أمنت أخيراً انني لست مجرد دجال هه ..
تلقى ركلة عاتية في فخذه المصابة فشق صراخه سكون الليل
وصدع جنباته .. وجذبته من شعره الجعد وضربت رأسه بالمنضدة صائحاً :
-سوف أجعلك تنزف كل قطرة من دمك أمام عينيك.. لولم توقف نزيف فاطمة ..
قال لاهثاً :
- الساعة الرملية وسيلة لا يتوصل إليها إلا المحنكون أمثالي الساعة الرملية المليئة بسائل خليط يشبه سائل الحياة .. نوع من الأعمال السفلية التي تصنع للنساء كي تظل الواحدة منهن تنزف دون سبب كلما اقترب منها زوجها ..النهاية محتومة ..الموت نزفاً .. كان هذا هو انتقامي ..ولم يعد هناك فائدة لن يستطيع أحد إنقاذها ..هه .. لم يعد باستطاعة أحد إنقاذها ..
دفعت فوهة مسدسي في ثقب الطلقة الغائر بفخذه فصرخ كالنساء .. وهدر صوتي كهزيم الرعد في أذنيه :
- سأقتلك ألف مرة يا علوش لو كررتها ..
- لـ ..لا فائدة ..قلت لك لم يعد باستطاعة أحد إنقاذها ..
أظلمت أمامي الموجودات ..هل فقدت فاطمة إلى الأبد ..؟
ذلك الكلب يعرف ما يتكلم عنه جيداً ..
وإذا كانت فاطمة قد رحلت ..فما جدوى بقاء الكلب الذي عقرها ..
وصوبت إليه سلاحي فصاح فزعاً :
-ألم تسأل نفسك لماذا لم أوذيك أنت ؟
صمت برهة وأنا اتردد في نسف جمجمته..نعم أيها الشيطان
ربما مازالت بحاجة إليك كي أفهم .. قلت له في مقت :
-تكلم ؟
هنا قرر الكلب أن يكف عن اللهاث ويتكلم ..


***