عرض مشاركة واحدة
قديم 09-29-2012, 12:29 AM
المشاركة 15
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

( 3 )



التعبير الأول :
( ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يعود الناس بالشاة والبعير , وتعودون أنتم برسول الله إلى رحالكم , والله لولا الهجرة لوددت أن أكون امرأ من الأنصار , اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار )
القائل :
من قول النبي عليه الصلاة والسلام [1]


الموقف :

جاء فتح مكة بعد طول انتظار من النبي عليه الصلاة والسلام , ومن الصحابة رضوان الله عليهم , وذلك فى 20 رمضان من السنة الثامنة للهجرة ,
ودخلت إلى الإسلام قريش بعد أن أطلقهم النبي عليه الصلاة والسلام فتسموا بالطلقاء , وبفتح مكة انتهت مرحلة الهجرة بقوله عليه الصلاة والسلام ( لا هجرة بعد الفتح ) , حيث كانت فضيلة الهجرة فى السابقين الأولين من المهاجرين الذين هاجروا للمدينة والأنصار الذين نصروا النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته , وأصبح لتلك الزمرة فضل السبق , مع عموم الفضل القطعى على كافة الصحابة من الله عز وجل وذلك فى قوله تعالى :
[ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] {الحديد:10}


وبعد الفتح جلس النبي عليه الصلاة والسلام يقسم بعض العطايا وخص بها المسلمين الجدد من قريش وبعض قبائل العرب التى وفدت إليه , وذلك بنية تألف قلوبهم وترغيبا لهم فى الإسلام , ولم يقسم فى تلك العطايا شيئا للأنصار أو للمسلمين القدامى , وكانت ثقته بهم أنه أوكلهم إلى إسلامهم حيث أنهم ابتغوا الله ورسوله عليه الصلاة والسلام منذ بايعوه وأخلصوا الدين لله , وحموا نبي الله ورسالته حين اختار المدينة المنورة محطا له ورحالا , فنالت بقدومه شرفا لا يدانيه شرف , ونال الأنصار بذلك مدح الله تعالى ونصرته لهم بنصرهم لله ورسوله عليه الصلاة والسلام ..
فلما رأى الأنصار تقسيم العطايا لم يصل إليهم , تضايق البعض منهم ــ لا حبا فى المال والدنيا ــ وإنما هى الرغبة فى عطاء النبي عليه الصلاة والسلام وبركة هذا العطاء , وشعر البعض منهم بشعور الغبن أن النبي عليه الصلاة والسلام خص أقواما حديثي عهد بالإسلام , فظنوا ظنا خطأ أن هذا العطاء هو من باب التكريم , لا من باب تألف القلوب ..
ولو أنهم أدركوا حقيقة هدف النبي عليه الصلاة والسلام من أنه وثق بعمق إيمانهم لرضوا قطعا , وإنما أعطى هذا المعشر حديثي العهد بالإسلام تألفا للقلوب , ولا شك أن الأنصار والمهاجرين أكمل إيمانا من هؤلاء ,
فذهب بعضهم إلى الصحابي الجليل سعد بن عبادة رضي الله عنه , وأسروا إليه بما فى نفوسهم , وكان سعد بن عبادة مع سعد بن معاذ رضي الله عنه يمثلان زعامة المدينة قبل الإسلام حيث كانا على رأس الأوس والخزرج ..


وكانت لدى سعد بن عبادة طبيعة خاصة ,
حيث كانت فيه حمية وحدّة فى الحق , وكانت له غيرة معروفة للغاية على ما يعتقده حقا فى نفسه , وقد تأكدت هذه الغيرة والنفس المباشرة لسعد بن عبادة فى أكثر من موقف , ويعتبر أشهرها ما علق به عندما حدثهم النبي عليه الصلاة والسلام بضرورة الإتيان بأربعة شهود على حالة الزنا كشرط إقامة الحد ..
هنا قال سعد بلا ترو وهو مندفع : أترك لكاعا وجدته مع أهلى لا أهيجه حتى آتى بأربعة شهداء ! والله ما له عندى إلا السيف صارما غير مصفح
فهنا تدخل الأنصار الحاضرين فى مجلس النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا معتذرين للنبي عليه الصلاة والسلام :
يا رسول الله اعذره , إنه رجل شديد الغيرة ما تزوج امرأة قط فجرؤ أحدنا أن ينكحها بعده ..
فتأملهم النبي عليه الصلاة والسلام ثم قال فى صرامة :
إن سعدا يغار , وأنا أغير من سعد , والله أغير منى ولهذا حرم على عبده الفواحش ..

أى أن النبي عليه الصلاة والسلام وإن كان قد عذر سعدا , إلا أنه أوضح للجمع عنده أن سعدا ليس أغير منه ولا من الله على المحارم , ولكن الغيرة لا تعنى الظلم , ولولا الشروط التى وضعها الله سبحانه وتعالى لإقامة الحدود , ما وسع مسلما أن يبقي آمنا من الظلم فى بيته , وليست الغيرة أيضا أن نتعدى حدود الله تحت تأثير الإنفعال , فما شرع الله هذه الشروط لكى يفلت مجرم من عقاب بل شرعها لكى لا يـُــتهم برئ بلا بينة


القصد ,
أن هذه الطبيعة الحامية لسعد بن عبادة كانت ملازمة له , لكنه كان فى نفس الوقت ــ على عادة الصحابة جميعا ــ رجّــاعا للحق متى وجده ,
فعندما اشتكى إليه هؤلاء النفر من الأنصار غار عل قومه الغيرة الطبيعية فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال:
يا رسول الله ، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم ، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت ، قسمت في قومك ، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء ..
فقال : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ ( يعنى إن كان هذا موقف قومك فما هو رأيك أنت )
قال سعد : يا رسول الله ، ما أنا إلا من قومي ..
فقال النبي عليه الصلاة والسلام : فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة
فخرج سعد ، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة .. فلما اجتمعوا له أتاه سعد ، فقال : قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار ،
فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال :
يا معشر الأنصار ما مقالة ، بلغتني عنكم ، وجدّة وجدتموها علي في أنفسكم ؟
ألم آتكم ضلالا فهداكم الله ، وعالة فأغناكم الله ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم
فرد الأنصار خاشعين : بلى ، الله ورسوله أمن وأفضل .
فاستطرد النبي عليه الصلاة والسلام وهو يجوّل بصره بينهم :
ألا تجيبونني يا معشر الأنصار ؟
قالوا : بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله المن والفضل
قال صلى الله عليه وسلم : أما والله لو شئتم لقلتم ، فلصدقتم ولصُدقتم : أتيتنا مكذبا فصدقناك ، ومخذولا فنصرناك ، وطريدا فآويناك ، وعائلا فآسيناك

انظر أيها القارئ الكريم إلى هذه العظمة فى هذا الموقف الجليل , فالنبي عليه الصلاة والسلام ذكرهم أولا بمنة الله وفضله , ولو كانت نفوس الأنصار من النفوس التى ترغب فى الدنيا وتأخذها الحمية لردوا على مقالة النبي عليه الصلاة والسلام بذكر سابقة جهادهم ..
لكن ويالعظمة هذا الجيل الكريم ..
صمتوا وأقروا وأذعنوا أن لله ورسوله عليه الصلاة والسلام الفضل كله , ومع ذلك ورغم صمتهم , قالها النبي عليه الصلاة والسلام وذكر لهم فضلهم وعملهم وحسن سيرتهم مع الله , ولم يغضب من الموقف بل أقر لهم بأن لهم السابقة فى النصر والمواساة بالنفس والمال
فانظروا إلى عظمة المعلم وعظمة التلاميذ , وعظمة المنهج الذى رباهم عليه النبي عليه الصلاة والسلام ..

ونعود إلى الحوار البديع حيث استطرد النبي عليه الصلاة والسلام قائلا :
أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا . ووكلتكم إلى إسلامكم ، ( هنا انكشف أمام القوم حقيقة العطايا , وكيف أنها ليست فى ميزان المكافأة والتكريم والتقدير , بل هى فى ميزان تألف ضعاف الإيمان وحديثي العهد بالإسلام وبالتالى ما كانوا ليرضوا بها لأنفسهم ولا يرضاها لهم النبي عليه الصلاة والسلام )
ثم قال :
ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده ، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا ، لسلكت شعب الأنصار
اللهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار , وأبناء أبناء الأنصار

هنا شملت الرعدة جميع من حضروا من الأنصار رضي الله عنهم , وهم يستمعون إلى هذا التعبير الجلل والتقدير الأعظم من النبي عليه الصلاة والسلام , حيث رضي للناس بأن يكون نصيبهم العطايا وخصهم بنفسه الشريفة , بل خصهم بالدعاء الذى تناقلت شرفه الأجيال وهم يغبطون الأنصار على ما أتاهم الله من فضله ..
فبكى كل من حضر هذا الموقف بكاء شديدا حتى أخضلوا لحاهم , وكان سعد بن عبادة أشدهم بكاء وتأثرا ..


وهذا الموقف العظيم , نستفيد منه دروسا وعبرا كثيرة ,
ولو أن أهل الحكمة تأملوا فى مواقف النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته , لما شبعوا منها أبدا فهى منابع فياضة جيلا بعد جيل ,
ومن أهم ما نتعلمه فى هذا الموقف , درسٌ بليغ للغاية فى العلاقة الإنسانية والأخوة الإسلامية ,
ألا وهو أهمية المصارحة وعدم كتمان ما تختلج به النفس من الخواطر ,
سواء كانت تلك المصارحة من المرء مع قرينه كالأخ أو الصديق , أو مع من هو أعلى مقاما كالأب والمعلم , وأن هذه المصارحة تعتبر ضامنة البناء ورفاء الود وهى التى تسد باب النفس والشيطان حتى لا تتوالد الخواطر مع بعضها البعض فتفسد العلاقة مهما بلغ إحكامها ..
وينبغي لنا ــ كما رأينا فى موقف الأنصار ــ ألا نخجل من خاطرات النفس مهما بلغت عتيا , وعلينا المصارحة بها لأننا لو سكتنا مخافة الحرج أو الخوف أو الهيبة , واحتفظنا لأنفسنا بخواطرها لزادت الوساوس فيما نظنه حقا وبدت العداوة والبغضاء من جراء ذلك , وهذا يستبين لنا جليا لو أننا تصورنا مثلا أن الأنصار طووا نفوسهم على خواطرهم ولم يفصحوا ,
إذا ما كانوا سمعوا الإيضاح الذى يُجلّى بصائرهم من النبي عليه الصلاة والسلام , وإجلاء البصيرة هنا هو علاج وترياق الوسوسة بسوء الظن ــ مع ملاحظة أن شعور الأنصار لم يكن سوء الظن حاشا لله بل كان شعور العتاب ــ ولكن الغالب فى العلاقات الإنسانية هو سوء الظن , وقد تكون تلك الوساوس لا أصل لها ولا محل , وغالبا ما تكون ناجمة عن سوء فهم لا أكثر
وكم من علاقة وطيدة هدمها الإخفاء وعدم العتاب أو المصارحة بين المتحابين , ذلك أن الظنون تبدأ وليدا ثم تثمر بعد ذلك مع الكتمان وتوارد الخواطر ..

مثال ذلك مثلا لو أن طالب علم شاهد من معلمه أو من عالم يتتلمذ عنده موقفا مناقضا للشرع أو للمروءة أو ما شاكل ذلك , لو أنه صارح به معلمه بالأدب الواجب لذهب الشك وسوء الظن بإيضاح هذا العالم , أما إن امتنع طالب العلم عن الإستيضاح فغالب الأمر أنه سيبقي فى ذهنه من ذلك شيئ وربما قاده هذا إلى ظلم مبين لشيخه على مجرد وساوس وخطرات لم يفهمها هذا الطالب

وقد رُوى عن حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما , أنه كان فى مجلسه فدخل عليه طالب فتوى ,
فقال له : هل للقاتل من توبة ؟
فتـفــرّس بن عباس فى الرجل مليا ثم قال له : كلا .. ليست له توبة !
هنا اندهش من فى المجلس من الإجابة , لكنهم لم يعترضوا أمام طالب الفتوى , فلما انصرف الرجل التفتوا إلى ابن عباس مستفهمين عن مبرر هذه الفتوى الغريبة لأن التوبة مفتوحة أمام كل ذنب وأى ذنب , وقد ورد فى صحيح البخارى قصة القاتل الذى قتل مائة نفس فاستفتى عالما هل له توبة , فقال له العالم نعم , فتاب القاتل ومات على ذلك فغفر الله له ..

هنا نجد أن تلامذة بن عباس طبقوا النهج النبوى بحذافيره , فهم لم يصمتوا عن سؤالهم ولم يظنوا بشيخهم ظن سوء من قلة علم أو مخالفة للشرع , بل ظنوا الظن الحسن أن هناك مبرر لا يعرفونه وفطن له ابن عباس , ورغم أنهم لم يكتموا سؤالهم , إلا أنهم تحلوا بالأدب الواجب بين يدى العلماء فلم ينكروا على ابن عباس علانية أمام طالب الفتوى وهذا من أوجب الواجب , بل انتظروا حتى انصرف الرجل ثم راجعوا شيخهم ..
وهنا التفت إليهم بن عباس قائلا : نعم للقاتل توبة , لكن هذا الرجل لم يقتل بعد , بل جاء مستفسرا حتى إذا ما علم أن للقاتل توبة نفذ نيته فى القتل بدون وجه حق , ولهذا أفتيته بما يردعه عن هذا الإثم العظيم ..


انظروا أيها القراء الكرام إلى مدى اتساع فقه ابن عباس وبصيرته النافذة , فقد أدرك بفراسته هدف الرجل , ولم لم يكن بن عباس وهو من هو فى الفقه , لأفتاه بالحكم الشرعي دون النظر إلى حاله وتسبب فى وقوع الرجل فى إثم القتل فضلا على قتل نفس بغير حق ,
وهذا يقودنا إلى حقيقة مخيفة فى زماننا هذا بعد أن كثر المتصدون للفتيا دون تأهيل علمى من علم أصول الفقه , هذه الحقيقة هى أن لكل مستفتى خصوصية فيما يسأل فيه , فلا ينبغي للعامى أن يقيس نفسه على فتوى صدرت بحق غيره , كما يفعل العامة هذا الزمان حيث يأخذون من الفضائيات فتاوى لم تصدر لهم خصيصا فيطبقونها علي أنفسهم دون دراية بوجود موانع خاصة لديهم تميزهم عن طالب الفتوى الأصلية ..

ومن الدروس الخطيرة المستفادة من موقف الأنصار مع النبي عليه الصلاة والسلام , أن المصارحة ــ وإن كانت ضرورية ــ إلا أن هذا لا يعنى أن تتم علانية , بل يجب أن يتم فى السر حكرا على أصحاب الشأن وحدهم , كما رأينا فى موقف سعد بن عبادة رضي الله عنه , عندما انفرد بالنبي عليه الصلاة والسلام فأسَرّ له , فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بأن يجمع له الأنصار وحدهم ــ دون غيرهم كما تقول الرواية عند ابن اسحاق ــ فاستمع منهم وأجابهم باعتبارهم هم أصحاب هذا الخاطر ..
وهذا يقودنا إلى ضرورة اقتصار المصارحة ــ حتى لو كانت فى حق ــ على أهل الشأن وحدهم , ولو لم يكن هذا ضروريا لكان أدعى للمفسدة الأكبر , فتخيلوا معى لو أن سعد بن عبادة جهر بما يظنه حقا واعتبره ظلما قد وقع عليه وعلى قومه , لكان هذا الإعلان مدعاة لإفساد العلاقة بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام ــ وحاشاهم من ذلك , لكن السرية وفّرت جو الخصوصية الذى سمح للأنصار بتدارك خطئهم على نحو سريع ودون أن يتورطوا فى خطأ أكبر ..

بالمثل ..
فى موقف بن عباس رضي الله عنهما , تخيلوا معى لو أن جمع طلاب العلم عنده قام وتكلم بالحق الذى يعرفه , فأنكر على بن عباس علانية أمام طالب الفتوى عملا بإنكار المنكر والأمر بالمعروف , إذا لكانت كارثة حيث سينتبه المستفتى لغرض بن عباس ويضيع ما فعله هذا الأخير لإنقاذ الرجل من تلك الجريمة التى ينويها .. ومن هنا أرسي علماؤنا الأوائل قاعدة هامة لطلاب العلم وهى ألا يتقدم طالب العلم بين يدى شيخه , وينتظر الإذن أولا
وحتى لو كان هناك خطأ فعلى لا يوجد له تبرير حقيقي يغير من طبيعته الظاهرة , فالسرية هنا مطلوبة وأدعى للود والإحترام ومن باب النصيحة فى السر التى قد تصبح فضيحة فى العلن , فلو أننا رأينا زلة عالم مثلا فنبهناه لها سرا فتراجع هو بنفسه عنها لكان هذا خيرا من أن نعلن خطأه على الناس فيحمله الكبر على رفض الحق , وكون الذنب واقعا على صاحب الجهر وإن كان يقول الحق ..
ولا يستوجب الأمر العلانية إلا عند المكابرة أو عند عدم استطاعة الإنكار فى السر ,
وهذا طبعا فى إطار العلاقة بين أهل الخير ومن فى قلوبهم الخير ومن أولئك الذين يقعون فى الخطأ ــ مهما كبر ــ ولكنهم لا يصرون عليه
أما الإنكار على أهل الباطل المصرين على باطلهم فله قواعده التى تخالف ذلك , فينبغي للقارئ الكريم أن ينتبه للفارق , فالإنكار على أصحاب البدع مثلا أو أصحاب الكفر والإلحاد إذا ظهر باطلهم عيانا لناس ولم يرتدعوا لدين أو خلق , فالإنكار عليهم علانية هو الأصل , ولا تكون السرية إلا لمن يجد فيهم مثقال ذرة من خير للإجابة وإلا اعتبروا الناصح ضعيفا أو متنطعا ..


ومن الدروس الرائعة حقيقة , من هذا الموقف الكريم ..
هو الدرس النبوى الخلوق الذى علمنا إياه رسول الله صلي الله عليه وسلم , وهو ألا نحاكم الناس على حاضر مواقفهم , وننسي أفضالهم السابقة ..
وكثير منا اليوم يقع فى هذا الخطأ الجسيم , حيث يعتبر بعض الناس أن المقربين منهم قد قطعوا ما بينهم من الود لمجرد خطئ عارض وقع منهم , وهذا ظلم كبير ,
إذ أن النبي عليه الصلاة والسلام قدّر الفهم الخاطئ للأنصار , ولم يعاقبهم على أمر ملتبس عليهم , بل أوضحه لهم , ولم يكتف بذلك بل ذكّرهم بفضلهم ومقدارهم , وبأنهم مستحقين لما هو أكبر مما يظنونه مكافأة , وهذا من الدفع الحسن الذى تتآلف به القلوب , فتتماسك بعد مواقف العتاب بأكثر مما كانت متماسكة قبله ..
وفى هذا قال حكماء العرب ( إنما العتاب رفاء الود )
لأن العتاب لا يكون إلا بين المحبين , فحيثما وقع لأحد من الناس موقفا كهذا فرأى من أخيه عتابا له فى غير محله , فلا ينبغي أن يسارع عليه بالإنكار والغضب والإتهام بالظلم وبأن نيته تجاهه سيئة , بل يجب أن يوضح له سوء الفهم بالرفق واللين ويجعل ذلك فى غلاف من المحبة والسكينة ترد للمعاتب عتابه على هيئة مودة أكبر ومحبة أعمق ,
فلا ينبغي للمرء أن يغضب لاتهامه من أخيه ظلما , لأن النفوس مجبولة على الظن السيئ وعلاجها إنما يكون بالحسنى طالما أن العلاقة بينهما وثيقة وتاريخهما معا يسمح بهذه الهفوات ..
ولا ينبغي أن نحاكم الناس على آخر أفعالهم وننسي مآثرهم السابقة , فليس هذا من شيم الكرام , فالعدل والإنصاف خُلُقٌ عربي أكده الإسلام فى القرآن الكريم حيث يقول عز وجل :
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] {المائدة:8}
فإذا كانت الآية الكريمة تحملنا على عدم الظلم حتى فى مواجهة الخصوم الباغين , فمن باب أولى أن نلتزمها فى مواجهة المقربين , وظلم الأخ لأخيه بسوء الظن , إنما هو من الشيطان فلا ينبغي على المظلوم أن يعين الشيطان على أخيه بالرد العنيف على الظلم , بل يجب أن يتلقاه بالإحسان فهذا أدفع لمكايد الشيطان , والنبي عليه الصلاة والسلام يقول ــ فى حديث مسلم ــ :
( إن الشيطان يأس أن يعبده المصلون فى جزيرة العرب , ولكن فى التحريش بينهم )

ومن الدروس الجزيلة فى هذا الموقف أيضا ..
ألا يبيع المرء الآخرة بالدنيا ــ وإن عظمت ــ وألا يرضي الكريم بالدنية ــ وإن كبرت ــ فالأنصار وبمجرد أن أدركوا حقيقة عطاء النبي عليه الصلاة والسلام , أن هذه الأموال تألفا لمن لم يشتد عود إيمانه , إذا بهم على الفور ينسون المال وينسون والعطايا فى مقابل الإحتفاظ بمكان ومكانة الإيمان عند الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ,

وهذا فضلا على أنه واجب دينى محض , فإنه أيضا واجب أخلاقي يشي بطيب المعدن , وهو خُلقٌ طالما افتقدناه فى عالمنا المعاصر حيث يسرع المرء إلى المكاسب المادية ــ حتى لو كانت حلالا ــ مهما كان موقف أخذها موقفا غير كريم , فما بالنا بمن يسارع للمكاسب المادية وهى أصلا من كسب حرام صريح , ولا يبالى فى سبيل المال قل أو كثر من أين المنابع منبعه ,
وإذا كانت الخلق الإسلامى الصحيح يستدعى منا الورع فى الحلال , فمن باب أولى أن نتورع عن ما كان حراما صريحا أو فيه شبهة ..
وهذه الأخلاق العظيمة هى التى وُجِدت بالأصل فى أمة العرب قبل الإسلام ثم جاء الإسلام فتممها وأخلصها لله عز وجل , وهو ما يتضح من حديث النبي عليه الصلاة والسلام :
( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) "[2]"
فالموقف يعلمنا التورع وطلب المعالى فى مواقف الإختيار بين الكسب المادى والكسب المعنوى , وبين أخلاق الكرام وبين أخلاق غيرهم , فضلا على أن مجمل هذا الموقف يعلمنا فضيلة الرجوع للحق والإعتذار عن الخطأ بلا مكابرة أو كثير جدال , وبهذه الأخلاق ربي النبي عليه الصلاة والسلام هذا الجيل فخرجوا أحرارا .. رضي الله عنهم جميعا





الهوامش :
[1]ــ سيرة بن هشام ــ الجزء الثانى ـ فتح مكة ـ المكتبة الإسلامية
[2]ــ رواه البخارى فى الأدب المفرد وحسنه الألبانى فى السلسلة الصحيحة كما صححه بن عبد البر