عرض مشاركة واحدة
قديم 05-27-2016, 01:37 AM
المشاركة 16
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ربع الساعة كاف لأصل إلى المدرسة الجديدة ، سعيدة تكبرنا حجما و سنا ، طويلة قياسا لقزميتنا ، تكاد تكون والمعلمة سواء ، حين تغيب المعلمة هي من تتولى الحراسة ، لكي لا تجد اسمك على لائحة المشاغبين ، يجب أن تعد بتقديم هديّة ، نبدو لها كحملان في رعايتها ، قطعة لحم أو برتقالة أو رمّانة أو حفنة تمر قد تقيك من عقوبة المعلّمة ، سعيدة هي القائدة التّي لا يشقّ لها غبار ، يوما جرّتني من يدي عندما وصلنا قبالة منزلها ، نظرت نحو المعلّمة التي كانت تسكن مع عائلتها في نفس البيت ، قالت المعلمة شيئا شبيها بالأمر فوجب الرّضوخ ، سرت معهما ، دخلت بيتا لا أعرف من ساكنيه غير سعيدة ، ألا تعلمين يا سعيدة أنّني لا أزال برعما ليّنا ، فراشة تذوب أجنحتها تحت الضغط ، ألا تعلمين يا سعيدة أنّ أمي في انتظاري و قلقها لن يسكته غير حضوري ، يا سعيدة كان الأحرى بك مصاحبة ابن عمّتك ، على الأقل لن يحسّ وحشة في دار أخواله ، هو أيضا من أبناء موسى و رفيقي في طريق العودة إلى الدّيار ، جلست إلى مائدة خشبية محاطة برجال بنياتهم وازنة ، أبوهم رجل مرح المجلس ، يسألني عن أحوال عائلتي . نسيت أمي وأبي وجدّي وجدّتي في رحاب أسرة تحلّي الطّعام بالضّحك ، غير بعيد عنا نساء وفتيات بمعية المعلمة تحلقن حول مائدة ثانية ، لكن لم أكرّر تلك الفعلة بعدها ، أتحايل على المعلّمة وعلى سعيدة عند الخروج ، و لم أجرؤ على مشاركتهما الطّريق ، أخاف أن تصطادني مرّة أخرى فتقلق أمّي ويضطرّ أبي إلى الحضور ليطمئن عليّ .

نحفظ ، نتسلى ، نلهو ، نرسم ، نكتب ، نتنافس في المحادثة والتعبير الشفوي ، نلتقط الحساب من فم المعلمة حتى قبل أن تكمل سؤالها ، مرح جدّا أن تكون في القسم الأول بتغزوت ، ظهرت النتائج النهائية ، المركز الثالث هو موضعي ، أحببت هذه الرتبة و هي أقصى ما أصله في سنوات دراستي ، طفل بارع هو من حصّل المرتبة الأولى و طفل أبرع منه هو من حصّل الثانية ، لا تنس قريبي من أبناء موسى هو أيضا انتزع الرّابعة ، و بعدها تأتي أفواج و أفواج من تلاميذ متوسّطي التحصيل . لا أذكر متى غادرت سعيدة فصلنا ، لكنني أتذكر جيدا عندما وبّختها المعلمة يوم علمت أنّها تتلقى الهدايا من التلاميذ وأن لوائح الشغب مغشوشة .
حذار أن لا تحفظ يوما يا نورالدين فيتوج رأسك بأذنين و رقيتين ، يا ليتهما كانتا لأرنب أو قطّة ، لا.. لا.. إنه الحمار ، أخذت حذري بما يكفي و يزيد لكنني ذات كبوة ارتقيت إلى رتبة حمار .
قد تختلط ذكرياتي في المستويين الأول والثاني ، لكن المطعيات لا تتبدل هم ذات الأولاد والمعلمة عينها ، فقط ما يميّز السنتين هو مسكن المعلمة ، ذات يوم وصلني الدور ، فالمعلمة لا تستطيع المبيت لوحدها في سكنها الجديد ، و الحلّ لن يكون سوى أن تختار كلّ يوم طفلا يؤانس وحشتها و يدفع عنها بعبع الظلام ، و ربما يدفع عنها شر متهور قد يتجاسر و يتسلق حائط البناية ، يومها أحضرت من منزلنا خبزا وخضرا ولحما و لوزا و بيضا وغيرها ، ما أن دخلت الدار حتى أحسست بروحي ستغادر كياني ، سكنت حركتي و اعتراني وجوم عجيب ، أعطتني المعلمة كرسيا وجلست قرب باب غرفتها و الشمس ماضية للغروب ، كناشي بين يدي أقرأ فلا أعرف ماذا أقرأ ، أحفظ و لا شيء يلتصق في ذهني ، حلّ الظلام فدخلت الغرفة والمعلمة في منامتها ، تكتب وتكتب ، أنهت كتابتها وأنا لا أزال أستبدل كتبي التي تعذر عليّ استيعاب ما تحمله ، وضعت المقلاة على الموقد و الشمعة تصاحب سمرنا ، سمعتها تغني أغنية ، قشرت البطاطس و قطعتها قطعا رقيقة ، لأول مرة سأتناول عشاء مرّاكشيّا ، لقد زرت مراكش عندما كنت صغيرا ، أبي يقود السيّارة متسلقا منعرجات تيزي نتاتست ، ما أن ترتفع أبواق السيارة عند كل منعرج حتى أحاكي جرسها برنين خفيف من شفتي تيت تيت ، هكذا تحكي أمي ، كان طعم البطاطس غريبا ، لولا الخوف لقذفت به بعيدا ، شهيّتي أيضا مقبوضة .
في الصباح انشرحت لما وجدت الدنيا كما تركتها ، الشمس تطل باسمة من وراء الجبل ، النساء يحملن قفافهن متوجهات إلى الحقول ، ماء الساقية متدفق رقراق ، ملأت جوفي من هواء الدنيا الفسيحة ، في القسم تعجبت المعلمة عندما تطرح سؤالا و لا أستطيع الإجابة .