الموضوع: قميص الحكايات
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
10

المشاهدات
2443
 
صبا حبوش
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


صبا حبوش is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
397

+التقييم
0.08

تاريخ التسجيل
Mar 2011

الاقامة
الرياض

رقم العضوية
9765
05-10-2020, 07:36 AM
المشاركة 1
05-10-2020, 07:36 AM
المشاركة 1
Post قميص الحكايات
لم أعد أشعر بتأنيب الضمير تجاه أنوثتي، باتت الرجولة هواية أتقنها، سرعان ما تحوّلت إلى مهارة محكمة، كبرتُ أمام الجميع وداخلي لم تزل تلك الطفلة ، تحبو بضفائرها فوق أرصفة اللهو ذهابا وإياباً.
أقف الآن أمام عربة التفاح التي تركها أبي فخورةً بثوب الهرم الذي ألبسوني إياه عنوةً، يمرّون كلّ صباح من أمامي ليغرقوا على مسمعي عبارات الشجاعة والمروءة " أنت بألف رجل يا سعاد"، يظنون أني سعيدة حين أكون بألف رجل، بينما روحي تغوص بين حقائب فتيات المدارس، وتغرق في شلال حزنٍ لم يشعره ألف رجل.
كبرت قبل أن أكبر، وازدهى وجهي بملامح الصبية الذين تمرّسوا تلميع أحذية المارة بين أزقّةٍ تفوح منها رائحة العطور الفرنسيّة، بينما حواسهم الخمس اعتادت أبخرة الحاويات المنتشرة بكثرة حيث ترعرعوا.
صباحي اليوم كان ضبابياً على عكس الأيام الماضية، خلت التفاح المبعثر فوق العربة يناظرني بحنق، وددت لو بإمكاني قلب العجلات، ورميه أسفل الطريق الملوثة بمياه الصرف الصحي الذي يغرق فيه حيّنا .
مضيت برفقة العربة دفعاً ووقوفاً حتى وصلت مكاني بجانب الرصيف النظيف الذي يفصل حيّنا بشارعين عن الحي الذي يختلط هواؤه بالعطر عوض الأوكسجين الملوث الذي نستنشقه نحن المغمورين بحبر القدر.
اقترب مني مجدداً ككل يوم ، ببدلته السوداء الفارهة، وحذائه الجلدي اللامع الذي يعكس صورة وجهه بوضوح .
-صباح الخير يا حلوتي، أريد تفاحاً أحمر اللون، هلّا تملئين لي القليل منه.
-في الحال يا سيدي.
مدّ يده بورقة نقدية ستمكّنني من شراء التفاح ليومين إضافيين، أصابعه للمرة الثالثة تسحق أصابعي بقوة، ونظراته المخيفة تجعل سعاد تختفي داخلي ليظهر دون إنذار الألف رجل.
وككل مرة يغادر فيها عربتي، أراه من بعيد يناول كيس التفاح لحارس إحدى الشقق ويمضي داخل سيارته، لا أنكر أني أتوجّس منه، كبرنا في الحي على عبارات أكبر منا " الفقر قدرنا، لكن العار اختيار".
قليلة قصص العار في حيّنا ، النساء يعملن بكل شيء عدا بيع الجسد، وحدها بثينة التي خرجت عن قوانين المكان، حين حاولت الخروج من حفرتها وسلكت حُفر ذلك الحي المتبرج، جمالها لم يكن عادياً، فتنت أحد الأثرياء، وأصبحت عاهرته المدللة، لم يعد الحي يعجبها ولا زوجها، عندما بدأت ترتدي الملابس الفاخرة وتضع مساحيق التجميل، صارت حديث نساء الحي ورجاله، حينئذ لم يعد باستطاعة زوجها رفع رأسه إلا ذلك اليوم الماطر من أول أيلول، حين استفاق الناس على خبر موتها أو كما قيل غسل العار الذي لحق به، بعد أيام عادت الحياة إلى طبيعتها في الحي، واستلم الناس قصة أخرى بعيداً عن بثينة و زوجها، وتعرّف الثري إلى عاهرة أجمل .
مضى على موت بثنية سنتان، كنت في الخامسة عشر من عمري، ومازالت حتى الآن كلمات النسوة عنها ترنّ داخل أذني، ذلك الرجل الثري يذكّرني بها أيضاً؛ لذا أبغض رؤيته رغم تظاهري بالبشاشة .
كان يومي جميلاً قبل أن أراه يقترب نحوي، طلب بعض التفاح، وفوق العربة رمى ورقة بيضاء ومضى قبل أن ينطق كلمة واحدة: " لا تتأخري".
عنوان المسكن ورقمه بخط أسود صغير، ما الذي يريده هذا الغني القذر؟ هل يظنني فتاة صغيرة يستطيع التلاعب بها؟ لكنني لست بثينة ولست سعاد خلف هذه العربة .
مرت أيام دون أن أراه من جديد، عندما أضع رأسي فوق الوسادة كل ليلة أحمد الله على هذه النعمة، نحن فتيات الحي لا نسعى خلف المشاكل، تأمين لقمة العيش البسيطة أكبر طموحاتنا، هذا لا يعني أني لا أتمنى حياة الفتيات في الحي المجاور، ولكن ما الفائدة من ولادة الحسرات و الواقع يعاكس جميع الرغبات! النساء بيننا أشبه بالرجال، يعملن تماماً كما يعمل الرجال وربما بصورة أقسى وأكبر، ومع ذلك ما زلن يحملن وينجبن ويقمن بدور المرأة الطبيعية.
استيقظت الساعة السادسة صباحاً على صراخ أمي في الخارج، تجمّع الجيران حول منزلنا، كادت شتائمها تخترق آذان البيوت بأعلى طبقاتها الصوتية:" أولاد الحرام سرقوا العربة ".
كان صوتاً داخلياً يجيب النداء " هو يا أمي " ، رغم تظاهري باللامبالاة ، كنت أشعر بشيء من انقباض القلب، هؤلاء الأثرياء لا ينتظرون منا الإجابة، يسرقونها منا عنوة رغم أنوف أكبر رجل فينا.
هدأت أمي قليلاُ وانتشر رجال الحي بحثاً عن العربة بين البيوت المجاورة، رغم إيمانهم أنّ الفقير منا لم يسبق له سرقة أحد، لكن لا حيلة أمامهم سوى المحاولة .
مضى أربعة أيام وأنا أهدئ من حزن أمي، ليست المرة الأولى التي تحزن فيها، منذ إنجابها أربع فتيات، وبعد وفاة والدي، وعند سقوطها في إحدى حفر البناء الغير مغلقة منتصف الشتاء الماضي، وبعد عودتها من عملها في تنظيف حمامات أحد المطاعم، ومنذ و منذ.
لا أدري لمَ أخفيت عنها قصة ذلك الرجل، كنت أخاف أن أضيف إلى قلبها همّا جديداً، يُغلّف وساوسها فتحزن لعدم إنجابها الذكور، وسط هذا المستنقع الذي نكبر فيه ونغرق يوماً بعد آخر.
بعد يوم مشوش بألف فكرة، قررت اتباع العنوان، سلكت أخيراً هذه الشوارع النظيفة، لا بؤر ماء طينية أو نفايات، السيارات الفاخرة تملأ المكان، كانت المرة الأولى التي أدخل فيها هذه الأحياء، ورغم ذلك لم يقذفني الانبهار بعيداً، حالة لا يمكن وصفها تلبّستني، من يصدّق أني بين هذه البيوت، والأبنية الراقية جئت لاهثة خلف عربة لا تساوي قيمتها حصى هذه الأرصفة.
المجمع السكني رقم١٣، بقي شارع وأصل إليه، تحت أصابعي شيء ما يغلي، وأقدامي ترتعش تحت حدود مكابرتي، لا أنا لا أخاف ، لا شيء مخيف، لا عصابات تجارة أعضاء هنا أو خارجون عن القانون، ومن يدري ربما هذا الحي لا يحوي إلا هذين الصنفين، بين لا ولا دخلت أفكاري في نوبة صراع مع الذات، قررت للحظة أن أعود من حيث أتيت، وأنسى أمر العربة وكل ما يخصّها، لكني الآن أقف أمام الرقم١٣ لقد وصلت والعربة ستخرج برفقتي.

أمام البناء الضخم المسيج بشجيرات الزيزفون غرفةٌ صغيرةٌ يقطن داخلها رجل أربعيني، مددت له الورقة، أجرى اتصالاً سريعاً ثم أرشدني للداخل، ممر طويل أشبه بحديقة زرتها إحدى المرات وسط المدينة، أشجار سرو باسقة تحيط من الجانبين، وأعمدة حديدية تتسلقها دوالي العنب الأحمر، كنت في ذهول تام، قبل أن يظهر أمامي ذلك الرجل صاحب الحذاء اللامع، ملابس بيت فضفاضة من الحرير وأسفلها الحذاء ذاته.
بوجه مبتسم أشار إليّ بيده لأسرع خطواتي قائلاً:
-حضرتِ أخيراً، كنت أعلم أنك لن تتأخري أكثر.
لم أنطق بكلمة، تلعثمت الكلمات فوق لساني، أو ربما جفّت تحت تأثير جسدي المرتعش.
-تأخرتِ عن الموعد أربعة أيام، لن أستفهم الأسباب المهم أنك عدت إلى رشدك في النهاية.
-عذرا منك سيدي أنا فتاة أعيل عائلتي، لا أحبّ المشاكل وافتعال الهموم لأمي، أرجوك أريد العربة لا شيء آخر.
وقبل أن أكمل قاطعني:
-وأنا لا أحب المشاكل، من يسلك طرقاتي لا يتعب، ولكن حين تخيب آمالي ورغباتي، أبحث عن المشاكل لأحلّها، حين رأيتك المرة الأولى خلف تلك العربة، شعرت برجل مزيّف يُخفي تحت قميصه المخطط الواسع وجهه الحقيقي، لا تستغربي فعيناك لم تُخلقا لرجل، أرى داخلهما أشياء عديدة لا يمكنك أن تريها.
كانت أول مرة أرى فيها ظهري عارياً، ورغم ذلك حاولت السيطرة على معالم وجهي.
-أرجوك يا سيدي أمي لا طاقة لها لتحمل المزيد من التعب والهم، لم أبع جسدي من قبل، ولن أفعل، ولو كلفني الأمر حياتي .
- ومن أخبرك إني أريدك كذلك؟
ستعملين معي بمعدل ساعة يومياً، أدفع لك قيمة التفاح الذي تشترينه خمسة أضعاف، لن يكون في الأمر ما يزعجك، لا تقلقي، من الرابعة إلى الخامسة يومياً ، ربما لمدة شهر أو أكثر، أراك غداً.

أشار إلىّ الرجل بمرافقتي ومضى.
كان الإياب أكثر ثقلاً فوق قدمي، بين فكرة وأخرى وجدت نفسي فوق رصيف حيّنا، ومن نهاية الشارع كانت زغاريد أمي تصل السماء، وهي تتلمس العربة من جديد أمام المنزل، وكذلك أنا كنت أزغرد معها، وقلبي يعصره ذلك الحديد المطوّق حول العجلة اليسرى.
في اليوم التالي بعت كل التفاح، وكانت أول مرة أعود إلى أمي بربح يومِ كامل، رأيت السعادة في عينيها، وكان هذا جلّ سعادتي، تدبّرت أمر الساعة اليومية بكذبة بيضاء مرّت عليها، رغم الضباب الذي يحوم حولي، كانت بشاشة وجهها تثبّت قلبي، لن يحدث إلا ما كتبه الله لي، فلمَ الجزع؟!
سلكت طريقي نحو المسكن رقم 13، أرشدني الرجل إلى الداخل مرة أخرى، بينما كنت أغرق في تفحّص التحف الجميلة داخل الحائط، أقبل بصوته المبتهج :
- سررت بلقائك مجدداً، أنا راسم.
- وأنا سعاد.
- سعاد..اسم جميل ، ربما لو أردت أن أناديك باسم آخر لكان سناء، المهم دعينا نبدأ ولا نضيع الوقت، اتبعيني .
سرت خلفه، وأمام السلم الطويل، دخلنا غرفة كبيرة، جدرانها تحمل الكثير من الكتب، رفوف ، محابر، منضدة مرتّبة بعناية، بعض الأعواد المشتعلة التي تصدر عطوراً فوّاحة، كل شيء هنا وُضع بعناية، خلت للحظات أني داخل غرفة من الأحلام، تلك التي تزور الفقراء مرة واحدة في العمر.
_ لم أرَ أجمل من هذه الغرفة يا سيدي، هل تريدني أن أزيل الغبار عن جميع هذه الكتب؟
كانت الفكرة الوحيدة التي خطرت في مخيلتي، فأنا في هذا المكان لا أصلح إلا لمجالسة الغبار.
أخرج بعض الأوراق من داخل كراسة سوداء، وراح يقلّبها معقّباً:
_ لا تستخفي بنفسك، اسمعي جيداً ما سأقوله، لو أتيحت لك الفرصة لتجالسي قلماً وورقة واحدة يومياً، لخرجتِ في نهاية كل عام بكتاب جديد، ما تفعلينه كل يوم خلف تلك العربة ، لا يمكنني الاستخفاف به، ليس أمراً بسيطاً على الإطلاق.
أنا كاتب ومهمّتي أن ألتقط الأحداث وأفتعل لها النهايات، لكني منذ سنتين سئمت الكتابة عن الأشخاص ذاتهم والمجتمع ذاته، ذلك الحي الذي تقطنين فيه هو غايتي، تفصل بينه وبين مسكني إشارتا مرور، وخلف كل حائط من حيطانه تكمن حياة مختلفة عمّا يحيط بي، بدأت البحث داخله واستشفاف العديد من الصور عنه منذ سنتين تقريباً ولم أنتهِ، توقّف قلمي فجأة ولم أعد أرى داخلي ذلك الشغف في البحث، حتى لمحتك خلف العربة عند ذلك الرصيف، أيقنت دون تفكير أنك ستكونين عوناً ممتازاً لمخيلتي لإكمال ما بدأت به.
- أنا!
- نعم، أنتِ، سنتكلم يومياً عن جميع ما تعرفين من قصص وأحداث عن أهل الحي، الأطفال والنساء والرجال، كل شيء، البيوت والطرقات، ما تتكلم به النساء، وما يقصصه الرجال، ستكون هذه مهمتك حتى أقول لك "اكتفيت".
- لستِ الأولى التي استعنت بها لاستفزاز أفكاري ومخيلتي، لكني حتى الآن لم أنجح في إغلاق ذلك الكتاب، كنت أخال أنّ الكتابة عن حياة الفقراء أمراً بسيطاً، لكنّي اكتشفت منذ فترة أنّ الأمر أعقد مما تصورت، دعينا نحاول.
مرّت ثلاثة أسابيع على عملي الإضافي، أجلس أمام راسم، أسرد له أحداث بيوت حيّنا ، وكان بعض ما أقوله لم يحدث فعلياً، من الواضح لي أنه سعيد بما يسمع، وكذلك أنا سعيدة بما أقبض لقاء ما أسرد، البارحة اشتريت قميصاً جديداً ضيق الذراعين والأكتاف، و بنطالاً وحذاء، أخبرت الجميع أني أعمل في تنظيف أحد البيوت ساعة يومياً، وسارت الأمور كما أحبّ.
قال لي راسم اليوم أنّ مهمّتي قد أُنجزت، طلب مني البقاء لتناول الطعام, وغادر إلى مكان ما، ولج داخلي بعض الحزن، تمنيت أن أستمرّ عاماً كاملاً في سرد القصص له وإضافة ما يخطر فوق أفكاري ، حلمتُ يوماً أن أكون مثله، لي ورقة وقلم، كم أحببت هذه الغرفة! كنت فيها فتاة أخرى ذات قيمة، أردت أن أحفظ جميع تفاصيلها قبل أن أغادر، بالقرب من المكتب غرفة داخلية صغيرة ، لم أنتبه إليها من قبل حيث كان راسم يجلس هنا دائماً، دفعني فضولي نحوها دون تفكير.
حين أدرت مقبض الباب كان الظلام مهيباً، لم أستطع رؤية شيء، أنرت الضوء الجانبي فأحسست باختلاج فوق مسامات بشرتي، رأيت الكثير من العربات، بعضها بجانب بعض، الغبار غطّى أسطحها كأكوام من رمال، وفوق إحداها لمحت قميصاً مألوفاً لي، مرّت الصورة أمام عيني بسرعة البرق، أذكر جيداً كيف كانت ترتديه بثينة، وتفكّر في حرقه حين تحلم أنها ستربح ذات يوم ورقة يانصيب .
تركت خلفي كل شيء في ذلك البيت، وهرعت نحو منزلي، أريد أن أخبر أمي وجميع أهل الحي؛ "بثينة لم تبع جسدها" ، كيف سنغسل ألسنتنا التي تلوّثت بقصصٍ لم تقع ولم تكن منها في شيء، كانت تبيع قصصاً عن الفقر لتجرّب بعض طقوس الأغنياء.
حين وصلت رأيت أمي تجلس أمام باب المنزل، ودموعها توشم وجنتيها، وكذلك رجال الحي كانوا ملتفين حول عمي الذي أبصرني من بعيد، لم أفهم ما يجري إلا حين بدأ صراخه بالعلو وهو يبعثر مفرداته:
_ عاهرة، لن تفلتي من يدي، الحمد لله أن أباك لم يعش ليرى ما أرى .
في يده اليسرى سكينة تنتفض داخل أصابعه، أخواتي يحدقن بي، ويرتشفن دموعهن بصمت بجانب أمي التي لم ترفع نظراً إلي، وأنا فوق الحفر أجري لأهرب مما لا أعلم، وقميص بثينة بحكاياته لايزال معلقاً فوق عيني.


نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


https://sebaahaboush.blogspot.com/
باحثة عن الرّوح..