عرض مشاركة واحدة
قديم 01-17-2021, 12:21 PM
المشاركة 4
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي رد: القصة الفائزة بالمركز الخامس
الأستاذ خلف سمحان القرشي

قراءة في قصّة (حدث في الحافلة) للقاصة فاطمة الزهراء محمد رجب :
____________________________
لعلَّ أبرز ما يستوقف المتأمل في قصَّة (حدث في الحافلة) الفائزة بالمركز ..... في المسابقة، هو قدرة القاصة على التكثيف، وهو الملمح الأهمُّ، والسمة المميزة لفن القصّة القصيرة، وبه ومن خلاله تتباين براعة الكتّاب وموهبتهم.
في القصّة _التي بين أيدينا_ تكثيفٌ للحدث، واقتناصٌ ذكيٌّ لمدَّةٍ زمنيَّةٍ محدَّدةٍ، وجعلها محورًا للقصّة؛ تلك اللحظة التي بدأت من حين مغادرة بطلة القصّة للعيادة النفسيّة، مرورًا بصعودها الحافلة التي أقلَّتها إلى بيتها، وانتهاءً بمحادثةٍ قصيرةٍ جدًا بينها وبين زوجها أوَّل دخولها البيت.
وهنا أشير إلى نقطةٍ مهمّةٍ وهي أنَّ كثيرًا من كتّاب القصّة المبتدئين يجهلون التعاطي مع المدّة الزمنيّة التي تستغرقها القصّة القصيرة، ويخلطون بين الزمن الممتد الذي تتيحه الرواية، وذاك المحدود الذي ينبغي أن تتضمنه القصّة القصيرة. الرواية تسمح بامتداد الزمن أيامًا وليالٍ، شهورًا وسنوات، وأحياناً عقودًا وقرون، وهذا بخلاف زمن القصّة القصيرة الذي ينبغي أن يكون محدودًا بفترة زمنيةٍ محدَّدةٍ كأن يكون ساعةً أو بضع ساعاتٍ متصلةٍ، وهو ما تحقق باقتدارٍ في هذه القصّة.
لم تقتصر براعة الكاتب على تكثيف الحدث والزمن القصصيِّ فحسب، بل امتدت إلى تكثيف اللغة، فعدد كلمات القصّة لم يتجاوز الثلاث مئة كلمةٍ فقط، ورغم ذلك أتت القصّة مكتملة الأركان والسمّات من شخصيَّات وحدثً رئيسٍ، ولحظة تنويرٍ، ونهايةٍ مقنعةٍ، وبيئةٍ زمانيّة ومكانيّة، ونحو ذلك.
لفت نظري في القصّة أيضًا عنوانها (حدثٌ في الحافلة)، بجانب كون (الحافلة) في القصّة بعدًا مكانيًّا وقع فيه أهمُّ حدثٍ في القصّة، التقاء البطلة بالمرأة العجوز التي كانت تبكي بكاءً مرًّا بسبب تجاهل زوجها لها، وخياناته لها مثلها مثل البطلة تمامًا.
وقعت وحدثت لحظة التنوير الفارقة بالقصّة في الحافلة أيضًا، وعبَّر عنها هذا المقطع القصير:
"أتى زوجها وقال بلهجةٍ آمرةٍ: "هيا بنا لقد وصلنا"، وكانت المفاجأة حين نظرت إليها، وقد أنار وجهها، وابتسمت، وقالت له: " حسنا يا حبيبي". لوهلةٍ خلت نفسي أنا التي تتحدث، وليست هي. يا الله أهذا يكون مصيري!"
أحسب أنَّ الحافلة في القصّة رمزًا أو مكافئًا للحياة، فالحافلة تحمل أعدادًا من النَّاس إلى مبتغاهم، وهكذا هي الحياة تقودنا نحو أهدافنا وطموحاتنا فمنا من يصل، ومن يخفق في الوصول، ولكن الحافلة نادرًا ما تخطئ في إيصالنا إلى الأماكن التي نريد، ولكن هل اختيارنا الذهاب إلى تلك الأماكن صحيحٌ دائمًا؟

في الحافلة وجدت بطلة القصّة إشارةٌ التقطتها كأفضل ما يكون الالتقاط، وهكذا هي الحياة، تمنحنا دائمًا إشاراتٍ خفيّة وعميقةٍ ومهمّةٍ لكننا قلَّما ما نلتقطها، ولهذا يقول المتن الصوفيِّ في واحدةٍ من أكثر رسائله عمقًا ودلالةً:
"من لم تكفه إشارتنا لن تسعفه عبارتنا".
لحظة التنوير التي منحتها الحافلة/ الحياة لبطلة ، لحظة فارقةٌ بين حياة البطلة قبلها، وحياتها بعدها. قبل تلك اللحظة كانت سارة بطلة القصّة راضخةً مستكينةً لقدرها، متحملةً نزوات زوجها، وخياناته المتكررة لها، وإهماله إيّاها جسدًا ومشاعر، وكلُّ ذلك تحت مبرراتٍ وهميّة، وأسبابٍ واهيّةٍ وفرضيّاتٍ خادعةٍ عبّرت عنها في قولها لطبيبتها النفسيّة:

"- أنت تطلبين مني المستحيل، فلن أستطيع الحياة معه بعد مواجهته، فالمواجهة بالنسبة لي تعني الانفصال والفراق الحتمي .وكيف أفارقه وهو وطني وحبي وكل آمالي وأحلامي بل هو أنا. أيفارق المرء نفسه يا دكتوره "!
تغير الحال بعد لحظة التنوير الفارقة تلك، وحقَّ له أن يتغير بعد التقاط البطلة للإشارة، فقد قرَّرت مواجهة زوجها:
" عدت إلى بيتي فوجدته متكئًا على أريكته ممسكًا بهاتفه غير عابئٍ بدخولي.
- خالد ... أريد أن أتحدث إليك.
- ليس الآن يا ساره فأنا مشغول.
- دع من تراسلها يا خالد، لن أطيل عليك، فحديثي لك سيكون الأول والأخير."

لعلّ من جماليَّات هذه القصّة أيضًا تضمنها أكثر من ثيمة ومغزى أتت ضمنًا بشكلٍ غير مباشرٍ، وهذا من سمات الأدب الأصيل أيًّا كان جنسه، ومن تلك الثيمات:
• خوف الإنسان من التغيير والخروج من منطقة الراحة يضيع عليه فرصًا حياتيّةً رائعةً لعلَّ منها حيازته التامة للأنا، والحصول على التقدير الذي يستحقه، وعدم عيش الحياة كيفما أتفق، أو على هامشها فقط، وهذا كان حال بطلة القصّة قبل لحظة تجلي الحقيقة، وهو أيضًا حال المرأة العجوز _التي كانت تبكي في الحافلة_ طيلة ما مضى، وما بقي _فيما يبدو_ من حياتها.
• تفريط الإنسان في حقوقه، وعدم مطالبته بها كاملةً، وعدم وضع حدٍّ لأوِّل انتهاكٍ لها من قبل آخرين، مدعاةٌ لاستمرار وتتالي ذلك الانتهاك، مما يجعل الخرق متسعًا على الراقع عند محاولة الرتق لاحقًا، ثمَّ أن الحقوق التي يُسْكَتُ ويُصْمَتُ عند انتهاكها مرَّة تلو أخرى، يجعل منها حمى مستباحًا للآخرين لا يرون بأسًا ولا حرجًا في مصادرته في كلِّ حينٍ وآنٍ، ودونما أيّ خوفٍ أو وجلٍ أو شعور بأدنى تأنيبٍ للضمير. ويمكن هنا استعارة المقولة الماديّة الشعبيّة المشهورة: "المال السايب يعلم السرقة".

كاتبة القصّة استخدم الحوار بحرفيّةٍ عاليّةٍ، واستثمر خاصيّة التكثيف التي أشرت إليها سابقًا في تكثيف الحوار. انظر إلى العبارات:
"ضاع مني عمري"!
"معي وليس معي"!
"فحديثي لك سيكون الأول والأخير"!
وتأمل معي أيُّها القارئ في عمق هذه الكلمات البسيطة، وقوتها وتأثيرها، وقدرتها على اختزال مئات الكلمات.
لاحظ بتمعنٍ قول البطلة في آخر عبارةٍ في القصّة:
"فحديثي لك سيكون الأول والأخير"!
لم تقل البطلة هنا "حديثي معك"، بل قالت "حديثي لك" وشتانٌ بينهما. إنَّها لن تجر معه بعد تلك اللحظة أيِّ حوارٍ، ولكنه ستبلغه بخبرٍ / قرارٍ، وتمضي لحال سبيلها، لذا قالت "حديثي لك" ولم تقل: "حديثي معك"!
هذه الومضات الإبداعيّة البديعة لا تأتى لقاصٍّ إلا بعد قراءات عميقةٍ في مئات ويمكن آلاف القصص؛ قراءاتٍ بعين الكاتب المتأمل المتدبر الذي يحلل النصوص التي يقرأها ليدرك جوانب الجمال فيها فيستثمر منها ما يمكنه استثماره بشكلٍ حرفيٍّ في كتاباته لاحقًا، ويتلافى ما عدا ذلك، واضعًا بصمته الإبداعيّة الخاصّة به.
نهاية القصّة جاءت متسقةً ومتماهيةً مع لحظة التنوير الفارقة التي سبقتها. وقد وفق الكاتبة في جعل عبارةٍ حواريةٍ أبلغ من حدثٍ دراماتيكيٍّ. ألفت نظر القارئ الكريم هنا إلى أنَّ حرفيّة القاصة، حالت دون أن يطيل من الحوار في ختام القصّة، فهو / هي لم يجعل / تجعل هناك أخذا وعطاءً بين البطلة وزوجها، ولو حصل هذا لأفسد بنيّة القصّة كثيرًا، ولذهب بأجمل ما فيها وهو التكثيف على مختلف المستويات.
شاب القصّة أخطاءٌ لغويّة كان ينبغي على الكاتبة تجنبها لأنّ نصًّا بهذا الجمال من ظلمه ألّا يصلنا في لغةٍ سليمةٍ نحوًا وإملاءً وعلامات ترقيمٍ.
هذا غيضٌ من فيض من وحي هذا القصّة الاستثنائيّة حقًا. والتي نرجو لكاتبتها مزيدًا من الألق والتميز والإبداع، ولمثل هذا فليعمل العاملون.
__________________________
ألف مبارك للأستاذة القاصة فاطمة الزهراء محمد رجب
الفوز عن قصتها ( حدث في الحافلة )
وأكتفي بتعليق الأستاذ القاص خلف سمحان عن القصة
فقد أشار بدقة إلى مواطن البراعة في القصة ، البعد الزماني والمكاني
أمتعني جداً هذا التعقيب
فألف شكر
وإلى الأمام إن شاء الله
تحية ... ناريمان