عرض مشاركة واحدة
قديم 04-19-2012, 10:17 PM
المشاركة 440
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الرواية الجدية والحداثه: فساد الامكنة والمشرط
المصدر موقع : كتاب من اجل الحرية
صلاح الدين بوجاه*


إننا إزاء مشاهد خارقة ترى فيها المسموعات وتسمع المحسوسات والملموسات. فقد ولدت اللقيا بين البحر والجبل والمدينة والصحراء والسماء والأرض وأعماق المناجم فضاء جديدا خارج الحدود والأطوار، هو فضاء الرواية، الذي تقام فيه الطقوس والشعائر البدائية وتنذر القرابين. ويبدو أن رحلة الصيد التي يصحب فيها الملك الصغيرة «إيليا»، يلوثها وينتهك براءتها ويدفع بوالدها نحو الجنون، تمثل أوج هذا النص الفاجع.


د. صلاح الدين بوجاه*


أغوتني الروايتان بنصيهما اللطيفين، «فساد الأمكنة» لصبري موسى و«المشرط» لكمال الرياحي، فسرت أسعى إلى تعليل اندفاعي نحوهما بالمزيد من الرجوع إليهما والغوص فيهما. وهما رغم تباعدهما في المكان والزمان سرعان ما تكشفان عن الكثير من التماثل، خاصة في مستوى كسر عمود المكان والزمان، وكثرة الشخصيات وتداخل أفعالها. فنتأمل كلا منهما عسى أن نخرج باستنتاجات مشتركة.


إننا، مع «فساد الأمكنة»، إزاء نص نادر، رغم سهولة البحث له عن أصول ووشائج تصله بمرحلة الستينات، في الرواية المصرية. ويبدو أن إيقاع «الموال» هو الأنسب للتعامل مع رواية تجمع بين الأغراض الإنسانية الكبرى، وبناء «النشيد» الذي يبقى حكرا على كتابات الشرق القديم، وما تناسل منها من مدونات تحاورها أو تتعامل معها، لهذا، ولسواه، من السهل جدا أن نقع في هوى هذه الشخصيات التي تتحرك وسط ديكور بدائي، يحيل على العالم قبل ظهور الخليقة، وصور شخصيات مستعارة من الواقع والأسطورة في آن واحد، ويتناول أحداثا يعسر تخيلها خارج هذا الإطار.


والرواية تبطن أشتاتا من العجائبية السحرية النابعة من تراث عشائر الجنوب. فالبناء الداخلي ينسجم مع المرجع الخارجي واللغة، ليصهرهما ضمن رؤية واحدة تولد واقعا جديدا مختلفا: إنه عالم الرواية، حيث يعيد المبدع تنظيم الكائنات وتصنيفها، حيث يشوش الوجود ليبتدعه من جديد!


«اسمعوا مني بتأمل يا أحبائي، فإني مضيفكم اليوم في وليمة ملوكية، سأطعمكم فيها غذاء جبليا لم يعهده سكان المدن بينما أحرك أرغن لساني الضعيف وأحكي لكم سيرة ذلك المأساوي نيكولا..». «اسمعوا مني يا أحبائي..» بهذا النداء يأسر صبري موسى قراءه قصد الإيقاع بهم، بهذا النداء الذي يحدد هذا البناء الفني كيانه الآسر والذي يلتهم كل ما عداه.


لهذا يبدو أن الصحراء تستحضر البداية والنهاية، تستدعى المدينة والبيداء، يقول صبري موسى: في الصحراء حياة كاملة تجمع بين البدو والمناجم ومشروعات التعدين. لأنها منطقة ثرية للغاية. كان يخيل إليّ أنني أول من يضع قدمه على ترابها..!


والمكان يتخطى المفرد نحو الجمع لاستعادة مواطن شتى ومناخات كثيرة: نظير جبال القوقاز، وجنوب إيطاليا، والقاهرة، وتخوم السودان، فضلا على أغوار جبل الدرهيب حيث تستخرج خامة «التلك» داخل سراديب الأعماق.


هذه هي السمة الغالبة، القائمة على معنى الإطلاق، رغم إيحاء النص بأنه لا يعدو أن يصور المرحلة الأخيرة من نفوذ الأسرة المالكة في مصر، قبيل الثورة الناصرية، حيث كان من السهل أن ينقض الخواجات الأجانب على أحد المناجم المتناثرة في الجنوب المصري، يشتغلون ويساومون ويداورون ويبتزون!


ومن الواضح أن منطق السرد في هذه الرواية يعتمد الحذف والاستبدال والتكثيف والإشارة والتضمين، لكنه يستعمل فنيات «الإرجاء» بلا منازع، لذلك يبدو مبدأ التصريح والإعلان ضامرا إذا ما قورن بمبدأ الإهمال والتغاضي!


تستهل الرواية بفصل افتتاحي موسوم بعنوان «الدرهيب، ملمح شبه نهائي» يوحي بالبداية والنهاية، بالفتح والإغلاق، في وقت واحد. في هذا الفراغ المطلق يبدو «نيكولا» شبه عار عند قمة الجبل «مؤرجحا على حصى دقيق من مكعبات الرخام ذات الأسنة والقواقع المهشمة من مليون عام، ثم يبرطم بلكنة ركيكة سبابا عربيا وهو يتأمل الفناء المخرب المهجور أمام البيوت حيث كانوا يروحون ويجيئون ويعملون ويأكلون ويلعبون». مرتكز الثقل في كل هذا يحوم حول فاجعة العبث بالمحارم التي لم تحدث أو قل «الفاجعة» التي خشي نيكولا حدوثها.. فعلا هذا الخوف يملأ جوارحه هلعا وترددا وارتقابا.


وتتوالى المقاطع في شكل تبرير تدريجي للمشهد الافتتاحي، حتى ندرك الفصل الأخير الموسوم بـ«فصل ختامي» فنجد أنفسنا، عودا على بدء، إزاء الملمح نفسه: ثلج وخراب.. و«نيكولا يتأمل البيوت الخشبية حيث كانوا يروحون ويجيئون، يعملون ويأكلون ويلعبون». ونحن لا نشك في أن الأسطورة والحلم يدعمان هذه البنية القائمة على التفكك والعود الأبدي.


والملاحظ أن «فساد الأمكنة» رواية توغل في اعتماد لغة شعرية صافية. ولنا أن نشير إلى شذرات قليلة يمكن أن تكون من قبيل الجزء الدال على الكل:


- «لم لا تخوض مباشرة في اللحم المبلور للمأساة؟»


- «مكان من الأرض تعتبر فيه المرأة علفا لأسماك الشهوة»


- مضمخ برائحة الجبال المزهوة بعريها تحت الشمس»


- السبيكة.. كأنها درع يحتمي به من الشرور المجهولة»


- الفجر لا يزال جنينا في الأفق»


ومما يسمح بمثل هذا التكثيف الشعري ذي السمات الأسطورية استخدام الكاتب عدة فنيات وصياغتها ضمن قوالب تجعل من الجبال والصحارى، والإنسان والمعادن، عناصر تتفاعل في فضاء غير نهائي، في أرض «لا يحكمها أهلها.. وينزح إليها كل راغب فينقب ويستخرج ترخيصا بالحفر، فيصبح مالكا لواحد من هذه الجبال التي لا يملكها أحد حتى الآن..!» إننا إزاء مشاهد خارقة ترى فيها المسموعات وتسمع المحسوسات والملموسات. فقد ولدت اللقيا بين البحر والجبل والمدينة والصحراء والسماء والأرض وأعماق المناجم فضاء جديدا خارج الحدود والأطوار، هو فضاء الرواية، الذي تقام فيه الطقوس والشعائر البدائية وتنذر القرابين. ويبدو أن رحلة الصيد التي يصحب فيها الملك الصغيرة «إيليا»، يلوثها وينتهك براءتها ويدفع بوالدها نحو الجنون، تمثل أوج هذا النص الفاجع.


فالدرهيب تملأه كائنات تهيمن على الجبال والوهاد والبحر، وعبد الله كريشاب يضاجع عروس البحر تحت أنظار ملك مصر وحاشيته، وجسم الملك نفسه يمسخ في نظر إيليا ليكون كائنا بدائيا مثل السمكة المتوحشة! أما إيسا فيصبح شبيها بإبراهيم يدخل النار دون أن يمسه سوء! لقد كان إيسا- سارق السبيكة- يدرك أنه قد أخذ حقه، وأنه لم يغتصب شيئا من أحد! «بل لعله وقتها كان ينظر بغريزته الصافية في أغوار الزمن القديم، فيرى النمرود يدفع إبراهيم إلى اللهب فيخرج منه سليما معافى، أو يرى معجزة بابل القديم، حين ألقى «نبوخذ نصر» بثلاثة من رعاياه في النار موثقين فخرجوا منها محلولي الوثاق، ثم لم تمس النار حتى ثيابهم».


إنها تركيبة تبتعد عن المعتاد لتجعلنا إزاء «غذاء جبلي لا يعرفه حقا سكان المدينة!» إزاء رواية تقول في لغتها الراقية ما يعسر أن تقوله رواية أخرى! هنا يتحول الإنسان إلى كائن ملحمي، وتصبو الحياة إلى منطق الفن، فنتجاوز قوانين العقل والوضوح لمجابهة الحضارة الحديثة بكامل عدتها وعتادها!


ينبغي أن نقر بأننا إزاء نص تحدث فيه الأفعال وتوجد الأشياء لحظة تسميتها، فتتحد حقيقة المبدع المرجع للإقرار بأن الرواية تتوسل بالشعر لتقول اختلافها، واختلاف صاحبها.. وبحثه عن نص مغاير نابع من رؤية مغايرة!


أما مع «المشرط» فينبغي أن نشهد أننا إزاء نص آسر، قوامه شذرات مستعارة من قديم المصنفات ومحدثها، لحمته تنويعات شتى.. وسداه نصوص للكاتب- كمال الرياحي- ولغيره، وبنيته هدهدة بين الأزمنة والأمكنة، وشخوصه متعددة كثيرة متشابهة حينا متباعدة أحيانا! أما رموزه فتحيل على إمكانات بعيدة تكاد لا تحصى!


صادمة هي رواية «المشرط» في مشرطها الذي تعمله في ظهور النساء، وفي لغتها التي توظف المعاجم غير المهذبة. والمتمعن في نصها ينفذ بسرعة إلى التعالق بين بنيتين تتبادلان الظهور، فتطفو الأولى حينا وتطفو الثانية حينا آخر، لكن أثرهما الواضح قوي حاضر.. إحداهما بنية بسيطة والأخرى معقدة ينبع هذا وذلك من الذات الساردة حينا ومن تداخل المتون حينا.. ومن صلة النص بالمرجع في أحايين متعددة أخرى!


والحق أننا إزاء أثر لا يني يحيل على المصنفات القديمة، لا بما يقول إنما بما يوحي به ويفضي إليه، وبالأحوال التي ينشئ.. فتحدث منها استيهامات كثيرة تطوح بالقارئ بعيدا، وتقتضي منه أن يبدل ذائقته في كل آن وحين! حتى لكأن مستقبل هذه الرواية ينبغي له أن يعدد أدواته ويغير صيغ تعامله مع نصوص آيبة من كل صوب محيلة على مناخات متباعدة ومدارات متعددة.. دون انقطاع عن واقع الناس في حلهم اليومي وترحالهم في أسواق حاضرة البلاد على هذا الوقت وفي غيرها من المدن والقرى والمداشر!


مرتكز الثقل في هذه الرواية المتمردة ما شاع يوما في بعض الحارات من إقبال أحدهم على إعمال المشرط في مؤخرات الصبايا.. مبالغة في الفتنة والإعجاب، أو وقوعا تحت طائلة الاستقباح الشنيع!


«من سيرة خديجة وأحزانها» عمل يعالج الكثير من الهراء والفوضى، حتى كأنه– محاكاة للتعبير الأثير عندي- مثل سوق شعبية في واحدة من قرانا الكثيرة.. على سفوح جبال مكثر أو ريف القيروان أو... غير بعيد عن دارات برقو وضواحي كسرى في الوسط التونسي الفسيح! من تلك الفوضى المدروسة جدا، أو قل من «اقتصاد الفوضى وتدبرها» ينشأ عمل رائق واضح الأرجاء. لهذا نقول إنه من السهل مع هذه الرواية أن نصرح أننا إزاء نص قد عمل على تجنب النقائص المفترضة التي يقع فيها من يقبل على تدبر هذا الفن الصعب!


عبر أدوات.. من قبيل الفقرات ذات الحروف الغليظة، أو الفراغات المحدثة قصدا، أو الرسوم المستعارة من الفن العالمي، أو السطور المستقيمة الكاملة، أو النجوم الفاصلة، أو العناوين الصريحة.. يمضي النص معلنا عن توتراته، كاشفا خباياه وتدافع أجزائه وقلقها وعدم ركونها إلى الدعة والسلم والاطمئنان!


هذا هو الانطباع الأول الذي يظفر به الخائض في أحداث هذه الرواية: نصوص متنافرة، وفقرات متدافعة، ووحدات قائمة فوق خواء من التتالي الخاضع لمبدأ «الضم» و«التداعي».. وعفو الخاطر والصدفة!


ولا نشك في أن النظر في هذه الفصول سرعان ما يوقفنا على السمة الغالبة على البنية، فالوحدات «تتالى» بقدر ما تخضع لمنطق آخر عكسي يمكن أن نلقبه مبدئيا «بمنطق التعاكس»! فالفصل لا يدعو الفصل إنما يفضي إلى فصول أخرى بعيدة!


إذا سلمنا بنجاح الكاتب في هذا، أو في إيهام قارئه بهذا، سلمنا بنجاح هذا البناء في إحداث حال من الفوضى المرغوب فيها.. التي لا تعدو أن تكون فوضى حياتنا، وحياة أمثالنا من أهل هذا الزمان.. في بلادنا وغيرها من أرض الله الواسعة!


واقعية تصدم الذائقة، وتناول فج لأحداث الحياة اليومية يرنو إلى إحداث صدمة قاسية، وتخييب الانتظار.


نلتقط هذه السمة، ونلح عليها، لأنها هنا تمثل القانون الكبير الذي تسير على هديه رواية «المشرط»، أو إنها تسير على «لا هداية!» إذ صح النحت! فهو من قبيل الضرب في صحراء التيه والفوضى حتى منتهاها! والرواية تريد إقناعنا بهذا في لفظها، ومعناها، ضمن هذا السياق نضع كلامها النابي، ورغبتها في التعامل مع المستقبح من الأفعال والألفاظ..!


هذا الشطط النابع من الرؤية المتحكمة في الرواية هو ذاته الذي نلاحظه في الشخصيات، كل الشخصيات، وإنها لكثيرة ذات أنواع وأقسام شتى ووظائف مختلفة، بل لعلها متناقضة أيضا! ذلك أن الوقوف على مبدأ التناقض والتنابذ لملمة لكل المستويات في هذه الرواية.


ينبع ذلك من شخوص الرواية.. فمنها التاريخي، ومنها النصي الذي يعيدنا إلى عالم الرسم، ومنها الأدبي، ومنها الواقعي الذي لا شاهد على وجوده إلا الكاتب.. فضلا على قرائن بعينها من واقع عاصمتنا ومقاهيها وحاناتها، وبعض الأماكن المخصوصة فيها.


من الشخصيات.. المخاخ، والعرافة، والرجل المحموم والضرس، والزوجة، والنيقر وبولحية، والسلطان شورب، وهندة، وسليم النادل. وسيدة الروتاند، والروتاند، وشارع بورقيبة، وابن الحجاج، والشهلاء الحمراء.. بيد أن أبرزها- سردا ودلالات- شخصية «النسناس» الذي كان كائنا أسطوريا/واقعيا مشطورا- مثل جسده- بين النص والمرجع.. أو قل بين النصوص والمراجع.. على تعددها واختلافها!


ويبدو أن ذكر «النسناس» هذا قد ورد في مصنفات كثيرة قديمة منها رحلة الغرناطي، وأخبار الزمان ومن أبادته الحدثان وعجائب البلدان والغامر بالماء والعمران للمسعودي، ومعجم البلدان لياقوت الحموي والحيوان للجاحظ.. فضلا على لسان العرب لابن منظور الإفريقي (جذر نسس). هذا الكائن المجزوء منشطر بين الواقع الوهم والحيوان والإنسان والنص والواقع.. يختزل رموزا مهمة تأخذ بجماع السرد والدلالة في هذا العمل الآسر الراغب في تنبيه القارئ من غفلته!


يحدث ذلك بالكلام النابي حينا، والمسترذل من الأفعال حينا آخر.. يقرب الشخصيات من بعضها البعض ويثير الأزمات بين شخصيات أخرى..


وحري بنا، بعيدا عن الناظرين بعين واحدة، أن نقف على تقاطعات شتى بين مدونات متباعدة في الظاهرة لكنها في جوهرها تنهل من المعين ذاته.. غزيرا كان أو ضنينا شحيحا. لهذا نلاحظ هنا أن هذه الرواية ضرورية اليوم، لدى مفتتح الألف الثالثة للميلاد، لإعادة تمثل روايات كثيرة ظهرت تباعا منذ ثلاثينات القرن العشرين حتى طور التسعينات، وألقت السؤال الحارق ذاته: من ترى يصدق هذا الهراء!؟ .. لكن أهو هراء!؟..



*كاتب وناقد تونسي.