الموضوع: صفحتي الهادئة
عرض مشاركة واحدة
قديم 06-09-2013, 03:00 PM
المشاركة 15
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


أيام جميلة تلك التي قضيتها في القرية ، طفولة البؤس والحرمان تمحوها عواطف جياشة وأحاسيس رقيقة ، رغم محدودية أرزاق الأسر ترى النبل يتدفق من حركاتها وسكناتها ، الابتسامة والتزاور يغذيان تلك الرحمة و ذلك الحنان . يتقاسم أهل القرية الأفراح والأحزان فلا تجد نفسك وحيدا في صراعك مع الحياة . عندما تستقبل قريتي تتراءى لك بناية شامخة من الطين ، قصر كبير مزدان بأربع منارات في زواياه ، تلك من مخلفات الاستعمار والأسر الحاكمة قديما ، مسنو القرية يتحدثون مؤكدين أن تلك البنايات شيدت على قهر وتسلط ، فالأهالي الذين يعيشون تحت وصايتها يصلون الليل بالنهار دون أجر و بلا رحمة ، إذ يكاد عدد العسس يتساوى وعدد العمال ، فيكدح العامل بلا استراحة ، وإن بدا منه ما يسيء لحارسه فمصيره إلى الفناء أقرب منه إلى الحياة و النجاة ، يحكون عن دهاليز و أقبية و أنفاق حفرت تحت البناية بعضها لتخزين السلاح و المؤونة وبعضها لتعذيب و سجن كل من له رأي مخالف حتى يقضي أو يسلم كل ممتلكاته و ينفى عن الديار .
الشيخ موسى يروي قائلا : " سبحان الذي أخلى هذه القصور بعد أن كانت أوكارا للترف و البذخ و الغناء و الاستعباد ، والآن أصبحت مرتعا للزواحف والجرذان ، وتآكلت هيبتها و تحطمت أسوارها " يرتاد السواح الآثار القديمة مستمتعين بفن العمارة و نقوشها المميزة وزخارفها فيتساءلون عن زمن البناء و صاحب المعلمة و ينبهرون بعظمة الأولين وقدرتهم على الإبداع و رقي أذواقهم وجمالية منجزاتهم ، يقفون مشدوهين أمام تلك المعالم الأثرية التي تنم عن حضارة و حضور في التاريخ ، لكن لا أحد يستحضر أرواحا زهقت و أطفالا يتموا و أعراضا هتكت ، وأسرا شردت ، ومحنا لا تعد ولا تحصى فقط لتخلد هذه البناية و يظهر ألقها و تبدي زينتها لمن يجهل تاريخها .
قريتي راسية على ضفة نهر موسمي مزدحم بالقصب ، تأوي إليه الخنازير نهارا مستظلة بأشجار الصفصاف العالية و مستحمة في مياه بركه و عيونه ، وتتجه ليلا لإفساد حقول الذرة والخضروات ، يبني القرويون منصات مراقبة على أشجار اللوز والزيتون حارسين محاصيليلهم من هجماتها ، كل يوم يتناقل البدويون أخبار الحقول التي غزتها جحافل الخنازير و الأضرار التي تكبدها النائم الغافل الكسلان .
تبتعد المدرسة عن قريتي بثلاثة أميال ، أذكر أول يوم قادني فيه أبي إلى اليها ، كان الجو ماطرا ، تخلص من سرواله الفضفاض و حزم جلبابه و وضعني على كتفيه لنعبر شعبة محملة بمياه عكرة قدمت به من أعلى الجبل المطل على المدرسة ، مقاعد خشبية ، سبورة سوداء ، حجرة طينية مزينة بصور ، معلمة تتحدث بلسان غريب ، كتاب ولوحة و ريشة و محبرة ...