عرض مشاركة واحدة
قديم 10-15-2011, 12:24 PM
المشاركة 5
ريما ريماوي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
ماهر في السجن 5/8

ماهر، ثلاثة وثلاثين عاما، طالب علم أفنى حياته يدرس ويجتهد، واسع الاطّلاع يعرف كل شيء وكأنه موسوعة علمية متنقلة بل يكاد يتفوق على (جوجل).

شهاداته العلمية المتنوّعة تملأ جدار مكتبه في بيته، لم يكتف من الاستزادة في العلم وبحاجة إلى النقود من أجل الدراسة والأبحاث، ولم يجد بدّا من أجل تأمين هذا إلاّ تنفيذ وصية عمّه الراحل. لكن مجرّ التفكير باحتماليّة سجنه تجعله يرتعش كالورقة في مهب الريح.

بعد شهر من التفكير والتردّد والتراجع عقد العزم على التنفيذ، حمل حجرا كبيرا وذهب به إلى السوق القريب ينوي رميه على واجهة أحد المتاجر الكبيرة هناك.

لعظم ارتباكه ارتجفت يده ووقع الحجر على إصبع قدمه الكبير، فعاد ينطّ إلى البيت متألما، بعد أن شفي أصبعه. عاد لمحاولاته من جديد، ولا يجرؤ فيعود أدراجه خائبا. وقد لفت نظر رجل أمن توجّس منه خيفة، وداخله الشك والريبة، فوضعه تحت المراقبة.

استجمع شجاعته وصوّب الحجر نحو الواجهة، لكنّ الشرطي كان له بالمرصاد فأمسك يده ومنعه، ثارت ثائرة ماهر في أوّل مواجهة له في حياته، وشتم الشرطي فغضب وألقى عليه القبض، ثم أرسل بعدها للمحاكمة، حكم عليه بالحبس ثلاثة أيام لإهانته الشرطي، تمتم بعد الحكم بصوت منخفض:
- هذا ليس كافيا. طلب منه القاضي رفع صوته حتى يسمعه، ردّ بصوت عال:

- كنت أقول إنك غبيّ لا تفهم. غضب القاضي ومدّد أيام السجن الى أسبوع كامل بسبب
تحقيره المحكمة.

"يا إلهي مالذي فعلته؟!" فكر في نفسه وهو يساق إلى السجن،

"هل حقا أنا في طريقي إلى السجن؟ الله يستر، مالذي سوف يحدث لي هناك؟ "
ارتعش جسمه الهزيل من مجرد التفكير بهذا الأمر الجلل، بدأت الأفكار السوداء تتلاطمه بقوة: "كان يوم أسود، لما انصعت لعمي المجنون".

أفاق من أفكاره على السجّان يدفعه بعنف إلى داخل العنبر، هتف:
- لا.. لا.. لم أقترف ذنبا، أخرجوني من هنا أرجوكم.

لكن لات ساعة ندم. بدأ يرتعد بعد إلقائه نظرة على وجوه زملائه المساجين فكر:
" يا لهم من أشرار عنيفين، يا رب ما العمل؟" استأنف تفكيره:
"لماذا هذا الرجل الضخم قادما نحوي؟ ماذا يريد منّي؟ " تحول وجهه الى الأحمر
لفرط انفعاله.. كم قرأ عن فظائع السجون،
هتف في داخله: " كلاّ لا تقترب مني أنا لست من إيّاهم إبتعد..."

اسودّت الدنيا في عينيه وفقد وعيه كعادته.. استفاق بين يديّ هذا الرجل الضخم
الملتحي وهو يبتسم له، عاد فأغمض عينيه، بدأ يتحسس نفسه بيديه اطمأنّ:
"الحمد لله.. كل شيء في مكانه"

تساءل مندهشا وقد شقّ عينيه قليلا: " لماذا هذا الرجل يقترب بوجهه هكذا؟
يا للهول... ماذا ينوي؟"
صرخ بأعلى صوته دون أن يسمع له أيّ صوت من الرعب:
"يا للكارثة، أنقذوني!"،

لما وجده الرجل يتنفّس بسهولة رجع برأسه الى الوراء، وبدأ يضربه على وجهه
بصفعات قوية قاصدا إيقاظه.
" يجب أن تتوقف هذه الصفعات ليس لي بد إلاّ فتح عيناي" فكّر ماهر:
"يااااه... أنه يبسم لي، لم يعد يخيفني"استعاد وعيه تماما،
ابتسم له الرجل من جديد، وقال له:

- اعتقدنا بأننا قد فقدناك فلقد أصابتك نوبة هلع توقفت إثرها عن التنفّس،
وهذا اضطرني إلى منحك التنفس الاصطناعي، وأضاف ضاحكا:
- يا رجل كانت تجربة قاسية جدا، لا تفكر بأن تكررها خوفنا من أن تموت كوم،
وقبلة الحياة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كوم آخر.

ابتسم ماهر بضعف، وفكّر لقد بلغ هنا قمّة نوبات الهلع في حياته كلّها،
ولم يبق أمامه إلاّ الشفاء، هكذا قرأ في كتب علم النفس.

عرّفه الرجل عن نفسه بأنّه الشيخ "صالح" وهو هنا على ذمة التحقيق بسبب
آرائه السياسية المتطرفة ضدّ الحكومة. وعرّفه ماهر بدوره ع عن حاله.
بدآ يتناقشان في أمور الدنيا والحياة، فأعجب كل منهما بسعة اطلاع الآخر، واندمجا في الحديث على الرغم من تعارض آرائهما السياسية، واحتدم النقاش بينهما، التفّ بقية
السجناء حولهما مكتفين بالإنصات لهما.

مأمور السجن كان شابّا متطوّرا مقبلا على الحياة، لفته ماهر ومنطقه وسعة علمه
وتهذيبه، وحيّرته القضيّة التي تسببت بإدخاله السجن، بحث عنه من خلال (جوجل)
ووجد أنّه عالم كبير، له وزنه في الكثير من الأبحاث والدراسات، وفي مختلف الميادين
العلمية والعلوم الإنسانية، ومجال الحاسوب خاصة. ولما سأله عن حلّ لمشكلة في حاسوبه أصلحه له في ثوان بعد أن استعصت على أمهر الفنيين. فطلب منه إعداد دورة للحرس عن مبادئ الحاسوب، لم يتردد أو يتأخر عن ذلك، لفرط سروره القى المحاضرة بطلاقة ودون لجلجة كالعادة.

بعدما انتهت مدة محكوميته صارح صديقه الشيخ "صالح" بالسبب الحقيقي لدخوله السجن، وقاما معا بإعلام المأمور بذلك، ولم يتلكأ الأخير ورفع تقريرا للقاضي يشرح فيه ملابسات سجن ماهر ، ملتمسا شطب الحكم من السجل الرسمي تقديرا لخدماته في السجن ولقيمته العلمية، اقتنع القاضي ووافق على الشطب.

أطلق سبيل ماهر وصفحته بيضاء لم تشوبها شائبة، وأصبح قويّا ولم يعد جبانا رعديدا.
بعدها تقدم للعمل في إحدى الجامعات المشهورة، وتم قبوله على الفور أستاذا متفرغا وعالما. خلال أسابيع قليلة أثبت نفسه ووجوده بينهم، أحبّه الجميع وصار الناصح والمرشد لكثير من الطلاب والزملاء. كما واستطاع الحصول على منحة لاستكمال دراساته وأبحاثه.