عرض مشاركة واحدة
قديم 10-15-2011, 12:21 PM
المشاركة 4
ريما ريماوي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
نانسي والسائق 4/8

نانسي في حدود الثلاثين، هاجسها الجمال والتجميل وعليه صرفت المال الكثير، وقامت بإجراء عدد كبير من عمليات التجميل شفط ونفخ وقص ولصق حتى وصلت الأمور للنحت كذلك.. فصارت من أجمل النساء لكن بلا روح كلعبة الجبس، لم تكتفِ بعد وتعتقد أنّها ما زالت بحاجة إلى عملية جديدة وربّما عمليات، لا يتوقّف الأمر معها، والكمال لله.


استيقظت في اليوم التالي على رنين جرس الباب مستمر، شتمت البائع المتجوّل في سرّها، لم تفكّر في غيره إذ لم تتعوّد استقبال ضيوف في مثل هذه الساعة المبكّرة.

تمطّت في فراشها قطة كسولة آملة أن ينصرف الزائر العنيد. لكن لا فائدة، عليها أن ترى من بالباب، وضعت على نفسها "روبا" يغطي غلالة النوم الرقيقة القصيرة التي ترتديها، وفتحت للزائر متذمّرة، السائق محمود الذي اقتحم عليها الشقّة قبل أن تأذن له، وأزاحها بكتفه من أمامه وكاد أن يطيّرها دون أن يبالي..

داهمها شعور بالغثيان إثر مروره، من رائحة عطره الرخيص النفّاذ، فكّرت:
"لعلّه سكب على نفسه القارورة كاملة."
أسرعت إلى النافذة تفتحها فيدخل الهواء النقي، انفتح روبها يكشف عن ساقين مرمرتين رائعتين، يستغرب من يراهما عن ماهيّة العملية التي تحتاجها لتجميلهما.

عندما استدارت وجدته يلتهمها بنظراته، فاجتاحها شعور بعدم الارتياح، وشدت رداءها بإحكام عليها، مع هذا استطاعت نظراته الماجنة النّفاذ من خلال ثيابها الخفيفة.


السائق محمود، رجل في السادسة والثلاثين من العمر، يتمتّع بجسم رياضيّ مشدود، طويل القامة عريض المنكبين لا تنقصه الوسامة. وقد ترمل منذ سنتين، وتركت له زوجته ثلاثة أولاد ذكور تتراوح أعمارهم ما بين أربع وعشر سنوات.

قال لها بصوته الجهوريّ الواثق:
-أنت تعرفين أن زوجتي رحلت نتيجة مضاعفات الولادة، للحقيقة فرحت بوصية المرحوم، آن الأوان لأمّ جديدة تعتني بأولادي وترعاهم، وتهتم بي ومتطلباتي كرجل.

انقبض قلبها، لكنّها تركته يتحدّث عن التجهيز للعرس، وسرحت عنه ولم تعد تصغي لحديثه.

هي تكره الأطفال، لا تتصوّر نفسها معهم أو مسؤولة عنهم، إلّا أنها تحب الجمال والتجميل ولهذا تحتاج المال الوفير.

استفاقت من شرودها، على سؤاله عن قائمة أصدقائها التي ترغب بدعوتهم لحفل زفافهما:
"ماذا؟! " تشنجت وهي ترفض بحزم دعوة أي من عليّة القوم إلى هذا الزفاف المهزلة تحت مبدأ: " إن بليتم فاستتروا".

تركته في الأيام اللاحقة يرتب لحفل زفافهما بمفرده وكأن الأمر لا يعنيها.
جاء فرحا يخبرها عن حجزه قاعة أفراح بسعر رخيص، وأيضا كعكة العرس مجّانيّة، لقد أخبره صديقه الوسيط أنهم يتعاملون مع مطعم مشهور يشترون منه الكعكات البائتة بسعر بخس، اكتفت بابتسامة صفراء تكتم غيظها.

الطامّة الكبرى عندما اقترح عليها أن تستأجر ثوب الزفاف بهدف التوفير، أصرت بعصبية على أن تحضر فستان زفافها بنفسها من أجمل وأغلى دور الأزياء. هز كتفه لا مباليا طالما لن يبتاعه بفلوسه.

بعد بضعة أيام جرى حفل زفاف نانسي كما خطط له، كانت رائعة الجمال وبدا العريس نفسه وسيما ببذلة العرس المستأجرة، وقد تعطّر من عطر ثمين أهدته له، فامتزجت مع رائحة رجولته بشكل جميل ومثير.

أما حفل الزفاف فكارثة، حضرته جسدا بلا روح. وافترستها الكآبة لمّا داسوا فستان فرحها الباريسي الثمين، وتمزّق ذيله.

غصّت القاعة الصغيرة بالمدعوّين، ومعارفهم غير المدعوّين من أدنى طبقة في المجتمع. ناهيك عن الأطفال الذين يتراكضون هنا وهناك، يصيحون ويتمسحون بثوبها بأياديهم الدبقة الوسخة.

أما زملاؤه من السائقين كانوا يتغامزون ويضحكون بأسلوب فجّ، وهم يحدّقون بها بوقاحة، فتخضّب وجهها خجلا، وتنفّست الصعداء بعد انتهاء الحفل.

حاولوا الدخول برفقتهما إلى بيت الزوجية، لكنه دفعهم ضاحكا إلى الخارج ولم يسمح لهم، ب ثم فاجأها عند الباب بتطويقها بين ذراعيه وحملها بسرعة وعبر بها إلى الداخل.

ما أن خطا بها بضعة خطوات إلا وانتابه دوار شديد، حينها فطن أنه لم يأكل شيئا منذ البارحة لانشغاله. فمادت به الأرض ووقع فوقها أرضا، ثم أصابته نوبة ضحك لم يستطع خلالها الوقوف على قدميه، فأزاحته عنها بعنف. وركضت إلى أحد الأبواب القريبة منها، متألمة نفسيّا وجسديّا لا تطيق رؤيته.

صفقت الباب خلفها وانخرطت في بكاء هستيريّ عنيف، عندما هدأت انتبهت على رائحة كريهة تزكم أنفاسها، تحسّست بأصابعها كبسة النور، وأضاءت المكان فوجدت نفسها داخل غرفة صغيرة تستعمل كمخزن. مملوءة بالغسيل القذر وغياراته الداخليّة ملقاة مبعثرة قرب السلّة على الأرض.

خرجت من المخزن راكضة متأففة.. رأته يلتهم تفّاحة وينظر إليها بوقاحة ويغمزها، وقد داعبت وجهه ابتسامة مشاغبة مرحة. لم تلق بالا إليه وفتحت باب غرفة النوم الرئيسيّة، هرعت إلى الداخل وأقفلت على نفسها بالمفتاح.

خلعت ثوب زفافها الثمين ورمته بإهمال على إحدى الكنبات القديمة المتهالكة، وتمدّدت على السرير تلتقط أنفاسها، ثمّ غفت بسرعة نتيجة الإنفعال والتعب.

استيقظت في الصباح وأشعة الشمس تغمر الغرفة، وثلاثة أطفال صغار بل قرود يتنططون قربها على السرير، رأت محمود واقفا قرب الباب ينظر إليها بشبق رجل لم ير امرأة نائمة بهذا الشكل المغري في ثيابها الداخلية منذ زمن طويل، ردّت بسرعة الغطاء عليها حياء
خاصة بوجود الصغار حولها.

مدّ لها فنجان قهوته كي ترتشف بعض الجرعات منه، لفرط ارتباكها رشفت جرعة كبيرة، وانفجر ضاحكا عندما صاحت متألمة من شدة سخونة القهوة. أخبرها أنّ القفل معطل وكان بإمكانه الدخول عندها بأي وقت، لكنّه احترم رغبتها بالبقاء وحيدة.

بعدها مضت الأيام متثاقلة ببطء شديد، واستمرّت على ما هي عليه موجودة جسدا بلا روح، مكتفية بالتنقل بين محطات التلفاز المختلفة دون أن تهتمّ بمتابعة برامجها المفضّلة.

لمّا لم ير الأولاد أي اهتمام من جانبها ابتعدوا عنها إلاّ الصغير "حاتم"، كان يكتفي بالجلوس ملاصقا لها وكأنّه يستمد من حرارة جسمها توقه الغريزي إلى حنان أم فقدها وليدا.

ذات يوم سمعت نشيجا مكتوما، أيقظها من حالة الغيبوبة الطوعية التي أدخلت نفسها فيها. تتبّعت الصوت حتى سرير "حسام" الولد الأكبر، وكان يغطّي نفسه كاملا يبكي بصوت خافت، جلست على حافة سريره ووضعت يدها على رأسه محاولة أن تهدّئ من روعه، وسألته عمّا يبكيه.. أجابها بين دموعه ونشيجه:
- اشتقت إلى أمي، أصبحت متعبا جدّا، منذ زمن وأنا أعتني بإخوتي الصغار أثناء انشغال أبي بعمله، لكم أتمنى أن تعود مرة كي أخبرها عن حبي لها، وأعود إلى حضنها طفلا صغيرا، حضورك ذكّرني بها.
منعت دموعها بصعوبة، وفكّرت:
"هو محروم من أمه وأنا محرومة من الأطفال". قبل عشر سنين، مرضتْ وانفجر مبيضها ممّا اضطرّ الأطباء لاستئصاله، أعلمها الطبيب بأن احتمال أن ترزق الأطفال شبه معدوم بسبب التهاب مبيضها الآخر.

عادت من ذكرياتها الخاطفة على صوت نشيج الولد الذي كبر بسرعة نتيجة حمله الهم مبكّرا، غمرتها عاطفة الأمومة وجذبته إليها تحتضنه، واختلطت دموعها مع دموعه، جاء أخواه فرفعت يديها وضمتهم جميعا بحنان لم تعرف أنه موجود لديها إلاّ الآن.

عندما رجع الأب في الليل، شاهد لوحة عائلية جميلة لأم تضع الصغير في حضنها، ويلاصقها الولدان الآخران، والكل غاف في سبات عميق.

في اليوم التالي استيقظت متحمسة تريد تنظيف الزريبة التي يعيشون بها، هي بطبعها موسوسة نظافة وترتيب ولم تعد تحتمل العيش بهذه الفوضى والوساخة.

بعزم وجرأة أمسكت المقص وأعملت فيه أظافرها الطويلة التي كانت تمضي ساعات في
العناية بها وطلائها، وعقصت شعرها الناعم الطويل المصبوغ باللون الأشقر على شكل ذيل فرس، لبست (جينز شورت ) قصير وأحد القمصان القطنية ثم بدأت العمل.

استيقظ محمود على ضجتها في غرفة الجلوس حيث تعوّد أن ينام منذ قدومها. تفاجأ بشكلها الجديد دون أصباغ ولا تجميل وبثياب بسيطة. حملق فيها معجبا:

" يا الله، إنّها أجمل وأكثر طبيعيّة، بدون مكياج"

عندها عاوده شعور الحب الطاغي، الذي حاول أن يخفيه منذ رآها في قصر عمها، ولم يجرؤ على البوح.

قرر أن يبقى ويساعدها في حملة التنظيف، يشاركهما الأطفال كل حسب استطاعته. بعد أن أنهوا البيت خرجوا للعمل في الساحة وغسل السيارة، تراشقوا الماء في هذا اليوم الربيعي الدافئ، ومرت الساعات بسرعة.

على الرغم من أنّ اليوم كان شاقا متعبا إلاّ أنه مرّ من أجمل أيام حياتهم جميعا، اكتمل فيه الجو العائلي الجميل.

تمكن منهم التعب وتوقفوا عن العمل، إلاّ هي أصرّت على المواصلة متحمسّة تريد أن تنهي التنظيف كاملا. انتهت عند الغروب، ولكم أسعدها منظر البيت الذي يشع بالنظافة والترتيب. ولم تعد رائحة البيت تضايقها.

تمكّن منها التعب ليلا، استيقظت فجأة متألمة جدا تسبح في عرقها، وسقطت صريعة المرض. استفاق محمود على صوت أنينها الخافت، بلحظة كان قربها فوجدها تغلي وحرارتها مرتفعة إلى درجة الخطر، دون تردد أو تفكير نزع ثيابها، شعرت به ولضعفها لم تقاومه، حملها بسرعة ووضعها بكل حنان في المغطس، انتفضت وهو يصبّ الماء البارد على جسدها الملتهب وغابت عن الوعي.

بين إغماءات متكررة واستعادة الوعي أمضت عدة أيام تعاني لكن محمود كان قربها، يعطيها الدواء في مواعيده، ويضع كمادات باردة على جسدها المشتعل، حتى بدأت الحرارة بالانحسار عنها، وتعود عافيتها إليها تدريجيا، لم يفارقها طيلة مرضها، وقد تفرّغ لها بعد ترك أولاده في رعاية جارتهم.
بعد تماثلها للشفاء، لم يستطع مقاومة سحرها وضعفها بين يديه فقبّلها وهي نائمة على شفتيها الورديتين، هي زوجته حلاله.. شعرت به، وتجاوبت معه وسمحت له بالعودة إلى سريره.