عرض مشاركة واحدة
قديم 04-30-2012, 07:50 AM
المشاركة 496
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
n كيف تُدرك مستقبل الرّواية العربية في ظل ما نرى من تنوّع أسلوبي ومناخي لهذا الجنس في العالم. هل تصمد الرّواية العربية أم تتحوّل إلى مسخ قبل أن تتحلّل ؟
oo من صُلب التنوّع الأسلوبي والسردي والمناخي تُولد الرواية العربية وليس العكس. وكلما كانت الرواية قادرة على التحول والتبدّل والتجدد تمكّنت من الصمود أكثر من السابق. هذه الصيرورة هي التي تريدها الحركة الطبيعية لتحول المجتمع ويؤسفني كثيرا وجود بعض الأدعياء ممن يزعمون الإيمان بالماركسية وبإطنابها في رصد التحوّلات التاريخية، وهم في ذلك لا يتجاوزون الأخذ بالظاهر الذي هو من قبيل الموضة الاجتماعية، يُنكرون على الرواية تحولها الداخلي. والحقّ أنّ هذا الجنس – عبر تاريخه الطويل – قد أكّد قدرته على أن يُولد في كل منعطف ولادة جديدة. فالقصّ الشرقي، ورواية الفروسية، وما يُعرف بالرواية الكلاسيكية، والرواية الرومنسية والسريالية، والواقعية، والرّواية الجديدة، والسحرية والذهنية… وسواها… لا تعدو أن تكون تنويعا على أصل واحد. لهذا نؤكّد مجددا أنّ مستقبل الرواية العربية لن يكون إلا بإصرارها على امتلاك مبدأ التنوع والتحول الذي تشير إليه في سؤالك صديقي كمال.
الرّواية لا توجد في المستقبل إلاّ إذا ما أيقنت بالغرق وقبلت الاختلاف، وأقرّت بهما، حينها فقط تكون قادرة على أن تطفو فوق سطح الرداءة. لا امتلاك لمستقبل الرّواية إلا بالإقرار بالخروج من الرّواية وهجرانها ومغادرة مضاربها. في عالمنا العربي حصل هذا دون قصد، فمن صلب رواية القرن التاسع عشر، بطابعها التعليمي والتاريخي، انبثقت "الرّواية الفنية" في سعي إلى تمثل البداية الغربية -والفرنسية على وجه التدقيق – وتقليدها تقليدا تاما كاملا مباشرا، ثم كان الحدث الرّوائي الكبير الذي مثله نجيب محفوظ في مصر والبلاد العربية، والذي اختزل تجارب متتالية كانت الرواية الغربية قد عرفتها في عشرات السنين.
وعلينا أن نشير أيضا إلى أنّ الرّواية لم تعرف المسار التاريخي ذاته، فتطور الرّواية العربية غير تطوّر الرواية الفرنسية، وغير تطوّر الرواية الإسبانية مثلا، تلك التي مثّلت تاريخا مختلفا عن تاريخ الرّواية الفرنسية، فعلا كانت تاريخا مغايرا للسائد باعتمادها على إنجازاتها الداخلية المستندة بدورها إلى مبدأ القصّ القديم، بحواشيه واستطراداته الكثيرة، وزمنه الدائري، وكثرة هواتفه وشخوصه وأصواته. لهذا فمنتهى ما نقول هنا أننا ننفي هاهنا قطعيا أن تكون الرّواية قد احتفظت خلال تاريخا الطويل بسمات معيّنة يُمكن أن تغلبها على بقية السمات الكثيرة المتبدّلة المتغيّرة على الدوام. علينا أن نكتب رواية مختلفة في كل مرّة نمسك فيها بالقلم، علينا أن نكتب نصوصا جديدة.
n صلاح الدين بوجاه من الرّوائيين القلائل الذين لم يتنكّروا للقصّة القصيرة بعد أن ذاقوا طعم الجنس الرّوائي ! لماذا هذا الوفاء للقصة القصيرة ؟ هل هي ألذّ طعما ؟
oo لستُ ممّن يُميزون بين الرّواية والقصة القصيرة. وأعتقد جازما أنه ليس من شأن الكاتب أن يُميّز بين الرّواية والقصة القصيرة. هنالك مواضيع تتلاءم مع هذا الجنس، وهنالك أخرى تتلاءم مع الجنس الآخر، بكيفية عفويّة نابعة من جوهر الجنس الأدبي القائم في واحدة على اللمحة القصيرة، والأحداث المقتضبة والشخصيات القليلة – في الغالب الأعم – وعلى عكس ذلك في الأخرى. أمّا أمر التمييز فيُتركُ للنقّاد. وأعتقد أنّهم لا يعودون إلى الفصل بين القصة القصيرة والرّواية إلا أثناء التدريس، أما حين يتعلّق الأمر بالتقبل – مجرد التقبّل – فإنّهم يقتصرون على الاستمتاع. وهاهنا مربط الفرس مثلا يُقالُ، فهناك متعة فنية صرف تنشأ بين النص والقارئ، تُسهم بعض المتع الجانبية في صياغتها، ومنها متعة الموضوع وقربه أو بعده عن النفس، ومنها متعة الأسلوب… لكن الأمر في جوهره يتّصل بمتعة كبرى واحدة طاغية هي "متعة السرد"، فإذا ما نشأ تواطؤ بين كاتب النص وقارئه حول أمر السرد كان كل شيء، وإذا لم ينشأ ذلك لم يكن شيء.
وتدركون جيدا أن أمر المتعة ليس مقنّنا، فهو أمر عجيب يستعصي على القياس والضبط. لهذا يبقى غائما ضبابيا… لكنه ثابت حاضر أثناء كل عمليات التقبّل. لهذا فإنّ القصة القصيرة لا تختلف في أمر ولادتها عن الرّواية. انظر حقلا شاسعا تملأ الأزهار جنباته، ترى هل يتساءل في أول انبثاقها عن نوعها وجنسها وأسرتها وفرعها ؟ وما أن يدخل عالم نبات حتى يستهل عملية جديدة طارئة على الطبيعة وهي الضبط والتبويب والتفريع، حينها تولد القصة القصيرة، وتولد الرّواية، وتولد الملحمة، والقصة الطويلة… وسواها كثير. لهذا فإنّه ينبغي أن نميّز بين لحظتين تتكاملان لكنها لا تندمجان، تترافدات وتتساندان. لكن إحداهما لا تعوّض الأخرى بأيّة حال من الأحوال.
وكنت في بداية أمري قد أنشأت عددا من القصص القصيرة، ثم تركت هذا الصنف لوقت طويل اشتغلتُ فيه بالرّواية، وهي جنس رائع لأنّه يحقق عشرة عجيبة بين الكاتب وشخصيات عمله، عشرة محببة جدا إلى نفسي، فكأنها الصداقة الفعلية التي تنشأ بين الناس في الحياة، لذلك أفضل – في المطلق – الاشتغال بهذا الصنف. لكن القصّة القصيرة تمدّ أعناقها من أعطاف الوجود لإغرائي في لحظات بعينها. وأعتقد أنّ جنس "البورترية" هو الذي يجتذبني في أصل كل قصة قصيرة. لهذا فإنها تعتمد على شخصية واحدة في الغالب الأعم.
n لاحظنا اهتماما كبيرا بالأشياء في جل أعمالك الإبداعية، حتى أنّك قد تجعل من الشيء البطل أحيانا مثل قصة "المصعد" فهل يعود ذلك إلى شغفك بالأشياء أم إلى تأثّرك بالرّواية الجديدة في فرنسا، واهتماماتك النقديّة ؟
oo الأشياء هي الحياة. وفيما وراء الانتباه إلى كون "الشيء" فاعلا أساسيا في القصة ينبغي أن ننتبه إلى أنّ الشيء يمثل الوحدة الأصلية في الحياة، أو قُل جوهرها الباقي. فهل الحياة – في نهاية المطاف – غير ثَبْتٍ غير متناسق من الأشياء، ثبتٍ مشوش، لكنه أصيل صادق، ثبتٍ طبق الأصل !! تفتنني الأشياء، وقد أشرتَ في استفسارك إلى "المصعد" في قصة سرفنتيس رسخت في ذهني طواحين الهواء. لبثتُ استعيدها مرات بعد الفراغ من النص. لقد كانت حقا أهمّ من الدون كيشوت ! الطواحين والحصان !
ألستَ معي يا صديقي كمال في أنه يُمكن اختيار عنوان أروع للدون كيشوت يكون "الطواحين والحصان". العالم الجديد يغيب الإنسان، ويجعل منه مجرّد ظل للوجود، مجرّد رقم. فلنتخيّل معا نهاية لرواية "الطواحين والحصان"، وسرعان ما سوف ننتبه إلى أنها، في جوهرها لن تختلف كثيرا، لكنها ستكون أصدق وأكثر تطابقا مع الواقع. لهذا أكرّر أنّ الأشياء تفتنني، اليوم أُمسك بالمعجم (أي معجم/لسان العرب مثلا) وأستهلّ قراءته على أنه قصة، أو قل مجموعة من القصص المتتالية التي يمكن قراءتها بلا توقّف، تستهلها متى أردت، وتستوقفها متى شئت، ثم تعود إليها فجأة، وبلا سابق إصرار… هذه هي القصة وهذه هي الحياة.
"النخّاس" مثلا حُبْلَى بالأشياء، فوق المناضد، في الطبيعة، في ذهن الكائن البشري، والأشياء تحيل على الوجود، وجود الأبطال، المسألة في رأيي فكرية، وليست سردية أو فنيّة. الأمر يُحيل على تمثل للوجود وتصور للحياة أعمق من تمثل القصة وتصوّرها، لهذا فإنه يعنيني هاهنا أن أتشبّث بما استُهلت به هذه الأسطر : الأشياء هي الحياة. فأيّة رواية يمكن اختزالها في كلمات، هي أشياء مضمونة إلى بعضها البعض. إنّي أحلم بكتابة قصة أو رواية لا تعدو أن تكون ثبتا متلاحقا من الأشياء. فعلا أحلم بكتابة معجم لأشياء متلاحقة يُعرّف بعضها البعض الآخر. وأعتقد أنني سوف أساق يوما إلى كتابة هذا، أو إلـى كتابـة شـيء مماثل !
n ألا يعني هذا أنّ الناقد يباغتك أحيانا ويضع بردته على كتفيك ؟
oo أعتقد، على عكس الظاهر، أنه لا يسكنني ناقد خفي يضع بردته على كتفي، إنما أظنّ جازما أنّ كائنا متفلسفا يملأ كياني، كائنا همه الاستنجاد بأعمق ما ينبجس من وجودنا العربي لمّا لشتات نظرية عربية في الرواية. إنّ همّي يكمن في مجال اللقيا بين الرّواية والنظرية الفلسفية، وإني لأدرك جيدا أنّ غياب نظرية فلسفية متكاملة ممّا نسمّيه مجتمعا عربيا هو أصل هذه المهزلة. والواقع أنّ المجتمعات العربية (التي نصر دوما على نحتها المجتمع العربي والحد) متفاوتة الوعي بالأشياء، تتحكّم فيها علاقات متداخلة مختلفة من مجتمع إلى آخر… لكنها في منتهى أمرها تنتمي إجمالا إلى المرحلة نفسها.
أُدرك أن كثيرين سيجزمون باختلاف بنية الأسرة في تونس مثلا عن بنية الأسرة في الخليج، لكنني أعود للجزم بأن الأمر في منتهاه يؤول إلى جوهر واحد، فالظاهر هو الذي يتخير ؛ زد على ذلك أنّ الأمر لا يستقيم للمقارنة الكمية، فأسر قليلة في العاصمة التونسية مثلا تغيرت العلاقات داخلها بكيفية تامة، فأضحت تختلف عن مثيلاتها في أي مكان عربي آخر، أما الغالبية العظمى ففي جوهرها (ورغم التعليم والتجربة والاحتكاك بالمجتمعات الأخرى) أسرٌ عربية صميمة. لهذا أعود إلى سؤالك للإلحاح على أنّ ذات الكاتب تستجمع الناقد والمتفلسف ورجل السياسية ورجل الاقتصاد لتصنع منهم في النهاية ذاتا واحدة قائمة على التناقض. والتناقض هو لبّ المسألة وجوهرها !
عليه ينبني الثراء الذي يزعمه الكاتب، فالنفوس الهادئة المستكينة التي لا تعرف تقلقلا نفوس غير كاتبة، أما الذات الكاتبة فذات متعددة، تدرك جيدا أنّ كائنات شتى كثيرة تسكنها، وأنها لا تعيش في كنف الوئام والاستقرار إنما تتدافع على الدوام، فيجذب بعضها البعض الآخر، و"يُبهذل" بعضها البعض الآخر، فيستخف به ويسخر منه ويتهكّم عليه ! هذا هو مناخ الرّواية، إنها – مثلا أكرر دوما – ليست بنية معرفية تنشد الحقيقة، إنما هي تنشد حقيقة ما… قد تختلف من قراءة إلى أخرى… بل إنها لتختلف من قراءة إلى أخرى حسب اختلاف القرّاء.
n تجلّى في مدوّنتك النقدية اهتمامك بالأدب المقارن، والأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية، هل وجدت ما يُميّزه عن الأدب العربي المكتوب بالعربية ؟
oo بقي الخطاب الرّوائي الغربي – في أعراف نقاد كثيرين – خطاب أطراف، تستوي في هذا المدوّنتان العربية والمكتوبة بالفرنسية ويتوافق الموقفان المشرقي والأوروبي. ويبقى الخطاب النقدي الذي يتناوله مخطئا أهدافه معرضا عن تقصّي مكامن الأدبية فيه وعن اعتباره من جيد الأدب، في الشائع الغالب الأعم. فالاهتمام بالمدوّنة المغربية (ضمن مجال الأدب المقارن) يعود إلى الإحساس بهذا التناقض الأصيل الذي تتبع عنه ثنائية المشرق والمغرب، أو قُل أنه ينبع منها !
وهو يستند إلى تبريرات متعددة، منها الشخصي الناتج عن إسهامنا في الساحة الثقافية التونسية، ومنها الموضوعي الكامن في بحوثنا الجامعيّة، ومنها المستقبلي النابع من توقنا أي إبراز ما يخصص هذه النصوص، ويُسهم في التعريف بأدبيّتها، ويُنبه إلى مطايا التأثير المتبادل بينها. لهذا فإنّنا نودّ أن نُسجل هنا أن مشروع اهتمامنا بالأدب المغربي مشروع طموح، ذو غايات متنوّعة، وهو المتردّد بين ثقافتين تتبادلان المدّ والجزر والإغناء المتبادل منذ عقود من زمان. ومهما يكن من أمر فإنّ اقتضاء البحث في هذا المجال الأوسط بين إبداعين روائيّين تونسيّين، أو مغربيّين، كُتبا في لغتين مختلفين، قد أضحى اقتضاء عاما ينبجس ممّا يُحبّر فوق أعمدة الصحف، ومما ينشأ في الملتقيات الأدبية العامة، فضلا على ما قد تظفر به طيّ هذا المصنف المتخصّص أو ذاك.
والملاحظ أنّ الأدب المغربي بصفة عامة قد أخذ في الآونة الأخيرة يلفت الانتباه، ويتطلّب الانعطاف بالنظر والدرس والتمحيص، بيد أنّ المسألة لم ترق إلى حدود المقارنة بين أساليبه، وأنساقه السردية، وأغراضه ودلالات خطابه. ولاشك أنّ تواتر صدور روايات جديدة تستعمل اللسان الفرنسي، في تونس والجزائر والمغرب، بعد عقود من انقشاع الحماية، يُعدُّ من القضايا التي تتطلّب النظر والتحقيق، فضلا على المواضيع المعالجة والخيارات السردية والأسلوبية وجميع ما يحف بها من مستلزمات وحواف، تعود إلى التقاليد الأدبية والفنية والثقافية العامة.
لهذا فإنّنا نتوق إلى توظيف المقارنة بين المدوّنتين العربية والفرنسية في بلاد المغرب لتجاوز الموازنات التاريخية والاجتماعية والسياسية نحو البحث في إنشائية النص الرّوائي المغربي بصورة عامة.
n لاحظنا أنّ الأدب العربي في المهجر، وخاصة منه التونسي، يعيش على الذاكرة، ولا يستفيد من الفضاءات التي يعيش داخلها، باستثناء قليلين، فكأنّه لبث أسير "القصبة" أو "القيروان". هل قدر الكاتب العربي على البقاء أسير الذاكرة ؟
oo فعلا هذه الملاحظة ذكية جدا، تؤكّد أن الكاتب يبقى أسير حضارته، وما تقوله هاهنا يُمكن أن ينطبق على الأدب في المهجر بصفة عامة، فجماعة جبران وأبي ماضي، وميخائيل نعيمة مثلا لم تستفد كثيرا من الفضاء الحاف بها مقارنة باستفادتها من المخزون الداخلي الذي حملته معها عبر المهاجر المتكرّرة التي قصدتها. فكأنّ الأدب يبقى محكوما بنواميس داخليّة ترجع إلى الثقافة التي يتربّى داخلها الكاتب طفلا، أكثر من عودتها إلى المناخات الجديدة التي يعرفها كهلا، لهذا فإنّنا نؤكّد معك أنّ الأدب العربي في المهجر قد ظلّ يعيش على ذاكرته الداخلية دون أن يستفيد كثيرا من الفضاءات التي يعيش داخلها… دون أن أضيف قولك "باستثناء قليلين"… فهؤلاء القليلون أيضا – في جوهر أعمالهم – يَمور الأدب العربي القديم. خُذ مثلا على هذا عبد الوهاب المدّب، صاحب اللغة المعقدة جدا، حتى بالنسبة إلى الفرنسيين أنفسهم، وصاحب المدوّنة المفعمة بالمصطلحات الفلسفية والاجتماعية والتاريخية الدينية، فلسوف تنتبه إلى أنّ مدوّنته قد انبنت على استرجاع التصوّف بكيفية دائمة وثابتة. لقد أكّد أن تلك العودة تعني إسهاما في الحضارة الكونية، التي يدخلها من خلال الفرنسية بمخزون ثري هو التراث الصوفي، بأنواعه.
لكن الأحكام التي ننشئها حول مدوّناتنا لاحقة بالنسبة إليها. فنحن نكتب أولا، ثم تأثير الأحكام بعد ذلك. والحكم هاهنا لا يُبرّر الأصل إنما يؤكّده. لهذا نلح على أنّ عبد الوهاب المدّب كاتب عربي يكتب بلغة أجنبية عزيزة جدا، قريبة من نفسه. فالعروبة والأسلوب في أعمق تجلّياتهما يطلاّن برأسيهما من فجوات مدوّنته بكيفيّة لافتة.
n تكتب القصة القصيرة بنفس روائي، حتى أنّك تعود أحيانا إلى القصة نفسها لتستأنفها كقصة "زرنيخ" مثلا، وبعض قصصك أشبه بروايات قصيرة، مثل قصة "المرأة التي تدبغ ظهور الرجال" !؟
oo أنا على يقين من أنّ أعمال الكاتب تنفتح على بعضها بعضا. يحدثُ ذلك بسُبل خفية كثيرة، ويحدث أحيانا بكيفيات واعية غير خفية، والملاحظ أنّني أتولّى إحداثه جهرا بإشارات كثيرة، فرواية "حمام الزغبار" التي أتولّى نشرها هذه السنة تُختتم – على سبيل الذكر – بهذه الطريقة : "وقد ورد ذكر هذه الدروب والحمام والفرناق في مخطوط "التاج والخنجر والجسد" الذي وقعت بين أدينا نسخة منه، حيث وصف الكاتب السراديب الطوال المودّية إلى زاوية سيدي فرحات، الواقعة شمالا على مسيرة نصف يوم لراكب الدابة من القيروان". ولك أن تنتبه إلى أنّ رواية "التاج والخنجر والجسد" تتضمّن في خاتمتها إشارة إلى "حمام الزغبار"، أما رواية "النخّاس" فتشير إلى هذين النصين كما تتولّى الإلمام إلى روايات أخرى كُتبت، وإلى نصوص مخطوطة، وإلى أعمال لازالت في ضمير الغيب، إنّما أصبو إلى تجبيرها مستقبلا. ضمن هذا التداخل المقصود أُدرك أبعاد إشارتك إلى أنني أكتب القصة القصيرة بنفس روائي، وكنت ضمن هذا الحديث أشرتُ إلى انفتاح هذين الجنسين أحدهما على الآخر. هذه وجهة في التصرّف تروقني كثيرا، وإني لموقن من أنّ الواحد منا – مهما يكن من أمر – يعالج نصا واحدا بكيفيات مختلفة.
وغالبا ما يكون الأمر مختزنا في روايته الأولى، أو الثانية، انظر الأفلام الأولى لكبار المخرجين في العالم تجدها تحوي كل شيء، مثل "صندوق الأم في المقصورة القديمة"… أمّا الأشرطة الموالية فتعكف على بعض اللمحات أو المشاهد الموجودة في "الصندوق الأول" فتعيد معالجتها وتوظيفها… شأن الزئبق المستعصي على المعالجة !
n هل كنت تلملم، بسفينتك في "النخّاس"، مثل نوح بقايا شعوب المتوسط ؟
oo لقد كنتُ، على حدّ عبارة ابن النديم، أرغب في لملمة جميع شعوب الأرض. وأزعم أنّ مهمّة الرّوائي تتمثّل في جدوى أن يقول كل شيء في وقت واحد. أو قل أن يُعبّر عن الجزئي وهو يتعرّض إلى الكلي. صورة الطوفان، وسفينة نوح، تروقني كثيرا. فهي تعني التجميع، والبدء من جديد والاستئناف فالخلاّق، كما تعني الحياة إذ تُبنى على زوجين من كل جنس. بصورة عامة هو ذاته الهدف الذي قصدتُ. التجميع والاستئناف والابتداع كلّها مسائل تعنيني كثيرا.. لهذا أقبل الليغوريا الطوفان ونوح للتعبير عن "النخّاس". كذا النخّاس كانت تتوق إلى جمع "العرب والعجم والبربر، وكل ما عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" عسى أن تقول كل شيء، أن تمسك بالجوهر في حركته غير المرئية المنسوبة داخل تجاويف الزمان والمكان.
وفكرة لملمة الشعوب تعني ضربا من الكوسموغونيا، أي القصة التي تحكي البدايات، وتقول الاستهلال. كذا النخاس تتوق إلى التعبير عما به كانت بدايات المتوسط خاصة، في ذلك الحوار العجيب بين اليونان والرومان والعرب، في صدام خلاّق ابتدع الفلسفة، والحب، والخير والشر، ابتدع الله الشيطان، والحرب والسلم، ابتدع القمح والشعير والعسل والزيت الذي يكاد يُضيء !!!
وألبث دوما أصبو إلى كتابة نص مثل النخاس، وإنّي الساعة أشتغل على موضوع آخر يُتيح بالنسبة إليّ الكثير من إمكانات التجميع التي تشير إليها، وهو موضوع "الكثرة" و"التعدّد" و"التكسّر" التي تسكن الكائن البشري، أو قُل تسكنني، وتعبر عن هجنتي وتعدّدي. هاهنا أقدم صورة الكوميديان القادر على تمثيل جميع الأدوار دون أن يتقمص أيا منها تقمّصا نهائيا. هذه هي المواضيع الكبرى التي تغريني يا أستاذ كمال، بل تُغريني للإمساك بها يعسر حقا الإمساك به في وقت يتحتم على جنس الرواية أن يقول الكثير ، بل يتحتّم عليه أن يقول كل شيء !!!
n كيف ترى المرأة ؟ بعين الفنان أم الشاعر، أم النخّاس ؟
oo بعيون هؤلاء جميعا ! المرأة كائن خارق بالنسبة إلى الرجل (كما أنّ الرجل كائن غير عادي بالنسبة إلى المرأة)، لهذا ينبغي أن يتحفز ذهنه، وحواسه وخياله، وكل ذكائه لإدراكها والإلمام بالعامل السحري الذي تشيعه فيما حولها. وموقع المرأة في الأدب أجلُّ من موقعها في الحياة وأبقى. لذا فإنّني ألحّ على ضرورة أن يتعاضد الفنان، والشاعر، والنخّاس للإحاطة بهذه الظاهرة التي تتأبّى على الإحاطة : الفنان كي يُحيطها بهالة من التقديس، والشاعر للتغني بآلائها، والنخاس لاختراق كيانها وتطويعها لأداء مهمات أرضية !؟ هذا هو التناقض الأصيل الذي يقوم عليه وجود كل امرأة، والذي ينبغي التعامل معه بكيفيات مختلفة متفاوتة.
الشعر والفن والنخاسة تتعامل مع فتنة يعسر التعامل معها، مع زئبق يعسر الإمساك به وتذوبه. وجذر الفتنة – مثلا تدرك أستاذ كمال – متنوع الدلالات. لهذا فإنّ ذلك يتطلّب تعدد سُبل التعامل معه. فهو يقوم على :
ـ الغواية
ـ الحرب / وبعد الشُّقة
ـ والفتّان هو الشيطان
ـ السحر.
لذا تأكّد أن تحافظ المرأة الفاتنة بسرب من الفنانين والشعراء والنخاسين كي يُسهموا في تعداد آلاتها، والوقوف بين يدي غوايتها والخضوع لها، والخروج عليها وانتهاك حرمتها. هذا التناقض الأصيل في كيان المرأة هو الذي رغبت بلا شك في الإمساك به عبر رموز (الفنان والشاعر والنخاس)، وهو بلا شكّ لبُّ الأمر كله في لعبة التبادل الآسر التي تحدث بين المرأة والفن.
ولك أن تنظر في مختلف تجاربي في مجال الرّواية ولسوف تظفر بما يؤكّد هذا التعدد في التعامل مع المرأة. فهي محل الرغبة، ومنطلق الإغواء، وباب من أبواب اختراق المقدس. "مدونة الاعترافات والأسرار" تؤكّد هذا و"راضية والسيرك" و"النخاس" والمجاميع القصصية و"التاج والخنجر والجسد"… وغيرها من القصص القصيرة، تدور جميعها حول معاني الإقبال والإدبار في التعامل مع هذا الكائن الروحاني الأرضي، الإلهي الترابي، البعيد القريب، العجيب الساحر والبسيط المتاح !
عليه فإنّني أبوح هنا بأن الأدب برمّته قد لا يعدو أن يكون ترددا بين مختلف إشكالات الوجود الكبرى، وهل المرأة غير واحد من أهم إشكالات الوجود !؟
n ألا تعتقد أنّ الروائي العربي اليوم انقلب إلى نخّاس ؟ أنا أرى ذلك فعلا. فهو يحشو نصوصه بالشفاه والقُبل وأجساد النساء.. ؟ كيف يكتب بوجاه الجسد ؟
oo إنّ الاكتفاء بالنخاسة (على معنى الإجابة السابقة) يُعد تقصيرا صريحا، خاصة في مستوى الرّواية. لهذا فإنّني أعتقد أنّ الروايات (أو الرّوائيين) التي تشير إليها (أو تشير إليهم) لا يمثّلون الأنموذج العربي الأوسط، أو الأنموذج الأكثر شيوعا بين الأدباء. لهذا فإنّني أودّ أن أشير إلى أنّ الروايات الجيّدة أو الروائيين المجيدين، أرفع من مجرّد معنى النخاسة، أو المفاهيم الحافة به. وأسوق على سبيل الذكر لا الحصر رواية مثل "فساد الأمكنة" لصبري موسى، حيث تُنتهك المرأة، بل تباع وتشترى في سوق السياسة وتشابك المصالح المشبوهة. يحدث ذلك من قبل طغمة يرغب الكاتب في تصوير صلتها بملك مصر، دون أن يجعلها الأكثر سيطرة على حظوظ الناس والمجتمع، إنّما قُصاراه أن يُلمح إلى وجودها، بل وانتشار ممارساتها، وسيطرتها على أصحاب القرار وأولي الأمر. أمّا أولئك الذين يجعلون من رواياتهم دكاكين لعرض أجساد النساء فإنّهم الخاسرون أولا وآخرا. فالرّواية تتوسّل بالفن لتخييل الواقع، أو قل لابتداع واقع آخر يوازي هذا الواقع الخارجي ويتخطاه. والفن يسقط بالوقوع في المباشرة.
وما أتوق إليه في رواياتي يُختَزل في سِعَة التعاطي مع نساء الواقع ونساء الفن بكفيات غير تعبيرية، أي غير مباشرة، لهذا ففي النخاس مثلا تجد نفسك في عالم حسي تماما، لكنه حسّ الخَفَر، والحياءِ الفني (لا الحياء الأخلاقي العام طبعا). فوصيّتي للكتاب بسيطة، أعمل بها قبل غيري، "كلما سقطت الكتابة في المباشر هجرت الفن، وضحّت بالعماد الأوحد لوجود الرواية، فالمؤلف ليس في مجال حديث اجتماعي أو سياسي، أو أخلاقي… إنه في مجال فنّي يرتفع فيه الأنموذج المتعامل معه مع المادي إلى المجرد، ومن الأرض إلى الجميل القدسي كلما تركنا التصريح واكتفينا بالتلميح الدال.