عرض مشاركة واحدة
قديم 05-09-2012, 10:36 AM
المشاركة 535
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الراحل الطاهر وطار : بين فضاء الإبداع ودهاليز السياسة

ياسين تملالي
الحوار المتمدن - العدد: 3094 - 2010 / 8 / 14 - 13:45
المحور: الادب والفن


بالرغم من أن أول نص روائي جزائري عربي اللغة كان "ريح الجنوب" لعبد الحميد بن هدوقة (1971)، لا شك في أن الطاهر وطار، بغزارة إنتاجه (10 أعمال) وتنوع مواضيعه هو من أسس الروايةَ الجزائرية المكتوبة بالعربية في منتصف السبعينيات، أي بضعة عقود بعد ميلاد نظيرتها المكتوبة بالفرنسية.

بدأت مسيرة وطار الأدبية في تونس خلال حرب التحرير الجزائرية (1954-1962) بنشر بعض النصوص في الجرائد والمجلات وكتابة مسرحيات نذكر منها "الهارب" (نشرت في الجزائر سنة 1971)، لكن أولى مؤلفاته لم تصدر إلا في 1961، في شكل قصص قصيرة ("دخان في قلبي") حُولت إحداها إلى فيلم بعنوان "نوة" أخرجه عبد العزيز طُلبي سنة 1972. وقد كانت "نوة" بوصفها البليغ لتحالف الإدارة الاستعمارية مع كبار ملاك الأرض، إيذانا بما سيكون عليه كاتبُها من إيمان بواقع صراع الطبقات المرير وراء واجهة الأمة الواحدة المتحدة.

نشر وطار أولى رواياته، "اللاز"، في 1974، فجاءت صدمة لكل من كان يعتقد أن مناقضة تاريخ الثورة الرسمي مهمة مستحيلة على رجل هو عدا كونه عضوا في "الحزب الواحد"، كاتبٌ لغتُه العربية وما ألصقَ العربية آنذاك لدى قطاع كبير من الأنتلجتنسيا بـ "الرجعية الدينية" من جهة والأيديولوجية الرسمية من جهة أخرى. عبر حكاية اللاز، الشاب اللقيط الذي تزدريه القرية كلها ويبادلها هو نفس الشعور، يروي هذا النص انتقال الشعب الجزائري من مرحلة تلقي ضربات الاستعمار (والعمل على نسيانها بسرقة ملذات صغيرة عابرة) إلى مرحلة الثورة، لكنه يروي أيضا ما تخلل هذه المرحلة من مآس منها تصفية جبهة التحرير لشيوعييها إثر رفضهم حل تنظيمهم والالتحاق بصفوفها فرادى.

ليست "اللاز" رواية واقعية-اشتراكية فالتصفيات الجسدية في أوساط الثوار تلقي بظلالها على التعبئة البطولية من أجل الاستقلال، لكن كاتبها، بما لا يدع مجالا للشك، كان اشتراكيا، لم يمنعه الانتماء إلى الحزب الواحد من إدراج الشيوعيين في عداد محرري البلاد، ما كان تابوها في أوساط هذا التنظيم الأحادي بالرغم من يساريته الرسمية (بل وتحالف بعض قطاعاته مع الحزب الشيوعي في بداية السبعينيات).

اقتناعات وطار السياسية تجلت في اختياره مواضيع الكثير من رواياته : "الزلزال" (1974) التي تروي، من خلال شخصية عبد المجيد أبو الرواح، سعي البورجوازية وكبار الملاك إلى إفشال التأميم والإصلاح الزراعي، و"العشق والموت في الزمن الحراشي" (1982) التي قدمت على أنها الجزء الثاني من "اللاز" والتي تصف الصراع في البلاد بعد استقلالها بين مؤيدي الثورة الزراعية و"الرجعيين" الذين يرفضونها بحجة أن الطبقات "سنة الله في الكون". في هاتين الروايتين كذلك، لم يكن وطار بالكاتب "الواقعي-الاشتراكي المتفائل بـ"طبعه" أو بأمر من الحكام. بالعكس، سعى إلى تدمير أسطورة توازي الاستقلال والرفاهية فرسم الجزائر في أبشع ما عرفته من فقر وانتشار للرشوة والمحسوبية سنينا معدودة بعد رحيل المعمرين الفرنسيين.

نشر وطار في 1978 و 1981 على التوالي روايتين "غير سياسيتين" إن صح التعبير، هما "الحوات والقصر" و"عرس بغل". تصف الأولى في قالب أسطوري رمزي، إحباط "الرعية" (الحوات) العميق وهي تكتشف "راعيها" (القصر) في أفظع وجوه استبداده ووعيها بضرورة التخلص منه. و تدور أحداث الثانية في ماخور أثناء تحضير زواج إحدى المومسات فيما يتركز "خطابها الأيديولوجي" على فضح التاريخ الرسمي للدولة الإسلامية والتذكير بما عرفته من حركات انتفضت على الإسلام المؤسساتي المهادن.
وكان هذان النصان ختام مرحلة أولى من مسيرة الكاتب الأدبية، تلتها أخرى تراوحت اهتماماته فيها بين تجذير نقده للنظام ووصف صعود الحركات الإسلامية. ونذكر من أعمال هذه المرحلة الثانية "تجربة في العشق” (1989) و “الشمعة والدهاليز” (1995) و كذلك "الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي" (1999).

تبدو أولى هذه الروايات شبه سيرة ذاتية، فمن خلال حكاية مثقف ينتهي به الأمر مفصولا من عمله في وزارة الثقافة (وطار كان "مراقبا" بالحزب ثم أحيل على التقاعد)، يُسَلَطُ الضوء على علاقة الانتلجنتسيا الجزائرية بالسلطة وتردد الحكام بين الرغبة في كسب ودها ومصادمتها. الروايتان الأخريان تتطرقان إلى صعود نجم التيارات الدينية الأصولية في الجزائر (والعالم العربي والإسلامي)، ولا يبدو التدين فيهما كما في نصوص سابقة مرادفا للرجعية ونصرة الإقطاع والبورجوازية. بالعكس، فإحدى شخصياتها تتساءل وهي ترى الحشود تلبي دعوة حزب إسلامي إلى التظاهر في ميدان عام : "لو كان لينين حيا لتساءل : ماذا سيخسر هؤلاء الجياع لو انتصروا باسم الله". أما رواية "الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي"، فتركز على مفارقات هذه الحركات الدينية وتأرجحها بين الرغبة في تحرير الإنسان وسعيها إلى ذلك بوسائل العنف والترهيب.

لم يكن وطار أديبا فحسب. كان أيضا مجادلا ماضي اللسان، ويمكن القول إن ازدياد وعيه بطاقة الدين التعبوية وهو يرى جبهة الإنقاذ تكاد تصل إلى سدة الحكم في مطلع التسعينيات، ترافق بتعمق مقته لمن كان يسميهم "الفرانكفونيين"، على اعتبار (خاطئ واعتباطي) أنهم كلهم لا يقفون في صف الشعب ولا يحترمون لغاته وثقافته. وقد اتخذ هذا المقت في بعض الأحيان أشكالا بالغة العنف كان أحدها تصريحا قال فيه معلقا على اغتيال الكاتب الجزائري طاهر جاووت في 1993 : "لا أحد سيفتقده سوى أمه وفرنسا".

مثل هذا الكلام رسخ لدى بعض الجزائريين، ممن لم يعرفوا عن صاحب "اللاز" سوى مواقفه السياسية في التسعينيات وسنوات الألفين، صورة كاتب محافظ بل وإسلامي متطرف. لا شك أن وطار، بتصريحاته المثيرة للجدل، مسؤول عن هذه الصورة إلا أنها قطعا إكليشيه سريع يهمل أنه على "تعربه"، كان من أول من طالب بالاعتراف باللغة الأمازيغية وأن "محافظته" لم تحببه يوما إلى الإسلاميين فلم يتخلوا أبدا عن نعته بـ "الكاتب الشيوعي".