الموضوع: شجرة التوت
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
13

المشاهدات
7840
 
رشيد الميموني
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


رشيد الميموني is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
597

+التقييم
0.12

تاريخ التسجيل
Dec 2010

الاقامة
تطوان / شمال المغرب

رقم العضوية
9563
12-30-2010, 11:06 PM
المشاركة 1
12-30-2010, 11:06 PM
المشاركة 1
افتراضي شجرة التوت
شجرة التوت

"... ولا تنس يا ولدي أن تتعهد شجرة التوت القريبة من مسكنك ، بما تستحقه من تشذيب للأغصان ونزع للطفيليات المحيطة بها. وكن دائما كعهدي بك تقيا عفيفا محافظا على صلواتك . واحذر أن تسقط ضحية لنزغ الشيطـــــان وهمزه ... أمــــك الراضية عنك ."
قرأ عبد التواب الرسالة مرارا وعينه لا تغفل عن الطريق المحاذية للمدرسة قبالته . هذا أسلوب السي علال ، فقيـــه الحارة ، يعرفه جيدا . يحس بجسده يفور... لو كانت الرسالة وردت قبل هذه اللحظة ، لكان بوسعه فعل شيء يكبح جمـــاح نفسه المتأججة . لكن فوران دمه لا يمنحه فرصة للتفكير .
منذ أيام وهو يراود فضيلة في صمت . أو على الأصح هي تراوده . فلا يمر يوم إلا ويراها مارة أو قابعة على التلـــة المقابلة للمنزل يمينا ، وللمدرسة يسارا . و لا يدري حتى الآن ، من حدد الموعد ، أهو أم هي .
ومنذ الأمس ، صار وحيدا . سافر رفيقاه في رخصة فتنفس الصعداء . كم كان يحلم بهذه الفرصة ، في منطقة نائيــــة قال عنها يوما لأمه أثناء إحدى العطل :"- هناك... تحيط بنا جبال جرداء . نقطن في دور من الطين . لا ماء ولا أي شيء.. نحن هناك أقل من درجة إنسان ."... ورغم ذلك كان يحاول الحفاظ على مكانته المميزة بين التلاميذ الذين كانوا يتسابـقون لملء جراره بماء المنبع البعيد ، وبين السكان بالـتزام الوقــار، فلا يرى إلا في فصله يدرس ، أو خلف نافــذة بيته يقــرأ أو تحت شجرة التوت الوحيدة في التلة ، يتأمل ..." ماذا اقترفته من ذنب حتى يرمى بي في هذا المنفى السحيق ؟"
لكن فضيلة تنتزعه من عزلته ، فلا يفكر إلا فيها ، ولا تشغـله ســوى بشرتها القمحــية وعينــاها السوداوان وقوامها الغض . هي وحدها من بين فتيات الدوارلا ترتدي حزام "الكرزية" ولا تطيق "الشاشية" على رأسها رغم حرارة الشمس الملتهبة . لا يعرف من هي ومن أين أتت . لكنه ينتظرها الآن ، في هذا الأصيل الفاقع لونه ، المغبرة سماؤه .
في الصباح التقاها عند شجرة التوت . رد التحية باقتضاب ، لكنها توقفت وقالت بجرأة :"- طريق السلامة لأصحابك يا أستاذ.".. ثم قالت أشياء أخرى . ربما عرضت عليه تنظيف البيت وترتيبه.لا يدري . انصرف مذهولا كمن أصابه الدوار.
يلمحها منحدرة من التلة . تتوقــف لحظة عند شجرة التوت ، ثم تتقــدم بخطـى ثابتة . لا يـبـدو عليها الارتباك . أحس بالخجل لشجاعتها ، بينما هو ينتفض وجلا وحذرا . تلج الباب المورب وتوصده وراءها ، ثم تلقي التحية وتقول مازحة:
- من أين أبدأ ؟ من المطبخ أم ...؟
ازدرد ريقه وأجاب متلعثما :
- كما تريدين... ما كان عليك أن تجشمي نفسك كل هذا العناء .
- لا عناء في هذا . تعبكم راحة ، يجب أن تعلم كم هي معزتك عندنا كبيرة .
ماذا يمكن أن يضيف ؟... لا شيء . هي بدورها سكـتت وانغمست في العمل . السكــون يخيم على البــيت وما جاوره ، بينما جسمه يغلي غليانا وقلبه يخفق بعنف حتى يخاله يوشك أن يتوقف نبضه وهو يرى الفتاة تنتهي من عملها وتستلقــي بجانبه على الكنبة منهكة .
يزداد الأصيل صفرة ، والجو اغبرارا . تلوح شجرة التوت هناك جامدة . تبدو له ذابلة . منذ متى لم يتعهد أغصانهــا وتربتها بالعناية والاهتمام ؟ يخيل إليه أنها ترمق فضيلة بنظرات يكاد الشرر يتطاير منها ، بينما يستشف منها نظرات إلـيه كلها عتاب ولوم وخيبة أمل . تزيدها صفرة الأصيل ذبولا والسكون وحدة وانعزالا بعد يوم قائظ لم تشهد له المنطقة مثيلا.. لكن صياح امرأة يعلو فجأة ، وتندفع من وراء التلة مثيرة نقعا . إنها تتجه نحو البيت .
يستفيق عبد التواب من غيبوبته ويدفع عنه الفتاة التي لا يبدوعليها وقع المفاجأة . هل كانت تتوقع ذلك ؟.. ليس لديه الآن مجال للتفكير والتحليل ، فالوضع حرج وسمعته في خطر . يجرها من يدها إلى أقصى الفناء ، ويفتح النافذة الخلفية ، لكن رؤوسا مشرئبة ترنو إليه فيوصد النافذة جزعا ويعود إلى الأخرى وينظر إلى التلة . رباه ، كأنها زرعت أجسادا آدمية. من أين أتوا ؟ وكيف علموا كلهم بالخبر ؟ ومتى تتوقف ولولة المرأة التي تكاد تخلع الباب بضربات قبضتها :
- بنتي ... بنتي ... أفسد بنتي ... يا للفضيحة .
ينظر إلى فضيلة مذعورا كغريق يلتمس النجاة ، فتغض بصرها . يعاود النظر إلى الخارج . لم تعد تظهر شجرة التوت و قد لفتها من كل ناحية الأجساد المتعطشة لمزيد من الإثارة . وربما داست تربتها الأقـدام وامتدت الأيادي تعـبث بأوراقهــا الوارفة . كيف هانت عليه ورسائل أمه لا تكاد تخلو من وصية بالعناية بها ؟
- الفضيحة ؟ - قال أحد المتفرجـين في تهكم- تخشى الفضيحة وهي قادمة للتو من بيــن أحضان الجنــود في "الكوارتيل"؟ لكنها ذكية كعادتـها وسوف تنال ما تريد .
الروابي الجرداء تنبت أجسادا أخرى . شاع الخبر كالبرق . في العيون بريق النشوة العارمة ، و لهفة عظمى لرؤيــة "المعلم" متلبسا ، ولمشاهدة ما يضع حدا للحياة الرتيبة القاتلة في هذه المنطقة المنعزلة . في الأصوات المبحوحة رنـــة ابتهاج..." الدرك . أفسحوا لرجال الدرك ... أنت ، أيها البغل ." .. أين منه الآن لحظات السكون ليهرع فيها إلى شجرته ، يستظل بظلها ويبثها شكواه ؟ ... لكن الآن عليه الخروج من هذه الورطة والإفلات بأي ثمن من الكماشة التي تطبق عليه .
- عفوا سيدي... لا شيء يستدعي كل هذه الضوضاء... هي خطيبتي تزورني ، ونحن متواعدان على الزواج .
- حقا ؟ نرجو ذلك .
وتنبري المرأة حاسرة الرأس ، منفوشة الشعر قائلة والزبد يتطاير من شدقيها :
- ليكن... ولكن الآن ... والعدلان مستعدان .
يغوص الدوار في الظلام وتختفي الأجساد فجأة كما ظهرت بغتة . ولا يبقى سوى صدى الضحكات والصيحات وكذا الزغاريد . كانت زغاريد غريبة لم يألفها من قبل قط . كانت أشبه بنعيق أو على الأصح بنحيب ينعي أرواحا .
- مبروك عليك يا فضيلة ... تستأهلي ذاك المحترم .
- نلت ما كنت تتمنينه وأمك... عليك الآن بالحلاوة . الجماعة لن تتخلى عن الزردة .
- هل رأيتم سحنته وهو يمضي العقد ؟ كان كمن يساق إلى الإعدام .
عجبا . أكان كل هذا الحقد مكبوتا في الصدور وهو لا يعلم ؟ هل كانت المكانة التي حلم بها بين السكان سـرابا ؟.. كم هو طويل هذا اللـيل ، وكم هي موحشـة هــذه اللحظات . كل شيء حوله جامد . حتى الزمن توقف . ينظر بوجــل إلى حيـث الشجرة . لا يراها ولكنه يشعر بالخزي قبالتها . يخيل إليه أنه يسمع نحيبها ، بل حشرجتها . وتمتد يده بحركة لا إرادية إلى ملابسه يتحسسها.. لم يعد يدري هل هو بثيابه أم عار منها . لقد غفل عن كل شيء ، حتى عن تعاقب الليل والنهار، وذهلت نفسه عما يحيط به ، فلم يفطن إلى وصول رفيقيه وجلوسهما بجانبه . كانا ينظران في صمت إلى الكتب المبعثرة عند قدميه الحافيتين ... تربية الطفل عند بياجي... المرشد التضامني ... وسائل الإيضاح في علم النكاح ... السعادة الزوجية...
- إنه ينتحر ويموت ببطء .
- كم كنت متلهفا لأزف إليه بشرى انتقاء أمه عروسا له .
- لقد أخطأنا حين تركناه وحيدا .
- لقد فات الأوان ... ما العمل الآن ؟
- الانتقال... لا شيء ينقذه غير الانتقال .
وفي انتظار الانتقال ، يقضي عبد التواب معظم أوقات فراغه في تأمل شجرة التوت التي لم يعد يجرؤ على الاقتراب منها رغم شدة الحر. يشعر في بعض الأحيان أنها لم تعد هناك وأن أياد اقتلعتها من جذورها . بينما تتنقل فضيلة كالفراشــة بين المنبع والبيت ، متعمدة المرور عند سور السوق الأسبوعي حيث يجلس ثلة من الفتيان . تتصنع الجد والوقار لكـــنها تبتسم لتعليقاتهم :
"- هنيئا لك العريس الجديـد .. لا تبخلي عليه بطريقتك الفريدة في الإمتاع ... المهم أن تذكري العزومة جيدا... فهناك من ينتظرها على أحر من الجمر. ولكن احرصي على أن يكون الآخر منهمكا في بيع الحروف ."
تطلق فضيلة ضحكة مجلجلة وتأخذ حجرا لترمي به صوبهم فيتلقفونه متمايلين على بعضهم البعض .
".. ولا تنسي يا أمي أن تكثري من دعواتك لي في صلواتك أن ينتشلني ربي من هذه المنطقة الفظيعة ويبعدني من هؤلاء الوحوش وأن تسامحيني على ما سببته لك من آلام ومن خيبة أمل ... إبنك المطيع عبد التواب"