عرض مشاركة واحدة
قديم 12-29-2010, 10:37 PM
المشاركة 2
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مذيعة لأحد البرامج التى تختص ببث القضايا المنفرة لكل فطرة سليمة يبلغ راتبها خمسة وخمسين ألف دولار فى الشهر الواحد بينما فى مصر يبلغ بدل شراء الكتب لخطباء المساجد عشرين جنيها أى ما يعادل أقل من أربعة دولارات

بينما فى مصر قديما كان راتب محمد حسنين هيكل فى الأهرام يبلغ خمسة آلاف جنيه سنويا وهو مبلغ مهول بمقاييس الخمسينيات ليس لأنه صحفي فى جريدة قومية بل لأنه هيكل وعلمه وقيمته لا خلاف عليهما
الآن لا يستطيع ممثل من الدرجة الثانية أن يسير فى الشارع لكثرة الإزدحام حوله بينما لو نزل هيكل الآن للشارع فلن يعرفه إلا شخص من كل عشرة أشخاص
وقديما كان التمثيل فى الأربعينيات مهنة من لا مهنة له
وكانت لا قيمة لهم بالمجتمع لدرجة أن المحاكم لا تقبل لهم شهادة نهائيا , ولم يكن ينضم للتمثيل إلا من لا هوية لهم بالمجتمع , حتى الوقت الذى انضم فيه يوسف وهبي وكان من عائلة كبيرة ويحمل الباكوية وصارت تلك الحادثة حديث الأوساط استنكارا ومن ساعتها بدأ الإنهيار
فتخيل هذه الصورة القديمة وضعها إلى جوار الصورة الحالية ولا تعليق
وقديما عندما تقدم عبد الحليم حافظ وهو فى أوج شهرته للزواج من فتاة من عائلة متوسطة كان الرفض القاطع من أهلها حتى يترك مهنته ـ برغم الشهرة الكاسحة ـ ولكن كانت ثوابت المجتمع وثقافته قائمة بخيرها لم يمسها الهوان
والشيخ الإمام محمد مصطفي المراغي بعد أن حاز عالمية الأزهر فى شبابه وصار أصغر من حصل عليها أراد والده أن يختار له زوجة صالحة وفكر فى إحدى بنات عائلة كبري فى الصعيد ترجع أصولها إلى النسب النبوى المكرم وتعج العائلة بأهل العلم والمكانة الإجتماعية الضخمة ولم يكن والد الشيخ المراغي طامحا فى هذا النسب إلا لأن ابنه عالم أزهرى له شأنه , رغم صغر سنه فقبلته العائلة على الفور , لأن المجتمع لم يكن يري شرفا يدانى شرف العلم بناء على الثقافة التى كانت صحيحة ومتينة ..
وأحد القضاة الكبار دخل المحكمة ليمارس عمله واستوى جالسا وبالصدفة البحتة كان والده فى القاعة مع الحضور لأن صديقا له أتى شاهدا بقضية سينظرها القاضي الإبن ولم يكن الوالد يعلم أن ولده هو قاضي الدائرة
ومن على منصة القضاء لمح القاضي والده بين الصفوف , فهب واقفا على الفور وغادر القاعة ودخل لغرفة المداولة وأرسل لأبيه فأتاه فقبل يده ورجاه أن يغادر القاعة ليتمكن من الجلوس على المنصة !

وعندما حدثت نكسة عام 1967 م ..
وكانت كارثة لا تدانيها كارثة بالطبع .. وتوقعت إسرائيل والولايات المتحدة أن يستبد اليأس بالمصريين والعرب جميعا بعد الأهوال التى اكتشفوها من قوة عدوهم وعتاده ومن إهمال قادتهم .. لكنهم فوجئوا بالمظاهرات فى مصر تخرج غاضبة هاتفة بنداء شهير لا أستحب ذكره لأنه تعبير شعبي متجاوز , تقول لعبد الناصر لا تتنحى الآن عد لمقعدك حتى تنكشف الغمة , ولم يبق فى مصر كلها طفل واحد له هم أو حديث إلا عن الحرب القادمة ..
وترك كل ذى نعمة نعمته وهب ليرسم خطا فى لوحة النصر القادمة فانضم متطوعا للجيش عدد كبير من الشباب منهم المهندس والطبيب والمحامى تاركين عملهم الرئيسي ساعين للجيش طواعية
وتآزرت العرب جميعا على قلب رجل واحد من المحيط للخليج وأجبرت حكامها على أن يكونوا رجالا فكانت حرب التحرير من نفس الجيل الذى تلقي الهزيمة الساحقة فلم تهز من عزيمته شعرة
فلماذا فعلت الشعوب العربية ذلك .. ؟!
فعلته لأنها كانت ذات ثوابت ثقافية صحيحة وسليمة لا تصف المسميات بغير أسمائها حتى العصاة منهم لم تكن معاصيهم تظهر إلا مع أقرانهم .. لم يكن الواحد منهم ليجرؤ على الوقوف مهتزا أمام والده أو يجرؤ أحدهم مرة واحدة على تحليل المعصية والقول بإباحتها
فكيف كانوا كذلك ولماذا أصبحنا نحن خلافهم .. ؟!

لأنهم اكتسبوا العقل الناضج .. والهمة العالية .. والثقافة السليمة ونحن افتقدنا لثلاثتهم ..
فكيف يمكن أن يدرك الراغب فى الثقافة نفسه .. هذا ما سنحاول مناقشته فى السطور القادمة ..


أولا .. العقل الناضج والطريق إلى الثقافة ..


يقول الحق سبحانه [إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا] {المزمل:19}
فمن ذا الذى لا يريد إدراك نفسه فى عصر الفتن ويتخذ لربه سبيلا .. والعقل الناضج هو الذى يدرك أن العبادة قوامها العبادات لكن أساسها العلم الذى يجلب التقوى ..
هذا أول طريق العقل إلى الثقافة فلو لم يدرك الإنسان أن طريقه لله لن يتأتى إلا بالمعرفة الحقة والعلم الضرورى سيضل طريقه دونما شك ولو قضي دهره صائما قائما ..
لأن الثقافة إن كانت بالعصور القديمة ميزة وتكرمة ففي عصرنا الحالى ضرورة لا غنى عنها ..
فقديما كان العلماء قائمون على حدود الله يحرسونها يقظين لكل صاحب فتنة ولكننا الآن فى عهد صار أهون الناس على الناس فيه هم العلماء وضربت بينهم وبين الجماهير الحجب , وشغلتهم السلطات بأرزاقهم بعد أن تعمدوا تركهم لا يجدون قوت يومهم وانفرد بالإعلام أصحاب الأوهام .. فلو سار المرء فى حياته دون حصن ثقافي وقع فى أقرب شرك منصوب له
وبداية الطريق لا تكون إلا بجلسة منفردة مع النفس أولا يسأل فيها كل واحد عقله بسؤال منطقي أين يبتغي الوصول بالضبط ؟!
هل الحياة بشكلها الحالى تمثل أمرا مقبولا والإجابة بلا القاطعة ومن ثم لابد من التفكير الجدى أن الطموح للمعرفة ليس لأن يقال عن الإنسان أنه مثقف وليس لكى نكتب وننشر على الناس ونستمع لآهات الإعجاب وليس لأى غرض كان ..
بل يجب أن تكون المعرفة للمعرفة والثقافة للثقافة ..
هذا ما يجب على الإنسان أن يتخذه يقينا دامغا قبل أن يسأل وقبل أن يفكر من أين أو كيف أبدأ ..

وعندما يقرر البدء لابد أن يكون العقل ناضجا واعيا للخوض فى بحار المعرفة .. والنضج والوعى هو الذى يرسخ للمثقف أن يكون باحثا فيما بعد ويتوفر فى المرء عن طريق النظر إلى الكاتب قبل الكتاب والى الدليل قبل الإقتناع .. هذا بالطبع لا يتم تطبيقه على الثوابت التى اتفق عليها علماء كل علم
فمن كوارث الإنترنت بالذات كمصدر هام للثقافة
أن القارئ يطالع غرائب المعلومات والحقائق والموضوعات فيأخذها على عواهنها وهى كلام مرسل قد يكون ماسا بثابت فى الشريعة أو بحقيقة تاريخية هامة أو نحو ذلك
فالحل يكون بالنظر للكاتب هل أورد فى موضوعه التوثيق الكافي للمعلومة , أم ذكرها منفردة فإن ذكرها منفردة فعلى القارئ المثقف أن يسأله عن مصدرها وإن لم يتوفر يبحث عنها القارئ نفسه ولا يأخذها أو يتعامل بها ما لم يستوثق من أهل علمها
أما إن الكاتب ثقة بشخصه ومتحدثا فى مجاله فلا بأس باكتساب المعلومة منه مباشرة وهؤلاء الكتاب هم المعروفة سمعتهم وهى خاصية سيكتسبها القارئ كلما قطع أشواطا فى القراءة وذلك عندما يدرك أعلام كل مجال
وهذا يعفي القارئ من الحماقة المنتشرة بين القراء والمثقفين وهى احتجاج بعضهم بمعارضات مجهولى الهوية أمام أقوال وجزم كبار المؤلفين والمحللين ..

مثلا ..
كتب هيكل كتابه الشهير عن حرب الخليج المعروف بنفس الإسم , والذى أثار ضجة معتادة تصاحب كتب الأستاذ عادة ولكن لأن الكتاب أتى هذه المرة معالجا حدثا معاصرا على خلاف المعتاد من هيكل فقد جاءت حقائق هيكل المعتادة وتحليلاته بالغة الصدمة والتأثير لأنها أتت بعد عام واحد من أحداث حرب الكويت عام 1991 م
وخرجت العديد من الأصوات المعارضة للكتاب واهتزت بعض المؤسسات الرسمية وحاولت تكذيب بعض معلومات الكتاب ووثائقه ..
وهذا الأمر ـ لمن يعرف هيكل ـ يُعد إجراء بالغ الخفة والطيش , لأنك قد تختلف مع هيكل فى تحليله للمعلومات إلا أن ما يمكنك الطعن فيه هو معلوماته ومصادره التى لا تتأتى لبعض أجهزة المعلومات والمخابرات فى العالم , ويكون أى كتاب لهيكل ملحقا به فصل أو أكثر كملحق وثائقي لا يضم إلا وثائق رسمية من دولها وجميع شهادات الساسة والمفكرين التى ترد فى كتب هيكل تكون منسوبة لأصحابها وهم على قيد الحياة .. ومن هذا المنطلق اكتسب هيكل مصداقيته المعروفة عالميا كواحد من أبرع عشرة محللين سياسيين فى العالم تؤخذ كلمتهم فى الشأن السياسي وهيكل هو العربي بل والشرقي الوحيد من بينهم
ولأن الساحة فى عالمنا لعربي تزدحم بمن هو ليس أهلا للقلم فقد خرج أحد الكتب طاعنا ومتهما هيكل بالتزوير وكان عنوان الكتاب يوحى بأن صاحبه قد أمسك بأدلة قاطعة تفضح زيف هيكل حيث كان الكتاب بعنوان { أوهام القوة والنصر عند هيكل }

وبتقليب صفحات الكتاب وجدته يحتوى على مقالات مجمعة لعدد من الكتاب الخصوم لهيكل مثل د. عبد العظيم رمضان معروفة كتاباته أنها ترد مرسلة وعبارة عن سرد أعمى خال من أى وثيقة أو دليل إن كتب شيئا عن الشأن الجارى , ومع تلك المقالات بعض قصاصات الصحف الرسمية التى نشرت تكذيبات رسمية صادرة عن بعض الحكومات بشأن بعض المعلومات الواردة بكتاب هيكل
هناك من يقرأ مثل هذه الكتب الغير واضحة الملامح ويبنى عليها مواقفه .. لكن الأحرص يكتشف على الفور بمجرد النظر للكتاب أن عبد العظيم رمضان يتحدث وفقط بينما نحن بصدد وقائع محددة أوردها هيكل موثقة فأين دليلك المضاد ؟!
والتكذيبات التى نشرتها الصحف الرسمية منسوبة إلى حكومات رسمية كانت تكذيبات مرسلة ومعتادة فى مثل هذه المواقف تكون لإثبات موقف وحسب إلا أنها لا تملك نهائيا دحض حجة قائمة بدليل
وأمثلة هذه التكذيبات الشهيرة تمتلئ بها الصحف العربية كان آخرها عندما أصدرت الأهرام تكذيبا رسميا عن رياسة الجمهورية بشأن الحوار الذى أدلى به الرئيس مبارك لإحدى القنوات ونشرته الأهرام كما هو وكان الحديث محتويا على بعض التصريحات التى لم يشأ النظام أن تؤخذ عليه فأصدرت رياسة الجمهورية بيان التكذيب
وكأن الحوار المعلن السابق إذاعته على القناة الفضائية التى جرى الحوار على شاشتها قد اختفي أو أنه أصبح فى حكم الوهم ..
وغاية القصد أن العقل الناضج يجب عليه أن يستوعب المعلومات ويستوعب الاعتراضات ويزنها بميزان الذهب

ثانيا .. الهمة العالية


يظن الكثيرون أن الثقافة ليست علما بل تقل عنه , ولهؤلاء أقول أن الثقافة علم وينطبق عليها ما ينطبق على طريق العلماء من المكارم والجزاء دون أدنى فارق لأن الله سبحانه وتعالى لن يحاسب العلماء ويقدرهم حسب عدد الشهادات التى تزين صالونات المكاتب ولا بعدد الجوائز التقديرية التى نالوها , بل سيكون الحساب على المعلومات التى أضاءوا بها طريقا أمام طالب الطريق أيا كان نوع تلك المعلومة وأى ما كان مجالها طالما كانت فى غير مجال هدم
وقد اعتاد الكثيرون أن يلقوا بأسئلة متعددة ومتكررة حول كيفية البداية .. كيف يقرأ ومن أين يبدأ وكيف أتأكد مما أقرأ .. ؟!
وفى الواقع أن الأسئلة بشكلها السابق لا تنم إلا عن غياب الجلسة النفسية للعقل الناضج والتى تحدثنا عنها آنفا لأنه لا معنى لهذا السؤال إلا فى حالة واحدة ..
أن يكون السائل مفتقدا لأى نوع من أنواع الكتب أو المطالعة , وهذا مستحيل بالطبع لأن الكتب الآن أصبحت سلعة متروكة ومتوافرة بسائر الأقطار سواء للشراء أو المطالعة العامة هذا بالإضافة لنوافذ المعرفة بشبكة الإنترنت والبرامج الثقافية والمنتديات المختلفة وغيرها
فلا ينبغي أن يحتار البادئ على طريق الثقافة فى أى مكان يضع أول خطوة بل تكون أول خطوة حيث أول كتاب يصادفه فقديما عندما قالوا للعقاد ما رأيك بالحكمة القائلة { اقرأ ما يفيدك } فقال أنها حكمة معكوسة إذ كيف يمكن أن يعرف المرء ما يفيده مما يضره قبل أن يطالعه هم يقولون ذلك وأنا أقول { استفد مما تقرأ }

وهذا هو مربط الفرس فمن الأخطاء الشائعة أن يتلمس راغبو الثقافة استشارات من أهلها عن الكتب التى يطالعونها وهذا أمر لن يأتى بأدنى فائدة لأن كل إنسان له مجاله الذى يميل إليه فلو جاءت الاستشارة والنصيحة بكتاب معين لا يميل إليه القارئ ولا يستوعب مجاله ستكون بداية منفرة عن القراءة بأكملها ..
ولذا يجب أن يحدد المثقف فى بداية طريقة أى المجالات التى يريد أن يطرقها وأيها أسهل استيعابا لأن مرحلته الأولى ستكون مرحلة تدريب وتأهيل على كيفية إمساك الكتاب والصبر على قراءته على عدة مرات ثم محاولة قراءة كتاب فى جلسة واحدة وهكذا حتى تتشرب هواية القراءة إلى الأعماق وتولد فى نفس القارئ الهمة العالية للبحث والمطالعة
ومن المفضل أن تكون البداية مع الكتب المبسطة والروايات الهادفة التى تحمل بين طياتها معلومات ثقافية دسمة وكتب المعلومات العامة للشباب وغيرها من تلك الكتابات التى تمثل إغراء على المطالعة

وقد يسأل سائل كيف يكون التصرف إن طالع المثقف البادئ كتابا يحمل قضية معينة وربما كانت قضية مثيرة للفتن أو التشكيك بالثوابت ..
وللإجابة نقول أن لهذا السبب وحده كان شرط الهمة العالية ضروريا فى توافره ..
فبداية يجب أن يبتعد المثقف المبتدئ عن نوعيات كتب المناظرات أو كتب المذهبيات وما شاكلها , فإن حدث وصادف قضية من هذا النوع فى كتاب أو برنامج تليفزيونى , يكون الحل أن يأخذ القضية برمتها لتكون محل بحث ودراسة وفهم فلا يترك سبيلا لمعرفة خباياها إلا ويسلكه عن طريق قراءة وجهات النظر المختلفة فى تلك القضية , وعن طريق طلب معاونة أهل الإختصاص فى هذا المجال حتى يصل لوجهة النظر التى يرتاح لها عقله مع الوضع فى الإعتبار أن وجهة النظر المختارة من الباحث لا يتم تركها لهواه أو حسب ما يراه بل يجب أن يكون حكمه واختياره مبنيا على مرجعية واحدة فقط وهى مرجعية الفكر الإسلامى فإن كانت وجهة النظر تعارض أمرا تشريعيا مجمعا عليه أو اتفق المفكرون فيه فلا مجال للبحث عن وجهة نظر أخرى وإن كانت القضية لا علاقة لها بالجانب الفكرى الإسلامى يكون الإختيار هنا حرا حسب قناعات الباحث
ومسألة البحث خلف القضايا ليست مسألة متروكة للصدف بمعنى ألا يتحرك القارئ للبحث خلف قضية معينة إلا إذا صادفها بل يجب على القارئ بعد أن يتعدى مرحلة التدريب أن يتخذ من كل كتاب يقرؤه قضية معينة يحاول أن يكون فيها رأيا بغض النظر عن رأى الكاتب نفسه ..
فسواء اتفق مع الكاتب أو خالفه يجب عليه البحث خلف مصادر القضية الأصلية وقراءة وجهات النظر المعارضة للكاتب وسماع حجتهم لأنه إن اقتنع القارئ بوجهة نظر كتاب واحد دون أن يطالع الرد عليها سيكون تابعا لا قارئا .. وسيكون حافظا لا مثقفا .. فالاتفاق أو الإختلاف يكون بعد مطالعة سائر الآراء
ومع الأسف الشديد تغيب هذه المزية أو الخاصية عن عدد كبير من المثقفين الذين اعتدوا على ترك الهوى يحكم ويتحكم فى وجهات نظرهم
وهذا يعارض أول مبادئ الثقافة وهى الإستقلال والحيادية فكل قارئ له كاتب مفضل .. نعم هذا أمر طبيعى لكن ليس من الضرورى أن يكون رأيك على الدوام هو رأى هذا الكاتب بعينه , لأن كلامه ليس منزلا ولا مانع أيضا من الإقتناع بوجهات نظر أخرى فى قضايا معينة تكون متبناه من كتاب لا نميل إليهم أو نؤيدهم
فالحق هو الحق بذاته ولا يعرف الحق بالرجال بل يعرف الرجال بالحق ..
وهذه الآفة هى التى وقفت وراء ترك العديدين لكتابات عملاقة لمؤلفين ومفكرين كبارا لمجرد أنهم شيوعيون أو علمانيون أو أنصار لنظم معينة أو نحو ذلك ..
فهؤلاء مثلا ينبغى تحاشي وجهات نظرهم إذا تحدثوا عن الدين أو الشريعة لكن ما الذى يمنع من أخذ وجهات نظرهم لو كانت حقيقية فى مجالات سياسية أو قضايا اجتماعية أو غيرها
ونأتى لمعيار الهمة وضرورة توافره فى المثقف ..
فهذا المعيار ضرورى لأن البحث ليس أمرا سهلا والسعى خلف معلومة أو كتاب ليس سهلا أيضا فقلما يجد الباحث أو المثقف غايته بسهولة لا سيما وأن طلب الثقافة كطلب العلم طريقه مملوء بأشواك الدنيا ولهذا جُعلت له رياحين الآخرة
وكما حدثنا التاريخ عن الأهوال التى كان يقابلها طلبة العلم فى رحلات البحث وكيف أنهم تعرضوا فى سبيل معلومة واحدة للهلاك أكثر من مرة .. حدثتنا التجارب الشخصية لعمالقة مثقفينا أيضا عن مواقف نادرة صادفوها وهم بصدد البحث خلف الحقيقة فى قضايا مجتمعهم وعقيدتهم وأوطانهم
فأحد المثقفين بحث عن كتاب نفذت نسخه من أربعين عاما كاملة ولم تتجدد طبعته وأضناه البحث ولم يجده فلجأ لبعض المثقفين الذين قرءوا الكتاب ليعتصر أذهانهم فيحدثوه عن فحواه ..
وآخر أرهقه البحث لسنوات عن كتاب نادر ووجده مصادفة فى منزل والد زوجته فهب واختطفه طالبا فى لهفة من حميه أن يهبه هذا الكتاب .. ولما كان الكتاب قد أتى مصادفة للرجل ولم يكن ذو تعلق بالقراءة فقد منحه إياه ببساطة وهو يستغرب لهفته فقال له المثقف
{ والله ما موافقتك سابقا على تزويجى ابنتك بأقل عندى من موافقتك على منحى هذا الكتاب }

فالحقيقة التى يتم بناء وجهة النظر السليمة عليها أشبه بالإبرة فى تل من القش لأنها صدق مدفون فى جبل كذب وتزييف
وعليه يجب أن يكون المثقف أثناء قراءته أشبه بالمحقق ملئ بالشك تجاه ما يقرأ , حتى يتثبت من مصادره وإن تثبت من صدق المصادر أو كانت المعلومة مأخوذة من عالم ثقة يقوم بالبحث عن وجهات النظر المخالفة ليزداد يقينه
ولو فعل كل كاتب ما تحدثنا عنه لما وجدنا كاتبا واحدا يستطيع أن يناظره أحد فى وجهة نظر تبناها
لأن الكاتب الحقيقي الذى بحث ودقق فى كل جوانب القضية قبل أن يكتب عنها تحصن بمعلوماته ضد سائر وجهات النظر المضادة ولهذا تصبح كتاباته أشبه بالطلسم الغير قابل للهدم أو الفتح لسابق استعداده .. بشرط أن يدع الهوى فى الرأى جانبا
وإذا بحثنا فى المناظرات والمعارك الأدبية والثقافية التى خاضها عمالقة مثقفينا سنرى العديد من الأمثلة المشرفة على ذلك وهم الكتاب الذين صنعوا سمعتهم من قوة حجتهم .. ولم تكن سمعتهم من فعل الأساطير بل بالجهد والإخلاص
فليس الكاتب من وضع قلما على ورقة .. بل الكاتب الحقيقي هو الذى يمسك بالقلم وتصل يده شريانا بعقله فلا يضع حرفا قبل أن يتثبت منه
بعد هذا إن أخطأ فلا بأس لأنه لا يوجد كاتب أو إنسان كامل , وكثيرا ما يصادف الكاتب أو المثقف كاتبا آخر أكثر ثقافة ودراية ينبهه لما غاب عنه أثناء بحثه النهم .. عندئذ يجب أن يتراجع الكاتب الأول أمام الحجة لأن العقل الناضج هو الذى تربي على اتباع الحق بعض النظر عن الطريق الذى أتى منه


ثالثا .. الثقافة السليمة


تأتى الخصلة الثالثة وهى الثقافة السليمة ونعنى بها حسن التبصر بكل كتاب وبكل كاتب .. فإن طالعت كتابا ترى فيه وجهة نظر معادية للإسلام مثلا فلا تتسرع باتهام الكاتب بالكفر والزندقة كما نرى اليوم ..
بل على القارئ أن يعرف تاريخ هذا الكاتب , فإن كان من مذهبية معارضة للإسلام أصلا فهنا من المؤكد أن كتابه يحمل وجهة نظر مكذوبة أو ملوثة .. أما إن كان ماضي الكاتب لا يحمل شيئا من ذلك فهنا يجب تقديم العذر لتباين الأفهام طالما أن الكاتب لم يمس معلوما من الدين بالضرورة أن يخالف أمرا أجمعت الأمة عليه
وتكون الخطوة التالية السؤال خلف القضية فربما كان الكاتب على حق لا سيما إن كان مفكرا معروفا وإن كان على خطأ فالخطأ مردود من أهل العلم والتراجع له فرصته أمام النقد البناء الخالى من التجريح
مثلا عندما ألف خالد محمد خالد كتابه { من هنا نبدأ } وطرح فيه بعض الأفكار التى لا تناسب صحيح الفكر الإسلامى جاء الرد من الإمام محمد الغزالى ردا منطقيا واعيا لأنه استشعر فى الكاتب بحثا عن الحقيقة لا غرضا مسبقا فى هدمها وكانت النتيجة أن تراجع خالد محمد خالد عن تلك الأفكار
وكمثال على الجانب الآخر فعندما ألف فرج فوده كتابه الشهير { الحقيقة الغائبة } وامتلأ الكتاب تجريحا فى التاريخ الإسلامى كان الرد عنيفا وصارما من فقهاء وعلماء المسلمين لأن الكاتب له ماض وتاريخ معروف فى العلمانية

واتخاذ المواقف من العلماء يختلف عن اتخاذ المواقف من عامة الكتاب والصحفيين ..
فالعالم الذى يخرج بفتوى أو بوجهة نظر مخالفة لقواعد الشرع أو مخالفة لثوابت المجتمع المتعارف عليها لا ينبغى أن يكون رد فعل المثقفين والقراء هو التهجم واللعن والسخرية .. لأنهم لا يملكون من الأصل أساسا ثقافيا يضاهى العالم فيما تحدث عنه إنما يكون الرد والمطالبة به حكرا على العلماء من قامة العالم المخالف
أما الكتاب العاديين وصغار المفكرين فهؤلاء وجهات نظرهم ليس لها التقدير الذى يجب أن نتعامل به مع العلماء وكبار المفكرين
لأن هذه النوعية من الكتاب التى درجت على مهاجمة العقيدة ومهاجمة قواعد الفطرة الإسلامية وضرب الإنتماء الوطنى لا تكون فى الغالب تدين بوجهة نظر سليمة مبنية على حقائق بل تكون فى أغلبها وجهات نظر شخصية يلقونها حبرا على الصفحات دونما أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث الأمين خلفها
وهناك مع الأسف الشديد من يندفع الإقتناع خلف وجهات نظر مغرضة فى الأصل تكون مليئة بالمعلومات المغلوطة والتى تخدع القارئ ما لم يبحث ..
على سبيل المثال ..
تناولت العديد من الأقلام قديما وحديثا شخصية جمال الدين الأفغانى واتهموه بالعديد من الإتهامات لا يمكن الحكم عليها فى مجملها إن كانت صحيحة أم لا ..
إلا أنه مما يدفع المرء للشك فيها أن بعض هذه الإتهامات تمت صياغتها بمكرٍ مقصود للنيل من الرجل ومن أمثلتها أنه كان لا يري مانعا من السفور للمرأة ما لم يجلب فتنة
وبالطبع إن وقعت عين قارئ اليوم على تلك المعلومة المصحوبة بالدليل القاطع سيقتنع تماما أن الأفغانى نادى بسفور المرأة أى خلع الحجاب ما لم يسبب فتنة بالرغم من تضارب المعنى إذ أن كل سفور بخلع الحجاب يسبب فتنة قطعا
إلا أن أى قارئ متبصر يجب أن يلفت نظره نقطة بديهية ..
وهى أن الأفغانى كانت له شعبية رهيبة لتاريخه النضالى ضد المستعمر وكان من أئمة الفقهاء فكيف يمكن أن تسكت الجماهير والعلماء فى زمانه على نداء يهدم ثابتا من ثوابت الشريعة بل كيف يمكن أن يغامر الأفغانى نفسه ــ حتى لوكان مخادعا ــ بمثل تلك الدعوة التى تمنح خصومه المتربصين لفرصة .. حق رميه بالحجارة فى ميدان عام دون أن تتحرك الجماهير لمناصرته ؟!!
وبالفعل كان الشك فى محله
واتضح أن الأفغانى وهو معاصر للخديو إسماعيل فى مصر أى فى نهايات القرن التاسع عشر كان يبيح السفور وهو كشف الوجه لا خلع الحجاب فالسفور فى زمانه كان بهذا المعنى أما فى زماننا فلم يعد هناك أسلوب اليشمك التركى الذى كان يحجب المرأة تماما عند الخروج .. هذا إن خرجت من الأصل لأن المجتمع ساعتها كان يحرم على النساء مجرد زيارة الأهل والقراءة وإبداء الرأى فى الأزواج وغير ذلك من الأشياء التى تخالف صريح الشريعة
فكان نداء العلماء المعتدلين أن يسمحوا للمرأة بتلقي التعليم إن كانت مؤهلة من وراء حجاب ونادوا أيضا بحقها الشرعى فى الإرث والتى كانت المرأة تحرم منه والرجال هى التى ترث فقط
بالإضافة لنقطة أكثر أهمية أن ما قاله الأفغانى لم يزد مطلقا عن حكم الشرع فى هذا الأمر فهو لم ينادى بالسفور بل قال بأنه جائز والفارق ضخم بين ينادى ويبيح فكلمة ينادى بالسفور تم دسها عليه عمدا ليظهر فى صورة الذى يحرم حجب الوجه وهو لم يقل ذلك لأنه سمح بالسفور إن كان لا يسبب فتنة وهو حكم الإسلام بشأن وجه المرأة والذى يسمح بظهوره ما لم يكن مسببا لفتنة ..

وعلى هذه الشاكلة تجرى الكتابات فى عالمنا المعاصر لبسط وجهات نظر محددة لأغراض محددة
بالإضافة إلى بحار من المعلومات المغلوطة
لا سيما بالتاريخ تجدها فى عقول وقلوب بعض المثقفين المحترفين نتيجة لرواجها الرهيب وغياب الهمة فى البحث خلف المصادر
وبالإنترنت والمنتديات تكون الكارثة أكبر فخلافا لما يتم إرساله بالملايين على البريد الإليكترونى لسائر مستخدمى الشبكة بشكل عشوائي ويحتوى على سموم معرفية مليئة بالزيف لا سيما الأحاديث والأدعية وفضلها تُضاف كارثة أكبر تتمثل فى ميل كل عضو بأى منتدى لنشر الغريب من المعلومات واللافت للنظر فيقوم بنقل ما لم يبحث فيه وينشره ويتلقي الشكر والإشادة ويتبعه القراء والأعضاء دونما سؤال أو استفسار !!
ليس المطلوب الشك فى سائر الموضوعات أو المعلومات ولكن المطلوب الرئيسي أن يتحرى القارئ مصدر المعلومات
فإن كانت من موقع علمى أو من منتدى متخصص يذكر المصادر فلا بأس .. إضافة إلى التدقيق الشديد خلف المعلومات الغريبة أو الآتية بما هو مضاد لمعارف سابقة أو شاذا صعب التصديق فينبغى قبل التعليق بالشكر السؤال والبحث خلف المصدر
وما لم ينتبه المثقفون إلى أن العصمة فى القراءة مقصورة على القرآن وصريح السنة وإجماع العلماء فيما يخص العلوم الإسلامية وبأقوال المتخصصين وأحكامهم القطعية فى العلوم النظرية وفى العلوم المعملية يتم إضافة التجريب إلى شروط القبول المطلق
وبغير الثقافة الواجبة لن يكون للمجتمع العربي كلمة فى مصيره