الموضوع: زمردة
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
4

المشاهدات
2440
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.38

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
12-15-2013, 03:48 AM
المشاركة 1
12-15-2013, 03:48 AM
المشاركة 1
افتراضي زمردة
تحلقوا حول مائدة الوداع و أرواحهم تتعانق على أمل لقاء لن يكون بعيدا ، كل واحد منهم سيشق حياته وحيدا ، وقد تسلحوا بما يكفي من زاد معنوي يرفع مخزونهم من التحدي والإقدام ، السكون يلبد مرحهم المعتاد ، و أطياف الصمت تهدهد صدى أصواتهم المتعالية فتخفت هامسة كأنها نبضات قلوبهم المثقلة بالفراق . سعيد بخفة دمه و وجهه البشوش و هواياته المتعددة ، صالح بإيقاعه البطيء ، كاظم بوجهه الغامض و نظرته الحية .
جلس عشيق يحصي الأعوام التي قضاها بعيدا عن أصدقائه ، منذ انتشروا في الأرض غابت عنه أخبارهم ، و أمعنت السنين في طمس تفاصيل أحوالهم ودقائق ملامحهم ، صور شبابية بالأبيض والأسود هي ما يبعث في ذهنه قسماتهم ، فيحيي بعض رحم صداقة أتاها الزمن من جذورها ، فأضحت كشجرة خريفية تنصلت من أثوابها فاستحالت شبحا لا يقوم إلا من رماد الذكريات حين القنوط .
لا يعرف من أين المبتدأ ، فصحبتهم لم تدم غير سنة واحدة في ذلك المعهد المصر على التعالي ، كل ما احتفظت به ذاكرته هو موطن سعيد ، إنهم يلقبونه نسبة إلى بلدته ، لكن تراه يحتفظ بحبه لتراب قريته ، أم احتضنته فاتنة أخرى بجداولها الرقراقة و أزهارها البرية ، لتنسيه محاسن محبوبته التي شنفت آذان أصدقائه عبر غزلياته المتوالية مع العود ، فنمت في قرارتهم رابطة حب وهذه البلدة العذرية : " أحبك زمردتي ... أسرت فؤادي فتاتي الريفية .. مغرم أنا بحشمة تشع من عينيك .. عاشق لتراب يعلو بشرتك السمراء .. آه من سحر لياليك الغناء .."
تدور العجلات و صديقنا تزدرد عيناه المشاهد الخلابة بذهن صاف تدغدغه تحف الطبيعة ، منذ أن ترجل بسيارته من السفينة و هو يلوح بيكلتي يديه للعربات التي يقابلها . نغمات مراهقة ضجت بها سيارته ، لا يدري متى تسللت أصابعه خلسة لتطبع أرقام المحطة على المذياع . تطول المسافة ليدب العياء إلى جسمه ، انتابت خاطره لذغة توجس : " ماذا لو انتهت رحلتي عبثا ؟ ماذا لو تعذر التواصل بيني وبين أحبتي ؟ ماذا لو بعثرت مجرى حياتهم ؟ ترانا فعلا أصدقاء أو مجرد رفقة ضرورة رغم ما طبعها من حميمية ؟ تتوالى الاستفهامات و الوجع يشطر رأسه نصفين ، لتنطلق الآهات من أعماقه ناقما على مكر الأعوام التي نخرت قلاع صموده ، مصرة على إظهار ضعفه وإعلان إفلاسه ، رمى حبة في فمه أتبعها رشفة ماء رافعا شعار التحدي في وجه عمره الستيني .
" زمردة تعانق فيكم الروح" هكذا عانقته لوحة ترحيب وهو على أبواب مدينة صغيرة وضاءة بلون بناياتها الأبيض، شوارعها مزدانة جوانبها أزهارا بنفسجية ، أرصفتها مبلطة بزليج حمرته رمادية ، مدينة تشع ملاحتها فتطبع بسمة انشراح في نفس زائرها ، تتطاير الحمامات بين أشجارها مداعبة نسمات الصباح ، تطل عليها الشمس مرسلة قبلاتها الذهبية لتشرق في وجوه أهلها ملاحة . أوقف سيارته عند أول مقهى لاحت لافتته من بعيد :" مركب الكاظم يعانق فيكم الروح" انشرحت نفسه وهو يتذكر معزوفة سعيد : " أعشق فيك الروح ..بربك عانقي روحي ، فروحي كما روحك لا تفنى .... روحي روحي أنت زمردتي .."
تناول فنجان قهوة فأحس نكهة غريبة رحلت به إلى أيام الشباب فتفتحت أسارير ذاكرته ، وبدأت تطفح بالذكريات : " هذه خلطتك أيها الصالح ! عجيبة أنت يا زمردة ! " تقدمت نحوه صبية معتذرة عن إرباك فطوره و هدوئه ، فابتسمت روحه العاشقة مبديا رغبة في مجاراتها ، كانت أناملها الجذابة تخط بقلم وردي إجاباته عن أسئلتها ، تذكر فكرته عن العشق : " لا ينجح العشق إلا بالعزف على أماني المعشوق ."

انطلق حتى إذا وصل قلب زمردة النابض ، في تلك الخلية رأى ما أبهج نفسه ، سأل مرشدا في المختبر عن اللوحة الفنية المقابلة للباب الرئيسي فرد عليه " هؤلاء هم المؤسسون الأوائل لزمردة الجديدة ، هذا سعيد الزمردي كما يلقبه أصدقاؤه ، هو من بنى هذه المدينة وفق فلسفة محبي زمردة ." فقال له عشيق : " أين أجده ؟" فأجابه المرشد و الدموع تنزل من عينيه " افتقدناه منذ عشرين ربيعا ، لكن تلاميذه واصلوا المشوار ، قبره في زمردة القديمة كما أوصى بذلك ، فهي لا تزال تحتفظ بعذرتها و تلك أيضا وصيته ."
يطوف المدينة شبرا شبرا و هو يسترجع أحلام الشباب ، فشد الرحال إلى قبر صديقه و أنشد : " أعشق فيك الروح .. فروحك لا تزال هنا ترفرف ...أحبك زمردتي . "