عرض مشاركة واحدة
قديم 02-17-2014, 01:47 PM
المشاركة 3
روان عبد الكريم
كاتبـة مصـريّـة
  • غير موجود
افتراضي
احلام المطر
الفصل الأول

الطاغية
حينما يشتد العطش ويلفحنا القيظ وتتشقق الأر ض فى أسى وهى تبتهل للسماء فى تضرع أن تهطل زخات المطر السحرى؛ فتضربها رياح الجبال القاسية ؛ كنت أقف على هذه الأرض المحتضرة أهفو لماء المطر يبلل حياتى اليابسة ؛ البائسة ، أستجدى الدموع كى تغسل وجنتى الجافة ......... أفيق من أحلامى على يدً قاسية تهزنى فى خشونة وصوت جهوري يقول فى نفاذ صبر:-
ناتالى , ناتالى استيقظى
أفتح عينى فى كسل وأنظر للحديقة الغناء الموشاة بأطايب الزهر؛ الغارقة بظلال أشجار البرتقال والكرز والمترفة بالنجيل الأخضر وقد بلله مطر الصباح فأنتعش قليلاً ثم أتذكر الرجل الغاضب الواقف كالنسر العجوز فوق رأسى وهو يردف فى تأنيب :--
- إلى متى يستمر إهمالك هذا أيتها الصغيرة العابثة ؟!
أنظر إليه بلا مبالاة وقد تكور جسدى فوق الآريكة الوثيرة واتجاهله فى تعمد ثم أشيح بنظرى إلى المسبح المائى الكبير وثمة بجعات شقية غالية تلهو فيه فى سعادة ...وأتساءل هل هن سعيدات بهذا الأسر.

يجلس بجانبى وقد تملكه الحنق من تجاهلى لكلماته، ويربت على شعرى القصير وهو ينظر لجسدى النحيل ويزفر فى عمق :
- فيما أنت شاردة...ويردف فى حنو أكرهه ؛ ناتالى يا صغيرتى إنك فى السادسة عشر من عمرك ولست بطفلة لتغفين هكذا فى الحديقة .

أرفض الرد عليه وأشيح ببصرى مرة أخرى .. فيتحول حديثه إلى صراخ
- أيتها الفتاة الجاحدة اظهرى قليلاً من الاحترام لجدك العجوز....ثم يخبو صوته ويردف...
- " ناتالى أنسى حياتك الماضية وأنظرى لنفسك الأن إنك حفيدة غسان خورى أغنى أغنياء بيروت "...

عند هذا يجتاحنى الألم وأذكر أبى فأهب واقفة فى أنتصاب وتحدى وأنا أقول

- كف عن مناداتى بناتالى هذه ، وأقول ضاغطة على الحروف:
- اسمى" شادن سميح محمود " ؛ إن عام من الأسر لديك أيها الجد الزائف لن يغير شيئا من هويتى هل تفهم لن يغير شيئا؛ لن يغير شيئا ...

يسود وجهه الصخرى ثم يجلس الرجل فى هدوء وغطرسة وهو ينظر فى ساعته
- إنها السابعة مساءاً .. نصف ساعة لتحضير نفسك للعشاء .. كافية .. ؛ لدينا ضيوف مهمين من وزارة التجارة ؛ لدى وصيفتك فكرة عما ستردين ....وأردف بنبرة قوية قاسية قبل أن يمضى:
- وأرجو أن تلتزمى اللياقة وإلا تعرضت للعقاب.

نهض هو لا يلوى على شئ وتركنى هذا الجبار وأنا أرتعش.. وأتذكر مأساتى وكيف اختطفنى من حضن أبى حيث كنا نعيش فى بيتنا الصغير فى القاهرة مع جدتى الحنون التى اعتبرتها أمى .
وذات صباح كئيب كنت فى رحلة مع المدرسة للمتحف المصرى أتجول بين تماثيل عصر بناة الأهرام ثم أحسست بالأرض تميد تحت قدمى ولم أستيقظ إلا لأجد نفسى فى هذا المكان ؛ بين جدران قصرً منيف تحوطه الجبال الشاهقة و تتشعب ممراته كقصر التيه.. ويمتلؤ بالخدم الغادين الصامتين أبدا ...ورجال الحراسة يتبعونى كظلى ؛ بعد أن لبثت شهوراً أصرخ للشيخ المخبول "أنى لست هذه الناتالى حفيدته"
وهو قد صنع من صخر جلمودى لا يهز صراخى فيه شعرة .

فى الصباح تأتى مدرسة الفرنسية التى أمقتها تماماً ثم مدرسة الفيزياء والكيمياء وبعدها الرياضيات، كانوا موجهين لتعليمى فقط ولم يسمح لهم بالرد على أسئلة شخصية أو تتعلق بكينونتى ، ولقد تمردت على هذه التماثيل القاسية وقاومت وحاربت بكل قوتى وجهدى ولكنى تجرعت أنواع رهيبة من العقاب فقد حرمت مرات من الطعام وحوصرت فى غرفتى مثل الأسرى فى ظلمة مخيفة ولا زلت أذكر أنى حاولت الهرب مرة فألقانى الحراس بأمر من هذا الجد المخبول فى المسبح وأنا لا أجيد السباحة حتى قاربت على الغرق.

كان كل يوم يمر يكسر الكثير من أرادتى ؛ كنت كمن يضرب هامته فى الصخر بلا فائدة ...لم تعد لى قدرة على المقاومة....عزيمتى تخبو يوماً بعد يوم.

وهكذ تبعته فى خضوع عبر الباب الحديدى للقصر المنيف المزخرف بإقونات إغريقية غريبة حتى السلم الرخامى حيث وقفت أشاهده يدلف عبر باب مكتبه الأثرى وهو يلقى نظرة غربية فى اتجاهى ويقول فى السابعة والنصف أراك.

دلفت عبر حجرتى لأجد جانو الوصيفة كما يطلق عليها العجوز فى انتظارى بلباسها الأخضر الفيررزوى الموشى بتطريزات راقية من اللون الأحمر الياقوتى الزى المميز لخدم الدرجة الأولى فى القصر ، فالرمادى لخدم الدرجة الثالثة وهم المسئولون عن التنظيف والأزرق لخدم الدرجة الثانية ويختصون بالطبخ وتقديم الطعام

وهكذا الناس فى هذا المكان مرتبات ، يشذ عن هذه القاعدة "جو" عامل الحديقة يلبس ما يحلو له وهو مشاكس بطبعه ، لو أنه أخرس لصار لى حليفاً ونصيراً فهو الوحيد الذى يتعامل معى بإنسانية فى الضيعة كما يطلقون عليها وكثيرا ما اتحفنى بزهرة أو فاكهة غريبة الطعم حلوة المذاق أتقبلها منه شاكرة و.......

- سيدتى حان وقت الإستحمام والسيد الكبير نافذ الصبر يجب أن تكونى جاهزة فى الموعد – قالت جانو – لتقطع أفكارى التى صرت أغوص فيها كهروب من واقع أمقته....... نظرت إليها ببرود وأنا أدخل الحمام وهى فى أثرى تتبعنى فى صمت رغم تحذيرى لها فى كل مرة أنى أجيد الإستحمام بنفسى منذ كنت فى الرابعة ولا احتاج لرفقة فى هذا المكان الخاص ؛ فلم أجد بدأً من دفعها بخشونة لتقع فى الحجرة وتشهق مذهولة وأنا أقفل باب الحمام على .. ثم أضرب يدى فى الحائط وأبكى و أغتسل بعدها بهدوء .
-----------------

الفصل الثانى الحفلة

فى السابعة والنصف وخمس دقائق كنت أقف فى بهو القصر أرتدى فستان عسلى اللون ذو بريق خافت وقد عقصت شعرى القصير إلى الخلف ورفضت أن أرتدى أى شئ من المجوهرات الثمينة التى يصر العجوز على إهدائها إلى ولم أضع سوى قرطى الذهبى الصغير هدية أبى فى عيد ميلادى الماضى – فى الحقيقة كنت أعيش فى ثراء مبهر – لكن كل هذا كان يثير فى نفسى الضيق والسخط وأنا أعيش فى جلد فتاة أخرى اسمها ناتالى لبنانية مسيحية – وأنا مصرية مسلمة وقد قلت حتى للجدران الصامتة:-
شادن وصرت أخاطب المرآة لدى استيقاظى ونومى اسمى شادن – أنا شادن ....
نزل العجوز من المصعد الذهبى أقصى يمين البهو رغم أن صحته تحتمل صعود ونزول الدرج المرتفع ....لكنه شئ من الترف لا يفوت هذا الطاغية.

سار بإتجاهى وأمسك ذراعى برقة مصطنعة ولم يعلق بشئ على مظهرى – فعلمت أنى حزت نوعاً من القبول، فشعت الكراهية فى كل خلايا جسدى.
قادنى كالشاة إلى غرفة استقبال الضيوف الرسمية حيث اصطفت فى انحاءها قطع الأثاث الفرنسية الفخمة وفى منتصف الغرفة تدلت ثرية من الكريستال الحر أخبرتنى صوفى مدرسة الفرنسية أنها أثرية كانت يوماً تزين أحد أفخم القصور فى منطقة البوريفاج الفرنسية إبان عصر لويس السادس عشر ؛ قالت هذه المعلومات مبهورة ، وأنا اغمم فى سخرية :
- وماذا كان يعمل هذا اللويس ؟
يومها نظرت إلى مذهولة ....وماذا كانت تتوقع هذه المخبولة من فتاة مصرية فى السادسة عشر؟! كل التشابه بينها وبين اللويس المذكور هو الرقم ستة عشر – هل كان مطلوب منى أن أحفظ تاريخ فرنسا؟! هؤلاء الحمقى لو كانوا يفهمون أنى شادن ولست هذه الناتالى!
- هل أعجبتك الثرية – تمتم العجوز؟

أنا وقد أنتفضت فجأة – ماذا ؟ !!!!!!!
أراك تطيلين النظر
أجيبه – لاشئ – فقط تذكرت محاضرة صوفى السخيفة عنها وعن لويسها...
من بين عيونه المغمضة نصف إغماضة وهو يشعل الغليون؛ ثم ينفث الدخان الرمادى فى الهواء – قال تقصدين مدموازيل صوفى ؟
- لا .....صوفى
ونظرت إ ليه فى تحدى – لم يرد.... فقد ابتدأ ضيوفه المترفين فى المجئ.

وكان على أن أتصرف بشئ من الكياسة وأنا أنهض للمصافحة الرسمية ....

فى الحفلات الرسمية تجنب العجوز تقديمى باسم ناتالى لأنى كنت أجيب على الفور – كلا .. شادن..
وكانت هذه نقطة الفوز الوحيدة التى تغلبت فيها عليه.

توافد ضيوف وزراة التجارة و بعض أصدقاء العجوز – كانوا يربون على اثنى عشر رجل وامرأة منهم من كان فى منتصف العمر مثل السيدة نضال وهبة وهى التى ما زلت أتذكر اسمها فقد ذكرتنى بجدتى كثيراً....

كان العشاء فخما ومترفاً ؛ كعادة غسان خورى المليادير المشهور ببذخه الشديد ؛ ولكنه بذخ رجال الأعمال الموجه لغرض ما...

لم أتذوق من الطعام الا قليله وقد انخرط الجميع فى حديث لا أفقه منه شئ ..

بعد العشاء انتقلوا لقاعة أخرى يتناولون ما طاب لهم من مشروبات مما أتاح لى الفرصة لكى أهرب من هذا الجو الخانق إلى الشرفة المزدانة بأصص الزرع البلورية النادرة ، وقد هبت رائحة الياسمين قوية منعشة مع ثمة رذاذ خفيف من المطر المبهج ؛ وضعت كأس العصير على الشرفة ومددت ذراعى كطائر حبيس ثم صرت أدور وأدور مغمضة العينين مثل طيور البجع الحبيسة فى المسبح الكبير....
أتذكر أبى يقلنى لمدرستى فى الصباح وهو يتثاءب وأنا أنظر إليه فى خجل وضحك ثم ...
- تماماً .. مجنونة مثل أمك!
جفلت من الصوت القوى ، كان رجل فى الأربعينات اسمه طونى عراجى يماثل أبى فى طوله ولكنه يشع بكثير من ألأناقة التى تخفى كثيراً من سريرة نفسه السوداء .

التقطت كاس العصير وارتشفتها ببطء فأنا أعرف هذا الرجل ورأيته مراراً فى قصر غسان خورى ويبدو أنه يعمل لديه وكنت أجفل منه دائماً لأنه ما فتئ يرقبنى بعيون ثعبانية خبيثة ضمت الكثير من المكر والدهاء ولكنها المرة الأولى التى يحدثنى بها على هذا النحو المباشر ويلاحقنى بهذه الطريقة اللزجة فقد وقف منحنى على سور الشرفة الرخامى ثم أقترب وهو يلامس أصابعى المنقبضة على الكأس ونظر لعينى مباشرة مما جعلنى أرتعش بغضب ، فضحك بسخرية
- حتى تلك الإرتعاشة للجفن الأيسر تماماً مثل لوسى الحمقاء ، من المؤسف أنها غادرتنا مبكراً لتعود فى صورة ابنتها ...
كانت لوسى هى أمى ووصفها بالحمقاء شئ لا يمكن السكوت عليه ...

لم أدر بنفسى ألا وأنا أغمره بالعصير على رأسه وأرد على سخريته بسخرية أشد ،
- وهل تذكرك هذه الحركة بها أيضاً ؟

وقف للحق مذهولاً وأنا أمامه لا أحرك قيد أنمله ....لم يهزنى سوى صوت غسان خورى يوبخنى محتداً ، مما زاد غيظى فكسرت الكأس على سور الشرفة بعنف ولسوء حظى انغرست أحدى الشظايا فى يدى تماماً فى الوريد ، ليتدفق سائل الحياة على الأرضية الرخامية فى سرعة مخيفة و أفقد الوعى.