عرض مشاركة واحدة
قديم 06-05-2012, 02:58 PM
المشاركة 829
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
وقائع المدينة الغريبة في دراسة لـنبيل سليمان

أكتوبر 2nd, 2008 كتبها عبد الجبار العش نشر في , وقائع المدينة الغريبة في دراسة لـنبيل سليمان,
الفصل الثاني كنائية المدينة الروائية
من ”أسرار التخييل الروائي” تأليف نبيل سليمان
دراسة منشورات اتحادالكتاب العرب دمشق
في الفصل الرابع (رواية المدينة ومدينة الرواية) من كتابه (الرواية في القرن العشرين) (1) يرى جان إيف تادييه أن المدينة الروائية هي قبل كل شيء عالم من الكلام، سواء كانت انعكاساً أو انزياحاً.‏
وهي في ذلك قريبة من شخصية الرواية، وتنبغي معالجتها كفضاء أبدعته الكلمات. ومن المدن الروائية التي يُعنى بها تادييه مدينة هيليوبوليس التي عنونت رواية جنجر، والتي لا تشترك مع طيبة المصرية في شيء، وتفلت من المعايير الواقعية فيما هي تملي بنيتها. ويضيف تأدييه أنموذجاً آخر للمدينة الروائية، كالذي تبدى في رواية كافكا (المحاكمة) حيث تتلامح معالم براغ، وإن كانت الرواية لا تسمّيها.‏
تلك هي إذاً المدينة الروائية التي تتعين باسم مدينة بعينها، دون أن تحمل منها غير الاسم، وتلك هي أيضاً المدينة الروائية التي لا تتعين، وإن تكن تحمل من مدينة ما يعيّنها. وإلى هذه وتلك، ثمة المدينة الروائية التي تتعين في مدينة واقعية ـ قاهرة نجيب محفوظ مثلاً ـ وهي الأكثر حضوراً في الرواية بعامة.‏
في أي من هاته المدن الروائية الثلاث ينبغي التشديد على ما سماه ميشيل بوتور بالإحالة التخييلية بين الفضاء الواقعي والفضاء الروائي (2)، أو على ما سماه صلاح صالح بمثنوية الاتصال والانفصال بين المكان الخيالي والمكان الواقعي(3). أما غاية هذا التشديد فهي تقوم ـ مثل أسّه ـ في كنائية الفضاء المديني الروائي، حيث تشتغل استراتيجية اللاتعيين، فيكون للمعنى الجمالي نظامه أو أنظمته.‏
وسيكون تشغيل هذه الاستراتيجية، وجلاء تلك الكنائية وهذا المعنى، مناط دراستنا للرواية العربية التي لا تعيّن زمانها ولا مكانها، أو تكتفي من التعيين بالزمان، ذلك أن هذه (اللعبة) التي تواترت في التجربة الحداثية الروائية العربية منذ أكثر من عقدين، تواتراً لافتاً، باتت ظاهرة تذخر بالأسئلة. وربما كانت خماسية عبد الرحمن منيف (مدن الملح) المثال الأكبر لها، حيث قامت (حران) و(موران) كمدينتين روائيتين، وبدّل المكان ـ غالباً ـ داخل الجزيرة العربية مرجعيته، وإن تكن المطابقة بين الروائي والمرجعي ظلت يسيرة، بينما حافظ المكان خارج الجزيرة العربية على مرجعيته، وهو ما يعلله صلاح صالح بحرص الكاتب “على تعميم صورة هذه المدن المؤقتة المرتجلة وصلاحية عدها أنموذجاً، أو حالة نمطية لجميع المدن الأخرى المماثلة التي أنشأتها حضارة البترول وسياسات النهب الاستعماري أينما كانت” (4). ويذهب صلاح صالح إلى أن تبديل المكان لاسمه في (مدن الملح) لا يبدو محملاً بقيمة فكرية أو فنية صريحة، ويرجّح أن ذلك نابع “من حرص الكاتب على نسبة عمله الضخم إلى فن الرواية الخالص، ومنعه من الانضمام إلى التاريخ أو التوثيق التاريخي، إضافة إلى شيء من الرغبة في تأكيد افتراق روايته عن الرواية التاريخية التي تضع همها الأساسي في سرد الوقائع والأحداث كما جرت بالضبط (5).‏
من ذلك العهد (المبكر) لاستراتيجية اللاتعيين في المدينة الروائية، تأتي أيضاً ثلاثية إسماعيل فهد إسماعيل (المستنقعات الضوئية ـ الحبل ـ الضفاف الأخرى) حيث تومئ المدينة الروائية إلى بغداد.‏
وكذلك تأتي رواية حنان الشيخ (مسك الغزال) ورواية هاني الراهب (التلال) ورواية عبد الله خليفة (أغنية الماء والنار) ورواية مؤنس الرزاز (متاهة الأعراب في ناطحات السراب)، ورواية هشام القروي (ن) ورواية حميدة نعنع (الوطن في العينين) ورواية جيلالي خلاص (حمائم الشفق).‏
لكن نشاط استراتيجية اللاتعيين في المدينة الروائية سيدفق (دفقاً) من بعد، فيكتب عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا رواية (عالم بلا خرائط)، وهاشم غرايبة رواية (المقامة الرملية)، وسالم بن حميش (فتنة الرؤوس والنسوان)، وعزت القمحاوي (مدينة اللذة)، وعبد السلام العمري (اهبطوا مصر) ويوسف المحيميد (فخاخ الرائحة)، ورجاء عالم (حبّى).. ومن هذا (الدفق) ستركز هذه الدراسة قولها في الروايات التالية:‏
1 ـ بهاء طاهر: الحب في المنفى‏
تتسمّى المدينة الروائية في رواية بهاء طاهر (الحب في المنفى) (6) بحرف (ن). وإذا كانت الرواية ترمي بما ينسب مدينتها (ن) إلى الفضاء الأوروبي (الشمال ـ الغربة التي طردت القاهرة إليه راوي الرواية وبطلها)، فبالتعويل على ما هو معلوم من سيرة الكاتب، وعلى بعض أحداث الرواية، بالمقارنة مع رواية غادة السمان (ليلة المليار ـ 1985)؛ بذلك يُمكن للمرء أن يشخص للرواية الفضاء السويسري، فأية مدينة سويسرية هي إذاً مدينة (ن)؟‏
في هذه المدينة تعقد لجنة الأطباء الدولية لحقوق الإنسان مؤتمراً صحفياً حول انتهاكات حقوق الإنسان في شيلي، يشارك فيه الدكتور مولر الذي تهمه مدينة (ن) لأنها (ملتقى دولي). كما يشارك في المؤتمر: الراوي، وإبراهيم المحلاوي القادم من بيروت، والصحفي المناصر للقضية العربية: برنار، والذي سيكتب في جريدته (التقدم) عن مجازر صبرا وشاتيلا، كما يكتب عن بلده: “أصاب بلدنا الحر مرض غريب هذه الأيام. أصابه الخرس فلم ينطق شيئاً عن الجرائم ضد حقوق الإنسان ما دامت تأتي من الدولة العبرية”.‏
على إيقاع حرب 1982 في لبنان تعري الرواية الذات في وطن الآخر، وفي حضوره، سواء في علاقة بريجيت النسماوية بإبراهيم والراوي، أم في علاقة الشاب المصري يوسف والراوي بالأمير حامد. ويبدو أن المرجعية تصل بين الرواية، فيما يخص العلاقة الأخيرة، وبين رواية غادة السمان (ليلة المليار). فمقابل مشروع رغيد الزهران إصدار مجلة لتدجين المثقفين في هذه الرواية، يحاول الأمير حامد في رواية (الحب في المنفى) استقطاب الراوي ـ ليصدر جريدة لصفوة الأقلام القومية التقدمية ـ عن طريق يوسف مرة، وعن طريق بريجيت مرة، كما تكتب الروايتان عن المظاهرة التي تندد بجرائم الحرب الإسرائيلية في لبنان، وبمجازر صبرا وشاتيلا.‏
بخلاف رواية بهاء طاهر، تعيّن راوية غادة السمان فضاءها السويسري، وسنرى الراوي في رواية طاهر لا يفرق بين يمين ويسار في مدينة (ن). كما سنراه يحكم بأن الناس فيها لا يحبون الأجانب ولا يختلطون بهم. لكن صديقه المحلاوي الحالم الماركسي المبعد من مصر إلى بيروت، يرى أن مكتب الحزب الشيوعي في مدينة (ن) هو أوروبا الحقيقية، وأوروبا الحقيقة هي، رغم كل شيء، الأمل. ولا يعني المحلاوي العلم أو الحضارة، بل الإنسانية، ومع هذه الإشارات إلى الفضاء الروائي وإلى المدينة الروائية في رواية (الحب في المنفى)، تأتي طوبوغرافيتها باقتصاد، ليظل السؤال قائماً عن علّة اللاتعيين فيها، إلا أن تكون التقية التي استدعتها السيرية. لكن علة التقية خارج ـ نصيّة، ما يدفع بالسؤال عن جدوى اشتغال استراتيجية اللاتعيين في هذه الرواية.‏
2 ـ مؤنس الرزاز: سلطان النوم وزرقاء اليمامة‏
تتسمّى المدينة الروائية في رواية مؤنس الرزاز (سلطان النوم وزرقاء اليمامة) (7) بـ (شبه مدينة الضاد) ويرد الاسم أحياناً: مدينة الضاد. ومعظم سكان هذه المدينة ـ أو عالم الضاد، بحسب بعضهم، كما تذكر الرواية ـ هم أشخاص غير عاديين. وحول هذا العالم أو هذه المدينة تقوم الصحارى وبحر الظلمات، وإليه (إليها) لجأ السياسي السوري صلاح البيطار ـ اغتيل منذ سنوات ـ والشاعر العراقي سعدي يوسف والروائي الأردني غالب هلسا.. أي إن شخصيات واقعية ـ حقيقية قضت جزءاً من حياتها في مدينة الضاد. وبرسم ما يحيط عالم الضاد جغرافياً كما تقدم، وبما سيلي ما تكتب الرواية من أحداثه والعلاقات، سينجلي عالم الضاد عن العالم العربي، ويتلخص في تلك المدينة الروائية التي ينادي اسمها واسم ذلك العالم اللغة العربية: لغة الضاد.‏
منذ البداية تنص الرواية على أن عالم الضاد ليس الخريطة، لكنه عالم منطقي وعقلاني وواقعي ولا يشبه عالم كافكا. وبمثل هذا اللعب ترمح المخيلة وهي تدفع إلى المدينة الروائية، بلا طوبوغرافيا تذكر، بعلاء الدين ومارده وبروميو وجولييت والروائي ميم ـ الحرف الأول من اسم مؤنس الرزاز ـ وبزرقاء اليمامة والمخرج الهوليودي وتلك الشخصية المرموقة في المدينة: بئر الأسرار..‏
والمخيلة الرامحة تطمح إلى أن تكتب ألف رواية ورواية في حكاية، كما تنصّ (سلطان النوم..) منذ البداية، وهي تسلم الحديث إلى سلطان النوم الذي يتواتر حضوره في روايات أخرى لمؤنس الرزاز.‏
ففي رواية (حين تستيقظ الأحلام ـ 1997)، وبحضور قوي للملمح الكافكاوي في تسمية الشخصيات بالحروف، تقوم (سلطنة المنام) وعلى رأسها (سلطان المنام). وقبل ذلك، وفي رواية (فاصلة في آخر السطر ـ 1995) ينهض (سلطان النوم) كأقوى ضروب السلطة سطوة، والراوي يمارس سلطة ضحية سلطان النوم. وفي هاتين الروايتين، كما في رواية (سلطان النوم وزرقاء اليمامة)، وفي سائر روايات مؤنس الرزاز، لا ينقطع النفخ في الصُّوْر نذيراً بالكارثة المحتومة، التي تتسمّى في رواية (سلطان النوم..) بعاصفة العجاج، وإعصار العجاج. لكن أحداً من نزلاء عالم الضاد الخارقين لا يصغي إلى النذير. وبالقرائن الروائية ـ وأقلها مراسلو السي. إن. إن ـ تتعيّن عاصفة ـ إعصار ـ العجاج بعاصفة الصحراء /حرب الخليج الثانية، فيتعين الزمن الروائي، الذي تعوض محمولاته افتقاد المدينة الروائية للطوبوغرافيا.‏
من الإنذار بالكارثة المحتومة إلى وقوع الكارثة، تمضي رواية (سلطان النوم…) إلى المستقبل، في نبوءة بئر الأسرار إذ يخاطب زرقاء اليمامة: “انظري: هذا ما سوف يكون في مدينة الضاد.‏
كان المشهد مرعباً. شبه مدينة الضاد تحت هيمنة التصحر الكامل. لا ورقة خضراء، ولا عين ماء، وأشباح تسكن المقابر”.‏
من سلطان النوم تتزوج زرقاء اليمامة. وعندما يضرب الناس عن النوم تقترح تبديل (السياسة المنامية) ومصادرة الحلم من النوم، دفعاً للناس إلى مواجهة العالم الواقعي. لكن الناس ينقلون مناماتهم إلى العلن، فتشهد المدينة أعظم أيامها نكراً، وتطلب زرقاء اليمامة نفيها من سلطنة النوم إلى شبه مدينة الضاد، والسلطنة إذاً هي غير شبه المدينة أو المدينة. لكن ذلك التفريق لا يختلف عن التوحيد في اللعبة الروائية