عرض مشاركة واحدة
قديم 12-14-2017, 08:12 PM
المشاركة 52
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
القصص المشاركة في مسابقة القصة لمنابر ثقافية اصدار 2017 :
مجرّد أفكار وأفكار مجرّدة
القاصة صفاء الشويات

خرجت كالعادة في حدود الساعة السادسة والنصف صباحا قاصدة المدرسة،
السماء واجمة تغطيها الغيوم الرمادية، ربما ستمطر !
كانت تبدو لي كل الأشياء ترتجف حتى البنايات ، كانت الأرصفة مليئة بالأفكار ، و كأن رؤوس النيام ألقتها ليلا من النوافذ ، لا تزال مصابيح الطرق مضائة ، يبدو أنّ رئيس البلدية رجل محافظ للغاية !
شاهدت عددا قليلا جدا من السيارات تعبر الشارع الطويل المؤدي إلى المدرسة ، مرت من جانبي سيارة مسرعة، رشقني صوت فيروز و هي تقول : " ايه في أمل." ابتسمت و أكملت طريقي على مهل.
توقفت عند العم يعقوب صاحب القلب الطيب والقهوة اللذيذة ، كالعادة سبقني بقوله "صباح الخير" و ناولني كأس من الفلين مليء بالمزاج و الحب ، رائحته فقط كفيلة بأن ترتق مزاجي ،
تبدو ملامح العم يعقوب حزينة للغاية ، لمحته ذات مرة أثناء طريق عودتي من المدرسة و هو يستمع لأغنية " أيّ دمعة حزن لا لا .. لا لا .. لا " تقول المغنية خمس مرات متتالية لا و هو يلقي رأسه على كفه، بين شفتيه سيجارة مجعدة مطفأة، ربما نسي أن يشعلها ! و في عينيه ملح كثير ، والكثير من التعب.
إنّه لأمر شاق أن تبدو لك صدور الناس و كأنها تشّف عما تخفي، وهذه كانت مصيبتي الكبرى، أسوأ ما في الأمر أن ما تراه ليس حقيقيا بمجمله، نحن نرى قشرة الأشياء الصلدة فقط، بيد أنّ باطنها هش و ربما مهترىء ،
لا تناسبني اطلاقا فكرة النظرة السطحية أو الطريق المنتهي، كل الطرق متشعبة و الأفكار ليست عديمة الوزن مهما بدت سخيفة بنظرك.
في منتصف الطريق رأيت أحد طلابي من شرفة منزله يلوّح لي من بعيد بادلته تلويحته بإبتسامة حيث آثرت أن أبقي يدي في جيب معطفي، ثم بدأت أوبخ نفسي، هكذا أفعل كل يوم !
لماذا درست الحساب ؟
كان يجدر بي أن أدرس أدب لغة عربية أو فلسفة أو علم نفس!!
بل لم يكن عليّ أن أدرس أصلا، ربما كان يتوجب عليّ أن لا أتجاوز امتحان الثانوية و أن أتزوج رجل بسيط يأتي لي بالأحطاب كل يوم، نشعل الموقد ونأكل خبز التنور بدلا من خبز التوست ، نشوي الكستناء و البلوط و نستبدل أحاديث المثقفين بالأحاديث السخيفة و نضحك على أتفه الأشياء !
كما أنّ على طلابي أن يكرهوا الحساب و أن يكرهوا معلمة الحساب، عليهم أن يبقوا أطفالا إلى الأبد .
قطع حبل أفكاري قط ملتف حول نفسه ، ينام على حافة سور منزل، ترى بماذا كان يحلم ؟
ربما كان يحلم بأنّه يعيش في منزل دافئ و ينام على فراش وثير ، بدلًا من تشرده هذا و نصيبه الذي جعله قط شوارع، استيقظ القط على وقع خطواتي و صار يرمقني بنظرات حادة حتى خيّل اليّ لوهلة أنّه يريد أن يقول لي شيئا ما، شيء عن ما تخفيه تلك الشوارع ليلا، ربما !
أكملت طريقي و أنا أفكرّ ، تتشعب الأفكار وتكثر الأسئلة ، و لا أجد الجواب، فأنا فضولية بطريقة مختلفة، طريقة لا ينتهي فيها فضولي بمجرد الإستفهام !
اقتربت من باب المدرسة، و في داخلي رغبة بأن أعود من حيث أتيت، بداخلي خوف يدعوني للبكاء،
كان يتوجب عليّ أن لا أقرأ عيون طلابي وأن لا ألمس أفئدتهم، أن لا أبالي بملامحهم كلّما مرّت أمامي، و كأنها تمرّ بي و تترك وسما في قلبي لا يزول، إنهم يريدون أن أكون سماء، و أنا أريد أن أكون غيمة ، أما أن أكون سماء فهذا عصيّ علي.
في هذه الأثناء صحوت على صوت طلابي يهتفون بسعادة وحب : " مس صفاء .. مس صفاء " .. إلتقينا عند باب المدرسة ، غمرتهم بإبتسامة حب، ثمّ أدركت بأنني صرت بالفعل سماء ولم أعد فقط غيمة.

بقلم القاصة صفاء الشويات