عرض مشاركة واحدة
قديم 05-22-2014, 12:50 PM
المشاركة 18
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
قامات قصصية

عبد الله زروال
May 21, 2014
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

القصة القصيرة لون سردي خفيف المبنى، بيد أنه ثقيل المعنى، إنه يتميز بمرونة عجيبة، وطاقة قوية على استيعاب عوالم إنسانية متراحبة؛ ذلك أنه ينثر بين يدي الناس قصص الناس، قصص الذات وقصص الآخر، قصصا تتشابك فيها الأبعاد، ويمتزج فيها الواقع بالخيال. إنها، في نهاية المطاف، قصص الإنسان، الإنسان بجوهر إنسانيته، وبما هو به إنسان؛ كل ذلك، طبعا، في انبناء سردي شديد التكثيف، ونسيج قصصي محبوك التأليف، وقالب فني شائق بالغ الإمتاع.
وإذا كانت القصة القصيرة في البدايات، وفي زمن سلطان الشعر، محدودة النطاق يرضي أصحابها موطئ قدم في ساحة الإبداع الأدبي، فإنها لما استوى عودها، واكتمل نضجها، ونالت شرعيتها، وحازت تجنيسها، زاحمت الأجناس الأدبية الأخرى، بل وأخذت تنازعها الحصة والمكانة، حيث تنامت عناوين الأضمومات القصصية، ورحبت مساحة حضورها في الصفحات والملاحق الثقافية، والمجلات الأدبية، وعقدت لها الملتقيات، ونظمت لأجلها المسابقات، وأنجزت حولها الدراسات والأبحاث، وصممت لها المواقع، وتداولتها المنتديات.
ومن المعلوم أن القصة القصيرة بالمغرب ما كان لها أن تتبوأ هذه المنزلة في مضمار الإبداع الأدبي لولا ثلة من المؤلفين الذين أقبلوا عليها حبا وشغفا، واختاروها وسيطا إبداعيا أثيرا قوي التأثير، فأخلصوا لها، واستنفروا لها الجهود، وأوسعوا لها المكان، فأبدعوا وأمتعوا، والخزانة القصصية زاخرة بلآلئهم القصصية الأصيلة اللماعة التي يجدر أن تذكر ولا تنسى، وتقرأ، وتعاد قراءتها مرات ومرات.
لكن ماذا عن هذه القصة القصيرة اليوم؟
لقد عرفت القصة القصيرة تطورا كميا ملحوظا، حيث انتهى الدكتور محمد قاسمي في حصيلة غير نهائية للأدب المغربي الصادر خلال عام 2013 إلى إحصاء 54 مجموعة قصصية، منها عشرون باكورة، محتلة بذلك المرتبة الثانية بعد الإبداع الشعري الذي ما زال يحتفظ لنفسه بالهيمنة؛ أما على المستوى الإبداعي فيمكن القول، من خلال قراءة ماسحة لعينة من المجموعات القصصية التي تيسر لنا الاطلاع عليها، إن ساحة الإبداع القصصي قد انشعبت فيها الاختيارات، واختلطت فيها الأصوات، اختلاط يوشك أن يتحول إلى جلبة تنذر، وبتعبير الساسة، باندلاع حرب قصصية باردة.
ودون ذكر الأسماء، تفاديا لغمط الحقوق وإثارة الحفائظ، فإن كثيرا من المؤلفين يصرون في إبداعاتهم القصصية على الحكي السلس، والخيال الخصيب، والأسلوب الرصين، والنفاذ العميق إلى الواقع، والاصطدام الهادئ بالقضايا الحقيقية، والمناجزة الشجاعة للأسئلة الكبرى، لكنهم، مع ذلك، يجددون في غير غش، ويجربون بلا زيف، ويجملون من دون سرف في التنميق أو مبالغة في التزويق.
غير أن بعض كتاب القصة القصيرة اقتحموا مغامرة التجديد، وبلا مقدمات أوغلوا فيها، وبمنتهى الرعونة، امتطوا صهوات التجريب، فانطلقت بهم خيوله الجموحة تهدم الأركان، وتقوض الدعائم، وتشوه القسمات، فضلوا طريق الإبداع، وأضلوا بعض القراء المساكين.
وفي ظل هذا الوضع المشوب بالضجيج والشغب استسهل البعض الآخر كتابة القصة القصيرة، فوجدها جدارا قصيرا يمكن القفز عليه، دونما وجل، وبمنتهى السهولة، فأقبلوا عليها، وراحوا يمطرون القراء بوابل من قصص لا تنتهي، فجاءت قصصهم سطحية الرؤية، ضحلة الفكرة، باهتة الجمال، تلامس الأشياء ملامسة خاطفة وعابرة، وبلا أدنى تدقيق.
لا شك أن ناموس الإبداع الحرية، وسنته الحميدة التجديد، وأن مبتدأ التجديد التجريب، وخبره التأسيس؛ والقصة القصيرة بما هي إبداع، تتطلب كتابتها كل ذلك، فهي تتطلب حرية رشيدة لا تتأذى بها الأصول والثوابت، وتجديدا سائغا مبهجا، وتجريبا محسوبا مؤسسا يرسم من البداية الغاية، وإليها يسعى السعي الحثيث.
وخلاصة القول، إن كتاب القصة القصيرة اليوم قامات متفاوتة، قامات باذخة ديدنها القص الجميل، وقامات تنحني تواضعا، لكنها تشق بثبات الطريق، فتبدع إشراقات قصصية ستغمرنا لا محالة بأضواء باهرة، وقامات متسرعة تطبخ قصصها على نيران متأججة، لتلقي بها إلى القارئ على عجل، من المؤكد أن قصصها ستحترق، وأن لا قارئ سيستمرئها، وحتما ستظل قامات قصيرة، تتطاول ولا تطول، فليترفق هؤلاء بالقصة القصيرة، فإنها تستصرخ.
*كاتب مغربي
عبد الله زروال