عرض مشاركة واحدة
قديم 06-12-2012, 11:33 PM
المشاركة 10
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
يتبع،،

المجموعة، والتي تمتلئ بالرموز، ليس من خلال عنوانها فحسب، بل من خلال ما يتناسل داخلها من أحداث وشخصيات فيّاضة بالإشارات والاستدعاءات الأسطوريّة.‏
فالربيعي في هذه الرواية أيضاً يحايث الواقع بالوسائل نفسها التي ميّزت "عشاء المأتم"، والتي يتضافر فيها الواقعي بالأسطوريّ على نحو شديد المهارة في إخفاء دلالات الخطاب التي لا تُسلم نفسها للقارئ إلا بعد تفكيك الرموز التي يزخر بها النصّ على المستويين بآن.‏
يتوزع المحكي في "ممرّات الصمت" بين حكايات عدّة: حكاية سعيد مروان مع زهرة، وحكاية سليم عبد الجليل مع فردوس، وحكاية الشيخ ورؤياه للفارس المنتظَر، ثم حكاية هؤلاء جميعاً بعضهم مع بعض من جهة، ومع كلّ من البيت الذي أُعِدّ لاستقبال ذلك الفارس وشجرة السدر المقدّسة من جهة ثانية. وباستثناء الحكاية الثانية التي تهيمن عليها السمة الواقعية الخالصة، فإنّ الحكايات الأخرى جميعها تترجّح بين المستويين المشار إليهما آنفاً. وفي المستويين معاً تغصّ الرواية بالرموز التي يمكن تنضيدها في مجموعتين: أولى تنتجها أسطورة الموت والانبعاث الرافدية، عشتار وتمّوز، وما يتردّد داخلها، أو عبرها، من إشارات أسطوريّة رامزة: يوم الجمعة إلى الخلق، والغائب إلى المخلّص، والبيت إلى السلطة، وشجرة السدر إلى القيم المعوّقة، والرعاة الثلاثة إلى القوى المهيمنة، والأفعى إلى الفوضى والعشوائية. وثانية تتبدّى في مفردات العالم الواقعي، التي يحيل كلّ منها إلى رمز بعينه أيضاً: زهرة إلى الثورة، وفردوس إلى الوطن، وسعيد إلى الثائر المخلص لكنّه القاصر معرفياً في وعي الضرورات التي يتطلّبها الفعل الثوري، وسليم إلى نقيضه، والشيخ إلى الجموع الحالمة، والقطيع إلى الجموع الخانعة.‏
لقد أحبّ سعيد زهرة حبّاً جنونياً، واندفع خلفها حتى تلاشى جسده تحت أنفاسها الحرّى، وبدّد شبابه، كما وصفه أبوه، في اللهاث وراءها، لكنهما ما إن بدأا طقوس الخلق معاً، حتى عبر الرعاة الثلاثة بزهرة بوّابات العالم السفلي إلى "دار الظلام دون رجعة"(57).‏
والروائي يجهر بالمشابهة بين بطليه، سعيد وزهرة، وبطلي الأسطورة، تمّوز وعشتار، في أكثر من موقع، وعبر أكثر من أسلوب سردي: عبر خطاب الأقوال أحياناً، كما في تداعيات سعيد مروان: "عشتار الحزينة، ذاك هو تمّوزك: قطّعناه إرباً أرباً. وقذفنا أوصاله المدمّاة في اليمّ الغاضب. محالٌ عليك أيتها الحزينة أن تجمعي بقاياه.."(46)، وعبر خطاب الأحداث أحياناً ثانية، كما في قول الراوي: "مشى سعيد مروان شاعراً بالتعب واللا جدوى نحو الشاطئ، عازماً على أن لا ينسى زهرة أبداً. زهرة أو عشتار، التي يظنّ أنها هبطت إلى النهر تبحث عن بقاياه، عن بقايا تمّوز كي تعيد ترميم العالم"(48).‏
غير أنّ الروائي، في الوقت نفسه، لا يستلهم الأسطورة على النحو الذي حفظته المروية الرافدية في جذرها البابلي دائماً، أي قبل أن يتقنّع "ديموزي" السومري باسم "تمّوز" لدى البابليين، وإنانا" السومرية باسم "عشتار" لدى هؤلاء أيضاً(14). ومن اللافت للنظر اكتفاؤه باستبدال "ديموزي" بـ"تمّوز"، وإبقاؤه "عشتار" باسمها: "قال سعيد.. : الآن أريدُ أن أسمع منكِ الحكايات كلّها. هو ذا موقد طفولتي. فقصصتُ عليه أحسن القصص. الحكايات كلّها منذ أن هبطتُ النهر أبحث عن بقاياه المبعثرة فوجدته ميتاً في أعماق النهر، وصرختُ به: ديموزي. آه يا ديموزي مَن أثخنَ قلبك جراحاً. مَن أدمى عينيك. مَن قطّع أوصالك؟.."(99).‏
وكما لا يحفظ الروائي للأسطورة الرافدية جذرها البابلي، يعيد، بآن، إنتاج الأسطورة وفق ما يسمّيه، في تعريفه بالرواية، في غلافها الأخير: "مجرى آخر لتلك الأسطورة"، فبدلاً من أن تودي زهرة بسعيد إلى العالم السفلي، كما فعلت عشتار بتموز، يودي سعيد بها إلى ذلك العالم، وبدلاً من أن تجدّ هي في البحث عنه، وفي جمع أشلائه، كما فعلت عشتار أيضاً، التي كانت "ترحل.. في البحث عنه (تمّوز) إلى البلاد التي لا عودة منها، إلى دار الظلام"(15)، يجدّ سعيد في البحث عن زهرة، وفي جمع أشلائها التي بعثرها الرعاة الثلاثة. وما هو أسطوريّ في الرواية لا يتحدّد بتلك المشابهة المنزاحة عن جذرها فحسب، بل يتجاوزها إلى ما يتردّد داخلها، أي الرواية، من رموز أسطوريّة، يتّصل بعضها بأسطورة عشتار وتموز، وبعضها الآخر بسواها من الأساطير الرافدية، بل أساطير معظم الشعوب والمجتمعات الإنسانية الأولى. فالجدار الذي يتسلّقه سعيد مروان من أجل الوصول إلى زهرة رمز للعتبة في كوميديا دانتي الإلهية، المهيّئة للعبور من المطهر إلى الفردوس، أو إلى الثورة التي تحرّر الواقع من الجحيم الذي يتلظّى به، إذ ما إن يهبط سعيد ذلك الجدار حتى يتهيّأ لـ"الدخول في المطهر الخلاّق للمرأة القابعة في فراشها الدافئ"(21)، وحتى يمضي وزهرة "إلى يوم الجمعة، حيث بدء الخليقة وعريها المشبع بالجنون"(44). وغير خاف ما يتضمّنه تعبير "الجمعة"، المرادف للغد لدى زهرة دائماً، من دلالة أسطوريّة تعني اكتمال الخلق في اليوم السابع من بدء التكوين، فزهرة، التي تبدو كمصدرها الأسطوريّ عشتار ذات شهوة طاغية وعواطف جيّاشة(16)، كثيراً ما كانت تدعو "سعيد" إلى الدخول تحت غطائها الرقيق لتأخذه إلى "يوم الجمعة" كما كانت تردّد.‏
ولئن كان النهر في معظم أساطير الشعوب رمزاً للخصوبة، فهو في هذه الرواية رمز للخصوبة وللذاكرة معاً، فكما يغوص سعيد في أعماقه بحثاً عن زهرة، أو كما تغوص زهرة وراءه محاولة جمع أشلائه، ليعيدا تكوين الأشياء من جديد، يتجلّى للشيخ بوصفه حاضناً لتاريخ العراق الذي اصطخبت داخله حضارات مختلفة وأحداث عاصفة: "قطع نقود ملكية، دراهم عباسية وسلجوقية. شارات ونياشين الجنرال مود. سياط ممّاليك وتيجان ملوك. بساطيل جنود سيخ كانوا مع الحملة الإنجليزية، جماجم رجال ذهبوا لاستقبال تيمورلنك بالعصي، خيول هجانة وأمراء وأنصاف آلهة نفقت منذ دمار بابل، ملابس أباطرة، أسلحة وسكاكين من العصر البرونزي.."(22).‏
وكما تبدو الشجرة في معظم معتقدات الشعوب وأساطيرها رمزاً مقدّساً(17)، تحيل شجرة السدر في الرواية إلى الرمز نفسه، بالإضافة إلى كونها رمزاً واقعياً يعني التضاد بين القوى المخلصة للثورة والقوى اللاهثة وراء امتيازاتها الخاصة. فعلى حين يُبدي الناس جميعهم رغبـة في اجتثاثها، للخلاص من ذلك العالم الفظّ حولهم، يتصدّى سليم عبد الجليل لمنعهم من ذلك، زاعماً قدسيّتها ومضفياً عليها روحاً لا يجوز قتلها. وما يُعلي من شأن هذه الرمزية في الرواية محاولة الرجل البدين الذي يسارع هابطاً من سيّارة قديمة، رمز القوى المنهوكة، إلى تثبيت تلك القدسية التي زعمها سليم عبد الجليل، قائلاً: "لا تقطعوا هذه الشجرة. كنتُ طفلاً ورأيت الجرافات تتساقط، تتحطم وهي تحاول اقتلاعها"(91). وكما تُمثّل الشجرة بعامة رمزاً مزدوجاً يعني الموت والانبعاث بآن(18)، تمتلك شجرة السدر السمة نفسها، فكما هي رمز للقوى المعوِّقة، أي للموت، فإنّ اجتثاثها يرمز إلى الخصوبة والحياة(19).‏
وإذا كانت "الأفعى، عند الأقدمين، ترمز إلى الفوضى والعشوائية وإلى انعدام الشكل، أمّا ضرب الأفعى وقطع رأسها فيعادلان فعل الخلق الذي يصحبه انتقال من اللا تجلّي إلى التجلّي ومن انعدام الشكل وغياب المعالم إلى امتلاك الشكل والهيئة المحددة"(20)، فإنّها هنا ترمز إلى ذلك أيضاً، فبعد أن أتى الشيخ على سرد رؤياه عن الفارس المنتظَر وبعد أن سرى بين الحشد "أنّ يوم الخلاص بات وشيكاً"(33)، ثمّ بعد أن أنهى سعيد وزهرة مجاسدتهما الخالقة، كان ثمّة "أفعى أو ثعبان ضخم يحدّق في الكائنين بسخرية"(33)، وحين ضحك الناس من سليم عبد الجليل بعد أن اقتلع قطعة يابسة من صمغ شجرة السدر "تسلّلت أفعى اقتربت من شجرة السدر.. وراحت تتسلّقها. تلتفّ حول جذعها الضخم المتيبّس. هتف سليم..: لقد حذّرتكم. إنها مقدّسة بالفعل"(88)، ولذلك ظلّت تلك الشجرة، في موقعها الرمادي، جرداء ومتيّبسة، ومغبّرة، ولذلك أيضاً انتهت رؤيا الشيخ / الحلم بالتغيير إلى النقطة التي بدأت منها، أي إلى حيث "الأستار والحجب الكثيفة المتراكمة فوق المجهول"(20).‏
وتُمثّل الأرض التي يُشاد فوقها البناء المعدّ لاستقبال الغائب المخلّص أكثر الرموز امتلاء بما هو أسطوريّ في الرواية، وغالباً ما تتجلّى بوصفها معادلاً للأنوثة المخصبة، فهي "توشك على الولادة، تفتح رحمها الكبير ليندلق الماء صافياً، نقياً وعذباً"(50)، وحين يملأ صهيل الحصان الذي يحمل الفارس المخلّص سكون المدينة الأجوف، تبدو المدينة نفسها "مثل كأس طافحة بالعويل والنشيج، بنداءات الاستغاثة والطلق. بالزلازل التي ينبعث ضجيجها المحتدم والمكبوت من جوف الأرض، من رحمها الذي يدلق ماء ندياً طيّباً ورائقاً بين يدي رجل حالم"(55)، ثمّ بوصفها معادلاً للقاع الاجتماعي النابض بحلم التغيير، والممتلئ بالطاقات القادرة على تحقيق هذا الحلم، إذ يندفع الجميع إلى المشاركة في استنهاض الأرض من سباتها الطويل، وإلى تهيئتها لتشييد بناءٍ لذلك الغائب الموعود: "كانوا جميعاً يعملون بفرح، تنفلق الأرض في كلّ ضربة معول أو ضربة كفّ إلى نصفين. يقرعون الأرض، يدقّون أبوابها السرّية المغلقة.. يدلقون رحم الأرض.. الأرض مثل امرأة عارية مهتاجة في سريرها المعطّر مسترخية وجاهزة للاغتصاب.. تطلق آهاتها المعذّبَة طالبة المزيد حتى بلوغ الرحم حيث تربض الينابيع الإلهية السرية للأحلام والنشوة، للأسرار والطلاسم والألغاز والأحاجي، سرّ الحياة وكنزها الدفين، بذرة التوالد والتناسل"(86).‏
ويمارس العددان: ثلاثة وسبعة، دوراً في تعميق النزوع الأسطوريّ في الرواية، لكنّهما، في الوقت نفسه، يفارقان مرجعيّتهما الأسطوريّة القائلة بدلالتهما على القداسة والخلق، فالرعاة الذين يطاردون سعيداً وزهرة ثلاثة، والقوى المعوّقة للتحرّر والثورة ثلاثة أيضاً: سليم عبد الجليل، والأفعى، وشجرة السدر، والبناء الذي أُعدّ للفارس الآتي من منفاه مضمّخاً بوعد المجيء والذي يؤول إلى قبضة سليم مؤلّف من سبعة طوابق، لكأنه أشبه ما يكون بتلك البوّابات السبع التي اقتيدت زهرة إليها، والتي كان الرعاة الثلاثة يتعاقبون على اغتصابها فيها.‏
كما يمارس فعل الرقص، الذي تؤدّيه فردوس للتطّهر من الألم الذي افترس أعماقها بسبب جحود سليم ونكرانه وإخفاقه في تذوّق ماضيه معها حين أسلمت جسدها إليه، دوراً في تعميق ذلك النزوع أيضاً، وفي التعبير عن محاولات الروائي المتواترة لاستثمار مختلف الرموز الأسطوريّة التي تخصب نصّه، وتُشرعه على أكثر من قراءة. ولئن كان "الرقص يحاكي، على الدوام، نموذجاً أول، يخلّد ذكرى لحظة أسطوريّة"(21)، تعني، فيما تعنيه، استعادة فتنة البدايات، فإنّه يتجلّى كذلك في أداء فردوس له، إذ ما إن يكشف سليم عن قناعه حتى تجد فردوس نفسها "تهتزّ مع حركة الأشياء المهوّمة، مع الطبول والرايات والأجساد.. أعطوها دفّاً ورفعوا عقيرتهم عالياً في الغناء، فرقصت. هي ذي رقصة الألم الذي ينهش عظامها.. ببطء. ببطء. شبيه بالذبح كانت تهتزّ مع الإيقاعات"(28).‏
ب – إيــزيس وأوزوريـــس:‏
تعدّ أسطورة إيزيس وأوزوريس أكثر أساطير الموت والانبعاث حضوراً في الرواية العربية في مصر، ومنذ وقت مبكّر نسبياً من تاريخ التجربة الروائية المصرية تعدّدت أشكال استلهام الروائيين لهذه الأسطورة تعدّداً يعكس ما تتمتّع به من ثراء دلالي وتنوّع في مستويات القراءة والتأويل. وغالباً ما ترجّح ذلك الاستلهام بين مستويين(22): تسجيلي، يكتفي بنسخ الأسطورة وإعادة صوغها في قالب روائي، ومعبّر عن رغبة في بعث التراث فحسب، أي دونما ترهين له، كما في رواية عبد الحميد جودة السحّار: "احمس بطل الاستقلال"، ورواية عبد المنعم محمّد عمرو: "إيزيس وأوزوريس"، وآخر تعبيري يحرّر نفسه من تلك السمة، وينجز نصّاً إبداعياً لصيقاً بواقعه وهاجساً براهنه، كما في رواية حسن محسب: "رغبات ملتهبة"، ورواية بهاء طاهر: "قالت ضحى".‏
وكما يمكن التمييز بين مستويين في استلهام الروائيين المصريين لهذه الأسطورة، فإنّه يمكن التمييز بين شكلين له أيضاً: شكل يوظّف الأسطورة توظيفاً كلّياً، أي أنّه يصوغ الأسطورة كلّها في قالب روائي، على النحو الذي يتجلّى في رواية "إيزيس وأوزوريس"، وآخر يوظّفها توظيفاً جزئياً، بمعنى أنّ الأسطورة لا تشكّل سوى حافز من حوافز السرد الروائي، كما في رواية "أحمس بطل الاستقلال"، حيث ترد الأسطورة على شكل قصّة ترويها الأميرة "سشن" لخادمتها "نفرت"، وعلى نحو لا تتجاوز معه حدّ التسلية(23).‏
- رامــــة والتنّــــين‏
- تنتمي أسطورة الموت والانبعاث الإيزيسية في رواية إدوار الخرّاط: "رامة والتنّين"(24) إلى المستوى التعبيري، وعلى الرّغم من أنّ الخرّاط لا يستلهم هذه الأسطورة على نحو كلّي، بمعنى أنّها لا تشكّل متناً روائياً، فإنّها في الوقت نفسه تبدو مندغمة بهذا المتن ودالّة على كفاءة عالية لدى الخرّاط في استثمار تلك الأسطورة وبثّها في عروق الرواية، التي تُعدّ بحقّ، وفي هذا المجال بخاصّة، "واحدة من أهمّ النصوص الروائية العربية"(25).‏
ومهما يكن صحيحاً ما ذهب إليه سمير أبو حمدان من أنّ ثمّة معطى صوفياً في هذه الرواية، فإنّ الأكثر صحة هو أنّه ليس "الأقوى يداً والأسدّ مرمى والأحدّ نظراً والأشدّ احتمالاً بين المعطيات الأخرى في الرواية"(26)، فهو لا يعدو كونه واحداً من هذه المعطيات التي تتضافر جميعاً لتصوغ ما هو أسطوريّ، يبدو جماعاً لها أحياناً، ومستقلاً بنفسه أحياناً أكثر. ومهما يكن صحيحاً أيضاً أنّ أسطورة صراع الإنسان مع الوحش الخرافي / التنّين "تُمثّل.. لبّ الرواية ومحرّكها"(27)، فإنّ هذه الأسطورة تبدو امتداداً للأسطورة الإيزيسية، أو وجهاً من وجوهها. وإذا كانت فريال جبّوري غزّول التي رأت ذلك قد اعتدّت باختيار الروائي اسم ميخائيل لبطله، أي الاسم الذي ذكره العهد الجديد قاتلاً للتنّين(28)، فإنّ اسم الشخصية الروائية ليس سوى "علامة لغوية بامتياز"(29)، بالإضافة إلى أنّ ما هو أسطوريّ في الرواية لا يتحدّد بالأسطورة المسيحية، أو الأسطورة الإيزيسية، بل يمتدّ ليشمل أساطير أخرى، كأسطورة العنقاء، وبعض أساطير الإغريق، وحكايات ألف ليلة وليلة، وإشارات ورموز أسطوريّة مختلفة، تمارس جميعاً، وبنسب متفاوتة، دوراً في إثراء مقاصد الخطاب الروائي، وفي معاضدة ما يبدو الأسطورة المحرّكة في الرواية، أي: أسطورة الموت والانبعاث.‏
يترجّح المحكي في الرواية، كسابقاتها من النصوص التي تنتمي إلى مجال الظاهرة، بين مستويين سرديين: واقعيّ وأسطوريّ، يتداخلان فيما بينهما، ويتآزران ليصوغا نصّاً روائياً زاخراً بالدلالات، ومعبّراً عمّا يمكن وصفه بكتابة سردية خاصّة بإدوار الخرّاط، تكتفي بقوانينها الداخلية وتُنتج جمالياتها المنبتّة الصلة بمواضعات المؤسسة الأدبيّة.‏
ولئن كانت مهمّة الكاتب، كما يرى "شكلوفسكي"(Chklovski) تكمن في "إخراج الشيء الواقعي من متوالية الواقع إلى متوالية أدبية، حيث يكتسب الشيء معناه من وضعه في المتوالية الجديدة"(30)، فإنّ الخرّاط ينجز هذه المهمّة على نحو شديد الخصوصية من جهة، ودالّ على وعي واضح بقابليات الجنس الروائي وإمكاناته من جهة ثانية.‏
وما يؤكّد ذلك أنّ الخرّاط يستثمر الأسطورة الإيزيسية، وسواها من الأساطير المرتبطة بفعلي الموت والانبعاث، دون أن يغلّ نفسه أو أدواته إلى منظومة سردية محدّدة، إذ ينفَذُ ما هو أسطوريّ إلى نسيج النصّ، ويتماهى به، ويشكّل معه كلاً واحداً، ويتمرّد على المتواتر من الأعراف السردية. ويمكن تلمّس هذه السمة في شخصية بطلته رامة خاصّة، التي يكاد لا يميز القارئ فيها بين ما ينتمي إلى الأسطورة وما ينتمي إلى الواقع، وإلى الحدّ الذي تبدو معه هي هذا الواقع وقد تأسطر تماماً.
فرامة هي إيزيس بطلة أسطورة الموت والانبعاث الفرعونية، وإيزيس هي رامة بطلة الراهن، وكلاهما يندغم بالآخر ويتماهى به ليصل إلى درجة الإيمان لدى ميخائيل بأنّ إيزيس "لم تكن.. أسطورة من أساطير القدامى بل في مستوى من مستويات حياته كانت ماثلة لا تقبل الإنكار ولا الإثبات. قبوله لها - هل يقول إيمانه بها- ليس موضع سؤال ولا جواب"(162). وما يعزّز ذلك أنّ رامة كثيراً ما كانت تشبّه نفسها بالعنقاء التي تنبعث من رمادها دائماً: "أنا كالعنقاء التي يحكون عنها، تجدّد ذاتها في مياه البحر"(264)، وأنّ ميخائيل نفسه يصفها بقوله: "أنتِ لن تموتي أبداً"(84).‏
ويكاد الروائي لا يترك جزئية من الجزئيات المكوّنة لشخصية إيزيس دون أن يضفيها على بطلته رامة، التي يتوق ميخائيل إلى التوحّد بها كما لو أنّه يتوق إلى التوحّد بالمطلق الهارب من الواقع، أو المغيَّب عنه، أو كما لو كانت رامة هي هذا المطلق نفسه وقد أعاد انبعاث ذلك الواقع من رماده، كما أعاد إليه توازنه المفقود.‏
وما ظمأ ميخائيل الجارح إليها سوى تجسيد لذلك التوق الذي يعبّر عنه بقوله الدالّ على ما يستجمع الكثير من تلك الجزئيات المميّزة لجذر رامة الأسطوريّ، أي إيزيس. وليس قوله لها: "أنتِ الكلمة الأولى"(71) سوى إشارة، من إشارات كثيرة تتردّد في الرواية، إلى أنّها هي ذلك المطلق الذي بعث الحياة من عمائها الأول، أي بوصفها الكلمة الخالقة التي نقلت الأشياء من حال الفوضى إلى حال النظام، أو إرادة الحبّ التي تعيد جمع ما تبعثر من الأحلام كما فعلت إيزيس بأشلاء حبيبها أوزيريس. وليس قوله لها أيضاً: "كأنّك خالدة لا تموتين"(108)، أو قوله: "هذه المرأة باقية لا تزول"(265)، سوى تعبير عن إيمانه الراسخ بقيامة الخصوبة من يباس الجدب الذي يبسط ظلاله في الراهن حوله، والذي ما يلبث أن يتبدّد حين تقول رامة نفسها له بعد ستة أيّام من لقائهما الأول: "أنتَ قتلتَ التنّين"(209). بمعنى اكتمال فعالية الخلق في اليوم السابع، أو انبعاث الحياة المعبَّر عنه بقتل التنّين من ذلك اليباس الذي يُمثّله التنّين نفسه.‏
وعلى الرّغم من تلك التنويعات التي يلوّن بها الروائي استثماره لهذه الأسطورة، فإنّه، على النقيض من سابقيْه: بركات، والربيعي، يحفظ للمرويّة الأسطوريّة أصلها الذي صدرت عنه، والمقطع التالي الطويل من الرواية، والذي يصدح به ميخائيل جواباً عن سؤال الفنلندي له حول إيزيس، يفصح عن ذلك، بل إنّه يؤكّد أنّ أسطورة الموت والانبعاث هي الأسطورة المحرّكة في الرواية، كما يفصح عن الخصوصية السردية المميّزة لنتاج إدوار الخرّاط بعامّة. وهو مقطع دال، في تدفّقه دون علامات ترقيم، وفي خاتمته، على أنّ استعادة أسطورة ما، روايتها، تستهدف عَوْداً رمزياً "إلى اللحظة المعزولة عن الزمان، لحظة الكمال الأول"(31)، إذ ما إن يفرغ ميخائيل من الإجابة، بل من رواية الأسطورة، حتى يتحرّر من إحساسه الحادّ باغترابه عن العالَم حوله:‏
"إيزيس.. إلهة الحبّ القديمة والأولى والدائمة.. استكملت إيزيس المنكوبة محلولة الشعر استجماع أشلاء أوزيريس الشهيد ولم يبق إلا القضيب فإنّ لم تجده فسوف يحلّ المَحْلُ والخراب في أرض خيمي الخصيبة السمراء.. الصندوق السرير الكفن المصنوع على قدّ الإله العظيم والمصبوب عليه الرصاص المصهور في فقط مدينة الحرمان والحداد قد حملته مياه النيل الشحيحة الآن الصاعدة من وهاد العالم السفلي المنيرة بشمس لا تنطفئ دفعته إلى البحر الوسيط الخماسين الجامحة التي لا عقل لها عاصفة الجفاف والرمال الدقيقة ينخسف لها القمر ويسوّد وجه الشمس يمجّها من فيه قابيل الأول.. وهاهي إيزيس.. جناحاها شراعان مفرودان على وجه الثبج مقنّنة الموت والحياة وربّة البحر والأرض والسماء وصاحبة كلّ السفين حتى ترمي به الأمواج إلى قلب الجذع المقطوع من شجرة الأرز الفينيقية العجوز عمود الأساس في بيت ملك بيبلوس فتنمو عليه الشجرة من جديد وتونع وتحتاطه بجسمها المنيع تحميه من القهر والجفاف وسخف الروح إيزيس أخته وحبيبته عشقا أحدهما الآخر من قبل ولادتهما واقترنا وهما في رحم أمهما أوزيريس ذي العيون التي لا عداد لها المنير الواحد الضوء الحبيس المولود في اليوم الأول من أيام الخليقة والحي حتى اليوم التاسع والأخير الذي لا نهاية له.. أما إيزيس فترضع ابن ملك بيبلوس بإصبعها في فمه وتضع الأمير الصغير كلّ ليلة في عرس النار المتلظية بمعموديتها تقهر الموت وتدخله مداخل الخالدين فتجنّ أمه الملكة جنوناً وهي ترى ألسنة اللهب تلعق جسم ابنها وعندئذ تكشف إيزيس الساحرة الإلهية عن مجدها فتشقّ الأرزة العتيقة التي تتحدث عن سرها بلسان مبين وتسلم وديعتها الغالية إلى المصرية العائدة دوماً بالخبز العميم بعد التحاريق البقرة الحنون الولود ذات الضروع التي لن يمسها الجفاف ما زلتُ أراها حتى اليوم رابية الردفين في جلابيتها السوداء السابغة تحمل جرتها على رأسها ممشوقة قدها يتمّوج بين الغيطان تُرضع ألف ألف حوريس بلا نهاية بلبن الكبرياء الذي لا يغيض رغم القحط وجوع الأزمان الأرض السمراء تحت طين الوادي المشقق الحواف يغمرها الماء فإذا هو جسم إيزيس المعطاء البدي الشباب والشمس تنبثق من زهرة البشنين والثور الأسود متجددٌ مع الدهر لامع الجلد وحوريس الصقر الباشق قد انشقّ عنه شعاع القمر الخصيب وسوف يتربى ويقوم وسوف يهزم جحافل العقارب في منافي المستنقعات الشرقية بين أعواد البوص الهشة بقوة تمائم أمه الكلّية القدرة ثم يشتد عوده ويطعن فرس النهر الشرير ويوزع لحمه على المحرومين فقد أخذ بثأر أبيه الممزق الشهيد العظيم المدفون في بوزير ولكلّ شلو من جسمه القُدّوس ضريح ومزار على طول الترع والقنوات وشطي النيل الحاكم الآن مملكة الأموات الأحياء الباقية في ثيابه البيض ووجهه الأبنوسي الجميل مفتوح العين ابد الآبدين يقيم ميزان معت العدالة وإلى جانبه الوحش عمعم ربّ العقاب الذي ينهش قلوب الخطاة غير التوابين.‏
فرغ الكأس وعندما عاد إلى غرفته كان إحساسه بالغربة غير ممض"(160-162).‏
وإذا كان المقطع السابق ينتج ما يسمّيه "جينيت": "الفضاء الدلالي"، حيث يتضاعف التعبير الأدبيّ، ويتعدّد، ويتأسس بين مدلوليه الحقيقي والمجازي(32)، فإنّه في الوقت نفسه يشير إلى محاولة الروائي إعادة صوغ الأسطورة على نحو يُحيل إلى أكثر من مرجع أو رمز أسطوريّ، فصراع رامة / إيزيس مع الجدب، وصراع ميخائيل مع التنّين الذي لا تعرّفه الرواية "هل هو وجه من أوجه رامة المعشوقة؟ أم هو وجه من أوجه ميخائيل العاشق؟ أم هو كائن آخر أو قوة أخرى؟"(33)، يتعدّد في الرواية، ويتناسل في أكثر من صورة: جلجامش مع "خمبابا" حارس غابة الأرز، و"برسيوس" مع التنّين كما في الأسطورة الإغريقية، وميخائيل مع التنّين أيضاً في رواية العهد القديم، و"مار جرجس" مع مثيله كما في الرواية المسيحية. بمعنى اختيار الروائي "أسطورة جماهيرية، لها وقعها وأثرها عند الخاصة والعامة.. واغلة في القدم ترجع إلى حضارة وادي الرافدين القديمة، ولا تنقطع حتى يومنا هذا"(34).‏
ومهما يكن صحيحاً أنّ الرواية بعامة تتميّز "على الرّغم من تضافر وتشابك الأساطير فيها بالواقعيّة"(35)، فإنّ ما هو واقعي يبدو لصيقاً بما هو أسطوريّ، وتتجلّى هذه السمة من خلال شخصية رامة التي ما إن تغادر حقلها الأسطوريّ حتى تعود إليه على المستوى الواقعي نفسه، وعبر صفاتها الخارجية والداخلية معاً. فحين يسألها ميخائيل عن لون عينيها تقول إنّ لونهما يتغيّر دائماً، فيستكمل ميخائيل قائلاً: "وبهما أشعّة داكنة، صادرة من البؤرة إلى أطراف الكون"(69)، وما يلبث أن يهمس لنفسه بعد كلّ مجاسدة بينهما: "ودائماً يسيل الجنس من كلّ مسام جسدها وعقلها ويفيض من عينيها"(113)، لكأنّها إيزيس نفسها التي كان جسدها، كمثيلاتها من آلهات الخصب في معظم أساطير الشعوب، يضطرم بالحبّ والشهوة دائماً أيضاً(36).‏
وباستغوار ظلال الوصف في قول ميخائيل عنها بأنّها كثيراً ما كانت "تتحدّث بانطلاق وحرارة عن خوفها من الموت، لا موتها هي"(194)، وليس الوصف نفسه، فإنّ ذلك يعني، كما يبدو، شبهها بجذرها الأسطوريّ إيزيس التي قهرت الموت أكثر من مرّة. وليس الرمز الذي تشير إليه في قولها لميخائيل: "إنني أموت إعجاباً بغروب الشمس، أو الفجر في الحقول، وإنني أجد فيها رمزاً لما لست أدري"(262)، سوى رمز للموت والانبعاث كما مثّلتهما الأسطورة الإيزيسية، أو رمز لأسطورة التكوين، فكما يعني الغروب دخول الأشياء في ظلمة تذكّر بالعماء الأول، فإنّه يعني الموت أيضاً، وكما يعني الفجر بداية الخلق أو التكوين، يعني، في الوقت نفسه، انبعاث الأشياء وتجدّدها.‏
وكما تبدو إيزيس واحدة من الآلهة الضدّية، أي التي تجمع بين قوّتين أو سمتين متقاطبتين، أو واحدة من الآلهة المتعدّدة الصفات، فإنّ رامة نفسها تبدو على المستوى الواقعي كذلك أيضاً. ولئن كان المقطع التالي الذي ينتجه صوت ميخائيل يفصح عن تلك المشابهة بين رامة ومصدرها الأسطوريّ في هذا المجال، فإنّه، في الوقت نفسه، يُفصح عن تلك الخصيصة المميّزة للغة السرد بعامة عند إدوار الخرّاط: "سمعتُ أصواتكِ التي لا عداد لها، صوتك الطفلي الصغير الحجم وأنت تخافين الظلام، صوتك شاكية تطلبين النجدة بيأس في ليل وحشتك الذي يشغل بؤرة النهار كلّها لا شرخ لها، وصوتك صلبة لا تكسرها ضربات تفلق الصوّان وصوتك العملي الذي تصرّفين به الأمور بين العمال والأعمدة والصروح والأوراق.. وصوتك عاشقة تتوفز الرجولة في حضنك وتُطعَن، وصوتك الشهواني يتقطّر بأنوثة خالصة خاضعة"(299).‏