عرض مشاركة واحدة
قديم 06-30-2016, 05:18 AM
المشاركة 61
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
عمر و ثلّة من رفاقي في الملت ، حضروا بمناسبة موسم عيساوة ، أنا أيضا أزور قراهم في مناسبات مختلفة ، أعراس ، أعياد ، مواسم ، يحتفون بقدومي هم وأسرهم ، أنا أيضا أحب أن يزورني أصدقائي و رفاقي ، عمّي رحّب بهم بروح مرحة ، أحسّوا بتفرّده ، بإنسانيته ، عاملهم كما لو أنهم رفاقه ، وحين غادروا فاتحني في الموضوع ، أبوك لا يعجبه أن تحضر رفاقك إلى المنزل ، أجبته : " أعرف هذا يا عمّي ، وتعرف أنت أيضا هذا ، ألا تتذكر أنّه لا يستحسن رفاقك عندما كنت في سنّي ؟ " ردّ و الابتسامة تعلو محيّاه ، " أذكر لكن يبقى أخي " عقّبت : " نعم هو أيضا أبي ، قد لا تعجبنا أشياء كثيرة ، لكنها موجودة ، وجب التعامل معها هكذا " . نعم، أبي لا يحبّ رفاقي ، و ربما لا يحبّ الكثيرين ، لكنه رغم ذلك يرحّب بهم ، يجالسهم ، يحدثهم ، بل يعجبون بثقافته الواسعة ، بمعارفه الغزيرة ، في ميادين كثيرة يفوتني في المعلومات ، لم يذهب يوما إلى المدرسة ، حتّى المسجد ربما تعلم فيه الحروف فقط ، لكن الإعلام أعطاه ثقافة واسعة ، يصاحب المذياع بإدمان غريب ، قد لا تكون علاقتي بأبي جيدة كما أريدها و كما يريدها أيضا ، لكن في الأخير هو يعرفني ، و أنا أعرفه ، أعرف كما يعرف أنّه يصعب لمثل تلك التفاهات البسيطة أن تؤثر على علاقة أب بابنه ، يجده دائما بالقرب عند الملمّات ، و أجده دائما بالقرب عند كل الصّعاب .

جاء الموسم الجديد ، عمّي غادر ، التحقت بدار الطالب ، أنا الوحيد من بين هؤلاء الطلبة الذي يدرس في الباكلوريا ، لست أدري كيف بقيت وحيدا ، اكتريت غرفة مع عمر ورفيقين آخرين ، فيها نمضي أوقات فراغنا ، كان عاما مملاّ جدّا ، حدث فيه حدث سياسي هامّ ، فوز جبهة الإنقاد بانتخابات الجزائر ، ثم الانقلاب على شرعية الصناديق ، كنت متتبعا لما حدث ، فازت الجبهة بالأغلبية المطلقة ، حاول العسكر لجم الفيس منذ فوزها بالانتخابات البلدية ، و وصل الأمر إلى اعتقال زعمائها ، لكن ذلك لم يمنع عبد القادر حشّاني من اكتساح الانتخابات البرلمانية ، هو حزب فتيّ و ديمقراطية فتية ، في دولة لم تعتد بعد على التعدّدية ، كان بن جديد هو من أراد للجزائر هذا التوجه نحو الدولة المدنية ، لكن نهم الإسلاميين و تحجّر العقيدة العسكرية حالت دون العبور إلى توليفة تعطي هذا البلد السّبق و الرّيادة في احترام الإرادة السياسية للأغلبية . تفكّك السفيات ليس إلا تحصيل حاصل ، فمنذ سقوط جدار برلين و الاتحاد صوري لا أكثر ، وحرب الخليج أعلنت وفاة السفيات رسميا ، مؤتمر مدريد قد يكون حدثا أيضا رغم كونه مجرد ذرّ للرماد في العيون ، حتى سلام لبنان الذي عقب حرب الخليج هو أيضا بني على أسس ملغمة ، وقف إطلاق النار بالصحراء لم يقدّم حلاّ جديّا للموضوع ، أمّا أنا فأحاول إيجاد طريقة لتمضية هذا العام بسلام ، فأنا الآن حامل للبطاقة الوطنية و أقترب من استكمال ربيعي التّاسع عشر ، أمامي دورتين فقط لاجتيازهما بعد أن تم الاستغناء عن دورة ثالثة ، إنه التغيير الذي يطال أغلب البنى السابقة ، دورة في فبراير والأخرى في يونيو رغم أن العطل بقيت دون تعديل ، هذا النظام تخضع له أقسام الثانوي لوحدها في البداية قبل أن يعمم بعد ذلك في كلّ المستويات .
الإدارة ، صعب جدّا لإنسان يؤمن بالحرية أن يحبّ الإدارة والإداريين ، منذ صغري أمقت الذي يعطي الأوامر حتى و لو كان أبي ، سوف لن أنجح في التواصل مع الإداري لانّني منذ البداية أرفضه رفضا مطلقا ، قد أظهر احتراما ، قد أرضخ ، قد أنافق ، لكن هذه كلها مجرد تكتيكات لتقليص الأضرار ، تغيبت ذات مساء اثنين أنا و حسن ، في الصباح كانت لنا الحراسة العامّة بالمرصاد ، اخترعت كذبة موفقة ، ذهبنا لشراء لوازم الرياضة في السوق الأسبوعي ، نظرت إلى المكلف بالغياب ، وجدت وجهه لا يبشر بكثير من الخير ، رغم ذلك انطلت عليه الكذبة حسب اعتقادي ، لكن الأمر يتعلق بطعم مدسوس من رجل عالم بملفات المشاغبين. بعد مدّة قصيرة فتحت شهيّتي لكسر القوانين ، وجدت نفسي متغيبا ، وقفت قبالة مكتب الحراسة العامّة ، وجدت الرّجل غائبا ، ذهب في دورة تكوينية ، تصدى لملفّي صديقي في السّنة الماضية ، طلبت منه ورقة الدخول ، قال :" الأمر لا يتعلق بي ، ربّما كنت في السنوات الماضية تفعل ما تريد ونحن نغض عنك الطرف ، لعلك تتعقل ، هذه المرة لن تلج فصلك دون أن يعبئ ولي أمرك التزاما يتعهد فيه باحترامك لقوانين المؤسسة و إلا أحيل ملفك إلى المجلس التأديبي ، تلك أوامر الحراسة العامة و الإدارة . " هذا الخطاب جديد على أذني ، فالسيد أعرفه و يعرفني جيدا ، طوال السنة الماضية لا يحكّر معي رغم معرفته أنّني أتغيب لأتغيب فقط ، من حين لآخر كان ينتظر أن أغادر الدّراسة ، لكنه لا يعلم أنّني أتغيب بكثير من الحرص على أن لا يؤثر ذلك على نتائجي .
ماذا أفعل ، هل أقصد أبي ، لا سيعاملونه بكثير من القسوة ، إذن فمدير دار الطّالب قد يداوي الجرح بلا نزيف ، من إدارة لإدارة ، مكانته ستجعلهم يتراجعون عن هذه الوثيقة التي ستمهد لعقوبات مشدّدة متى تم الوقوع في خطأ ما ، فهذا الوافد الجديد جانبه ليس آمنا ، بعد استجواب قصير وافق مدير دار الطّالب على طلبي ، قائلا : " أتمنى أن يتعلق الأمر بالغياب كما قلت " طمأنته : " الغياب فقط يا سيدي المدير " حزم حاله و مضينا إلى الثانوية ، دخلنا على صاحبي ، ردّها في وجهه دون حياء ، بل أضاف : "أنت مكتعرفش هذا ، دوز عليّ الجحيم العام الفايت " فاجأني الحارس العام بهذا الأسلوب ، لم أكن أعلم أنك تكنّ لي هذا البغض كلّه ، رغم أنّني أحترمك جيّدا ، و أقول دائما في نفسي ، هذا الرّجل يعي ما معنى أن تحسّ بالضّجر والملل كلّما أعطيتني ورقة الدّخول دون عقوبة .
في طريقنا إلى البلديّة كان مدير دار الطّالب و هو رجل يقترب من تقاعده ، رجل صارم ، يقظ ، حادّ الطباع ، قويّ الرّأي ، يجتر بمرارة : من تكون يا ابن اللّئيمة حتى تردّها في وجهي ، أنا بكلّ مكانتي وهيبتي تجرجرني هكذا ، كان غضبه عليهم أكثر من غضبه عليّ، أحسنت يا مدير دار الطالب ، كان بإمكانك بكلّ بساطة أن تطردني أنت أيضا من مؤسستك بسهولة وقد وجدت سببا لقرار كهذا ، يومها عرفت أنّنا لا نقدّر الرّجل حقّ قدره ، أحيانا لا تعرف الرّجال حتّى تخالطهم ، رغم سلوكه الميال إلى الطيش و الرعونة ، فالرّجل يملك في داخله حبّا لأبناء دار الطّالب ، صحح إمضاءه في البلدية و لم يفارقني حتّى تسلمت ورقة الدّخول ، غير أنه حذّرني ، هذه هي الأولى والأخيرة يا ولدي ، في المرّة القادمة اشرب حريرتك وحدك .
تمر الأيام برتابة قاسية جدّا ، حتى تلك الفسحة والمتعة اللتان أحس بهما عند الغياب أصبحتا من باب المحظور ، يومها تأكدّت أن الغياب هو ما كان يمنحني جرعة زائدة للاستمرارية ، للتحدّي ، الآن عرفت لماذا لا أستطيع الالتزام ، فلو كنت أصاحب الكنّاش كل يوم لوصل دماغي إلى سكتة ما ، أنا في حاجة إلى الترويح عن نفسي ، بحاجة إلى وقت مستقطع لمواصلة اللعب و إيجاد خطة أخرى .
ما العمل يا نورالدين ، أنت محاصر ، لا حلّ غير الإستكانة فأمامك موسم واحد و تحصّل شهادتك وبعدها يمكنك أن تدبر أمرك وتغير المكان والنّاس.
لم يبق غير أسبوع واحد و تأتي العطلة ، ياه ما ألذّ العطلة بعد هذا الحصار الجائر ، نحن في السّاحة ننتظر وصول أستاذ الطبيعيات و قد تأخر بدقائق معدودات ، رجل من درجة إنسان ، يا لك من أستاذ ، معك عرفنا آخر ما وصل إليه علم الأجنة و الصفات الوراثية ، معك عرفنا التوالد كما لم نعرفه من قبل ، معك عرفنا المستور في الخلايا ، معك لامسنا نكهة العلوم . مبعثيرن قبالة المختبر جاءنا الرجل ، أقيموا صفّا أمام القاعة ، نتحرّك بتثاقل ، واحد منّا يرتدي جلبابه و رأسه مدفون في قبّه ، قصير القامة ، لاعب مميز في كرة القدم ، مفتول العضلات ، يمارس الجيمباز بكثير من الدقة والانسيابة ، رجلاه ثابتتان في الأرض ، كان مستندا إلى سارية ، لعلّه مريض أو يحس ذاك اليوم بتعب في نفسيته ، الحارس العامّ قصده ، جرّه من غطاء رأسه ، بعثر عليه الطالب أدواته ، وصده صدّا عنيفا ، لم يبتلعها الرّجل بل أمره بالتوجّه إلى مكتبه ، أقمنا الصّف في انتظار وصول الأستاذ ، خطر خاطر لبعضهم ، سنتوجه عند المدير ، فزميلنا مريض ، وقد اعتدى عليه ، الجماعة عقلها عقل قاصر كما يقول لوبون ، تتحرك عاطفيا فقط ، ذهبنا جهة الإدارة مجتمعين ، لم نجد المدير هناك ، أنا أعرف أنّ أغلبهم ونحن في الطّريق إلى الإدارة يسأل نفسه لم جئت إلى هنا ، أنهى الحارس العام عمله ، دخل التلاميذ إلى أقسامهم ، توجه نحونا عند باب الإدارة ، سأل أحدهم : " ماذا يجري ، لماذا جئت إلى الإدارة " أجابه الطّالب : " لست أدري ، رأيت الجماعة متوجهة إلى الإدارة فرافقتهم ." رفع الحارس العام رأسه فلمحني ، تخطى الكثيرين وقصدني عند باب الإدارة : " لماذا جئتم إلى هنا ؟" أجبته ببرودة أعصاب : " لأنك اعتديت على زميلنا ، أنسيت بهذه السّهولة ؟" قال لي ببرودة أعصاب : " يمكنك التفضل إلى مكتبي ، فأنا بحاجة إلى التحدث إليك ." قلت بعصبية : " مرحبا ، أنا أنتظرك هناك ." تحدث بكلمات إلى الجماعة والتحقوا بفصلهم قبل أن أصل إلى باب مكتبه ، التحق بنا ، استقبل زميلي الثائر ، فسمعت من كلامه نبرة استعطاف و التذرع بالمرض ، و أنه ظن أن زميلا من زملائه هو من جره من قب جلبابه وغيرها من الأعذار ، لم يشفع له تزلفه وتملّقه ، بل أمره المسؤول بتعبئة التزام بعدم تكرار فعلته ، غادر المكتب متأبطا أدواته حاملا مطبوع الالتزام . " تفضل يا نورالدين " دخلت عليه و بدأ في سرد موّاله ، أنت عبّأت الالتزام و ملفّك شاهد على سلوكك المنفلت ، فلن أقبل منك اعتذارا و لن أغفر لك هذا الخطأ " أجبته و الغضب باد على كلامي : " عن أي خطأ تتحدث ، أنت من اعتديت على زميلي ، و أنت من يستحقّ العقوبة ." أراد أن يرهبني برفع صوته ، فعلا صوتي على صوته ، فتركني في مكتبه ، خرجت متسمرا عند باب مكتبه ، فلمحني أستاذي في تغزوت الذي علّمني اللغة الفرنسية ، أذهب و أجيء قرب مكاتب الحراسة العامّة ، قصدني : "ما بك يا نورالدين؟ أجبته : " عفوا أستاذي ، الأمر بسيط ، سأتدبر أمري " كان الرجل يراقبي من زاوية ما ، التحق بنا ، حدّثه أستاذي قائلا : " هذا تلميذي ، درسته منذ كان برعما صغيرا حتى قبل أن ألتحق بالسلك الإعدادي ، عندما كنت معلما في الابتدائي ، و أعتقد أنه نجيب و مجدّ ، و ربما حدث سوء تفاهم فقط ." ردّ عليه المسؤول : " أتعرف ماذا يقول تلميذك هذا ، إنه يسبّ بدون حدود ، هذا لا يعترف بشيء في الوجود كله ، من على شاكلته ليست المدرسة موطنه." كان كلامه محرضا لغضبي أن ينفجر ، توجهت نحوه عاقدا لكمتي ، حال بيني وبينه أستاذي ، خرج الحارس العام الذي أهان مدير دار الطالب ، يبعدني عنه ، و أنا لا أزال أصيح بما يجود به لساني : " من أنت في هذا الوجود كلّه ، سترى أن واحدا منّا فقط يمكنه الاستمرار ، أنت لا تعرف مع من تلعب، كلّ شي مقبول إلا الاحتقار والشّطط ." تعاون أستاذي و الحارس العام في إبعادي عنه ، حتى وصلت إلى باب الثانوية ، هناك أخذ أستاذي في ترشيدي : ألا تعرف بعد يا نورالدين عقلية المسؤول والإداري . يجب أن تخفّف من لهجتك ، يجب أن ..و يجب أن..." قبّلت رأس أستاذي و طلبت منه المعذرة إن كنت ظهرت له بمظهر غير ما ظنّه بي و تركته يلتحق بتلاميذه . قصدت دار الطّالب ، ارتديت أحذيتي الرياضية ، و رجعت أطوف حول المؤسسة لعله يظهر .
في اليوم التّالي جئت المدير فوجدته غير موجود أو لا يريد مقابلتي ، زميلي عبّأ الاتزام والتحق بالفصل ، أنا لا أزال أجوب الطرقات ، أعدّ لي دماغي سيناريوهات كثيرة ، لكن المدير أخيرا أرسل في طلبي ، دخلت إلى مكتبه ، وجدت الرجل هناك ، يتحدث المدير أكثر من خمسة عشر دقيقة و ختمها بأن أعتذر للمسؤول ، أجبته ببساطة : " ماهي جريرتي سيدي المدير ، أنا لا أعتذر عن شيء لم أقترفه ." تدخّل الرجل مرّة أخرى : " السيد المدير ، بلغني أنه يحرض التلاميذ على مغادرة المؤسسة قبل الموعد الرّسمي للعطلة " تغيب التلاميذ قبل الموعد الرسميّ للعطل بيومين أو ثلاثة تقليد يعرفه الجميع في المؤسسة ، فالأمر لا يحتاج إلى تحريض . عقّبت على كلامه : " أرأيت سيّدي المدير ، كيف تريدني أن أعتذر والرّجل لا يزال يحفر لي ، هذا غير معقول وغير مقبول . غضب المدير و كتب لي ورقة الدخول قائلا : " يكفي من هذا الكلام ، التحق بقسمك "