عرض مشاركة واحدة
قديم 05-26-2012, 05:32 PM
المشاركة 695
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
د ر ا ســــــة ¦¦ انشائيّة الخطاب في الرّواية العربيّة الحديثة (ج 13) ¦¦‏ </strong>

</strong>
وشبيهة بهذا المسلك المتاهة رحلة مقاول الأنفار مع المرأة ليصاحبها إلى مشغلها الجديد لكن الطرق تتخذ التواءات ومنعرجات، يخرج من البلدة إلى طريق خارجها ومن الطريق إلى سكة بجانبها ومن سكة جانبية إلى ساقية مهجورة من بيت إلى بيت ولا تصل المرأة في النهاية إلى مشغلها المزعوم وتجد نفسها في نهاية الطريق حبلى ولا تعرف للولدين أبا وتنتهي متاهة لتبدأ متاهة أخرى فتصطحب الصياد العجوز أياماً ثم بعد موته تجيء القوارب لتقطر القارب الأسود وتختفي المرأة ثم تعود في نهاية الرواية مع ولديها لتحمل رفاة الصياد العجوز وصندوقه وتختفي ولا يعلم القارئ مصيرها في المرتين ولا الطريق التي سلكتها. </strong>
وشبيه بهذا المسلك المسار الذي اتخذته شخصية جمعة "منقب الآثار"، ذلك أن الأشياء التي بها ارتبط أوقعته في متاهة ما استطاع الخروج منها، فيعيش حالة هوس أشبه بحالة النبوءة (66) ثم يرحل ومعه صندوقه الذي عثر عليه في النوة ولا يعرف القارئ ولا الشخوص في الرواية مصيره "وتسأله عما كان يفعله جمعة فهي لا تعرف لرحيله سبباً ويقول إنها أسبابه لا يعرفها غيره"(67) ولكنه يعود مع رجل غريب "هزيلاً رثا ذبل جلد وجهه وتهرأ ونتأت عظامه"(68) ليموت في بيته وسيبدو لامرأة جمعة "أن كل ما يحدث غريب، حتى جمعة نفسه كأنها لم تعرفه أبداً"(69) وأشبه بمصائر أولئك جميعاً مصير كراويه وعفيفي وهما يتأملان هذا العالم الغرائبي ذاته ليتخذ سؤال المتاهة سؤالاً فكرياً عقائدياً فالمسألة لا تحسب "بالميزان المسطرة" ولذلك تظل الأسئلة الوجودية قائمة من خلال هذا الحوار (كراويه، لم تظن الله خلقنا؟- حكمة لا ندريها- آه، الكلام الذي حفظناه من صغرنا)(70).‏ </strong>
إنه سؤال المتاهة "ملايين السنين كما يقولون، يولد ناس ويموت ناس، ساقية تدور ولا أحد يدري الحكمة في ذلك، تأتي أوقات، يأخذني التفكير، يسحبني وأجدني أفهم. آه أفهم، فجأة يصعب الفهم وكما لو أن بابا أغلق"(71) وهو سؤال لا جواب له إلا المصير المحتوم، فالغربان بلونها الأسود والكحلي جميلة (72) وتنتهي رحلة الرجلين إلى المجهول وقد دامت خمسة أعوام بعودة بائسة إذ عادا جثتين "يطفوان متباعدين وقد التصق كل منهما بجانب من البركة تهزهما دفقات المياه (73) إن المتاهة إذن، في رواية "صخب البحيرة" لمحمد البساطي عنصر منظم لفضاء السرد، فهي ترسم صورة المكان وهي تحدد مسلك الشخصية الروائية ومصيره.‏ </strong>
2. 4: مفهوم الغموض: كذلك ينتظم فضاء السرد في رواية "صخب البحيرة" لمحمد البساطي وفق مفهوم الغموض، إن الغموض عنصر من العناصر الأساسية المتدخلة في بنية الشخوص والأحداث والأشياء، وهو بالتالي أضحى يمثل عنصرا أساسياً من عناصر إنشائية الخطاب الروائي الحديث. والغموض ذو صلة وثيقة بوظيفة السارد المتغيرة ودوره الجديد في سوق الأحداث ولذلك علينا أن ننظر إلى المسألة من زاويتين: زاوية المسرود وزاوية السرد.‏ </strong>
2. 4. 1: تبدو لنا الشخصية في رواية "صخب البحيرة غامضة، فهي مجرد كائن يتحرك ويؤدي أفعالا أو تسند إليه أفعال ولا شيء غير ذلك. وهي شخصية بلا تاريخ اجتماعي أو نفسي تظهر في المكان وتختفي بسرعة ويكاد القارئ في كل الحالات يجهل الأسباب التي تقف وراء تصرفاتها والدوافع التي تحركها. وقد تكون حاملة أسرار ولكنها تظل إلى آخر لحظة من حياتها الفنية تحافظ على سرها لا تذيعه إلى القارئ وبالتالي تتحول إلى لغز يؤسس بنية السرد، إنها في النهاية مجرد عامل (actant) والأمثلة التي تؤكد رأينا كثيرة ونكتفي بذكر أهمها.‏ </strong>
فالصياد العجوز يظهر في مياه البحيرة فجأة ولا يستطيع القارئ أن يدرك شيئاً عن حياته الماضية "يقولون" إنه كان مقطوعاً من شجرة فلم يروه يوماً مع أحد (74) وما يرويه بعضهم عن إمكانية تسلله مع قاربه من العاصمة (74) يظل مجرد رأي يورده السارد ولا يحقق في إمكانية صحته (75) وهو قليل الكلام، كثير الصمت، لا يكاد يقول شيئاً للمرأة التي استدعاها إلى عشته، وقد وصفته هذه المرأة وصفاً يعمق اللغز ويؤكده "يقولون مقتول، قاتل أو مقتول ماذا يخيفني منه"(76)، إذ لا نستطيع أثناء قراءة النص أن نتحقق من هذا القول ولا أن ندرك كنهه وفحواه.‏ </strong>
ومع ذلك، يظل الأغراب أكثر الشخصيات في الرواية غموضاً لأسباب عديدة منها أن النص لا يحدد لنا هوية هؤلاء الأغراب ولا يمنحهم أية دلالة رمزية فهم مجرد عامل مركزي في الرواية يحرك الأحداث وبقية الشخوص ولكن عبثاً نحاول أن نبحث عن سمة اجتماعية أو سياسية تحدد هويتهم على مستوى الحقيقة أو الرمز وفي هذا السياق يعمد النص إلى الألغاز فلسنا ندري هل هم فئة واحدة أم أكثر من فئة واحدة إذ هم جميعاً يأتون من البحر ولكنهم يأتون تارة مسالمين يطلبون الماء وطوراً غزاة ينهبون البلدة والضواحي واللبس لا يظل في مستوى التلقي فقط بل يتسرب إلى الشخصية الروائية وبالتالي يصبح معنى من معاني الرواية. فالعلامة هي أن الغرباء غير مختونين ولكن أهل البلدة عندما يثبتون في أمر هؤلاء الّذين جاؤوا يطلبون الماء يكتشفون أنّهم مختونون (77) ومع ذلك يظلّ الالتباس قائماً بالنسبة إلى الشخصية والقارئ معا والسؤال الّذي يظلّ مطروحاً هو هل أنّ الأغراب الّذين يأتون غزاة مع النوّة هم أولئك الذين يأتون بعجولهم لبيعها في البلدة وأولئك الذين يأتون يدحرجون براميلهم؟ وخاصّة عندما نعلم أنّ السّارد يستعمل ضمير الجمع الغائب كلّما تحدّث عنهم (78) ويؤكّد التشابه القائم بينهم "تقول إنّهم يتشابهون، نفس الملامح والطول والعرض، الصّوت يختلف والكلام أيضاً"(79).‏ </strong>
وثمّة إلى جانب ذلك شخصيات ذات حضور ضبابيّ، فأهل البلدة نكاد لا نعرف عنهم شيئاً، فمنذ المقطع الثاني يشرع السّارد في استعمال ضمير المتكلم الجمع ("ونقول إنّها إحدى خدعها لتسحبنا من مكامننا يبهرنا الضوء النّاعم نتخلى عن حذرنا ونخرج يحدونا الاطمئنان عرفنا بعد مرّات من مجيئهم أنّهم يأتون من الجزر..) (80) ويتحوّل صوت السّارد إلى مجرّد صوت جمعيّ للجماعة غير المحدّدة الباقية الّتي تقاوم التغيّر.‏ </strong>
2. 4 . 2: كذلك تبدو الأفعال الّتي تؤدّيها الشّخصيات غامضة، ويعود هذا الغموض إلى أنّ القارئ لا يستطيع أن يدرك خلفياتها وأسبابها، فإضافة إلى أنّها لا تترابط ترابطاً سببيّاً نلاحظ أنّ السّارد والشخصيّة معاً لا يذكران الهدف الّذي ترمي الشخصية إلى تحقيقه بإنجاز الفعل سواء كان ذلك تصريحاً أو تلميحاً فالصيّاد العجوز استقدم المرأة ولديها إلى العشّة وظلّ يعيش في قاربه وعندما أنست به وحكت له سرّها(81) كان في غيبوبة عنها وكذلك الشأن بالنّسبة إلى "جمعة" الّذي حمل صندوقه ورحل ثمّ عاد وفي كلتا الحالتين لا نستطيع أن ندرك سبب رحيله وعودته، وتطرح الشخصيّة ذاتها السؤال ولا تلقي الجواب: وتسأله عمّا كان يفعله جمعة فهي لا تعرف لرحيله سبباً ويقول إنّها أسبابه لا يعرف غيره"(82) ويصرّح عفيفي وكراوية بالتباس الفعل على هذا النّحو:" يضحك عليك من يقول إنّه يفهم كلّ شيء طيّب والحلّ؟ أيّ حلّ؟ الدّنيا كلّها أسرار" (83) وعزم الرّجلان على الرّحيل إلى الجزر لمعرفة حكاية الغرباء (84) ولا شكّ أنهما عرفا الحكاية قبل أن يعودا جثتين على سطح ماء البحيرة، لكنّ اللغز يظلّ قائماً بالنسبة إلى القارئ وبقيّة شخوص الرّواية. أمّا اللّغز الأكبر فهو يتعلق بالصندوق الذي تتكّرر صورته في الرواية. فهو يظهر للمرّة الأولى صحبة مقاول الأنفار الذي يصطحب المرأة وينتقل بها بين أقاربه وصندوقه معه (85) وكان طول الرّحلة يجمع أشياءه من قاربه ويضعها فيه(86) وعلى هذا النّحو ظلّ يلازمه ملازمة غريبة(87) ولمّا هجر الرّجل المرأة أخذ معه صندوقه (88) رغم الألفة الغريبة التي كانت تشعر بها المرأة تجاهه. فقد كان معها دائماً وضعت له يوماً "مفرشا من قميص قديم لها بلون قشرة البصل وطرزت حوافه بخيط أخضر (89)" ويوم أخذ الصندوق وذهب كانت تبكي"(89) ثم يظهر هذا الصندوق للمرأة في نهاية المقطع الأول فعندما مات الصياد العجوز عثرت على صندوق في سحارة القارب، فقد كان يشبه صندوق مقاول الأنفار، نفس الحجم المتوسط وحافة الغطاء البارزة واللون القاتم"(90) ويظهر كذلك في الصفحة الأخيرة من الرواية عندما عادت المرأة صحبة ولديها وأخرجت صندوق الصياد العجوز الذي أخفته في التراب قبل رحيلها (91) وقبل نهاية الحكاية يظهر الصندوق مرة أخرى في علاقة غريبة مع جمعة "منقب الآثار، فمنذ عثرت امرأته على الصندوق، تغيرت أحواله، لم يعد جمعة الذي ألفوا أن يروه، حكت امرأته فيما بعد أنها لو عرفت أن كل ذلك سيحدث لتركت الصندوق تعيده الأمواج إلى البحر"(92) لكنه هذه المرة صندوق عجيب أطنب السارد في وصفه "الصندوق صغير، إنطفأ بريق معدنه، مستطيل الشكل، منمنم بزخارف محفورة وأخرى بارزة، أركانه ومقبضه من العاج، وضعوه على أكفهم، قلبوه تحسسوا قوائمه الصغيرة النحيلة وأعادوه إليه، ضغط بإصبعه زرا بجانب الصندوق، فانفتح الغطاء، انسابت موسيقى ناعمة، أنصتوا وعندما بدا لهم أن يقولوا شيئاً أشار لهم أن يصمتوا، توقفت الموسيقى وترامى إليهم صوت رخيم تحدث قليلاً وسكت، الصوت لا يزال يحلق فوقهم، نبرته حزينة، يذكرهم بضباب البحر الكثيف المعتم، تساءلوا إن كان صوت امرأة (93) وعبثاً حاول "جمعة أن يفهم اللغة التي يتكلم بها الصندوق رغم استعانته بمدرس اللغة في البلدة فكلامه عجيب "يسحبهم كالنداهة، حين يبدو لهم أنهم كادوا أن يمسكوا به يفلت فجأة ولا يتركهم على حالهم"(94) ثم سرعان ما أضحى للصندوق سلطان عجيب على "جمعة" إذ يظل بجواره، مستغرقاً مع الصوت كأنما يتلمس ما خفي من نبراته، شارداً في الفضاء الواسع" (95) ويدخل معه في حوار غريب عجيب تذكره امرأته (96) وبذلك تتلبسه حالة أشبه بحالة النبوءة تذكر ببعض قصص الأنبياء وهم يتحاورون مع الروح الأعلى.‏ </strong>
ثم اصطحب "جمعة" صندوقه ورحل لكي يعود بعد سنوات هزيلاً بلا صندوق ليلقى حتفه (97). وهكذا يظل الصندوق في كل الحالات لغزاً لا حل له. لكن أمر الصندوق يتعقد أكثر. فهل خرق السرد المعقول والممكن والمحتمل ليدخل الخارق عبر هذا الصندوق العجيب؟ من الصعب أن نجيب عن هذا السؤال إجابة حاسمة لأن الصندوق يحمل زرا ولا يفتح ولا يتكلم إلا باستعمال هذا الزر وبالتالي يمكن أن يكون آلة من آلات العصر الحديث التي تصدر أصواتاً وما كان من أمر الشخوص المحيطين به هو من باب حالات النفس التي هيأت الإطار المكاني "المؤسطر" ولكننا إذا اعتبرنا أن أمر الصندوق كما وصفه السارد هو من باب الحقيقة عندئذ يدخل باب الخارق وما فوق الطبيعة. ومهما يكن من أمر فإن الصندوق وحكايته يؤكدان كيف أن الأشياء في هذه الرواية توشح السرود بالغموض وتتحول إلى ألغاز تعاضد أعوان السرد لتجعل من الغموض عنصراً أساسياً من عناصر إنشائية السرد الحديث.‏ </strong>
2. 4. 3: إن السارد لم يعد يجسد الأيديولوجية السائدة أو الفهم المشترك فهو: "يتيح فرصة الرؤية عن بعد ويتيح التأمل فالكتاب أصبحوا يحسون في لحظتهم المعاصرة أنهم يراقبون ويلاحظون فحسب وهم يقفون على الضفة الأخرى غير مشاركين أو فاعلين وهو يرفضون أيضاً كل ما يحدث وليست لهم فاعلية أو قدرة على تحريك الأحداث (98) على هذا النحو يحدد محمد البساطي وظيفة السارد كما يراها في علاقتها بوظيفة المؤلف في المجتمع. لا شك أن السارد قد "انتقل من كلية المعرفة إلى كونه راويا داخل السرد نفسه، يقدم كل شيء وكأن وجهة النظر هي وجهة نظر الأشياء والأفعال ذاتها تتعدد المنظورات ولكنها تقدم معطيات قابلة للتكامل في تشابك حافل بالدلالات"(99).‏ </strong>
إن هذه الوظيفة الجديدة للسارد ستكون سبباً مباشراً في إنتاج ظاهرة الغموض والالتباس وتكتنفها لأسباب عديدة أهمها:‏ </strong>
-يتعمد السارد إحداث ثغرات كثيرة في مستوى الأحداث وهي ثغرات يساهم ملؤها في تخفيف حدّة الغموض الذي يهيمن على النصّ، فهو يحذف أحداثاً كثيرة تكون ضرورية في الرواية التقليدية التي تسعى إلى الوضوح في بناء حكايتها، فثمة إذن أحداث تعمّد السّارد أن يسكت عنها، منها ما يتعلق بحياة الأغراب في جزرهم ومنها ما يتعلق بما حدث لجمعة أثناء رحيله صحبة صندوقه العجيب أو ماحدث لعفيفي وكراوية أثناء رحلتهما والأمثلة لا تحصى لكثرتها. فالحذف أسلوب مركزي اعتمده السارد في تعامله مع مسروده ويمكن أن نستشهد بهذا المثال من مقطع يتعلق بالصياد العجوز: "في الصباح حفر خطا على شكل مستطيل على بعد خطوات من ضفة المضيق، غرز في وسطه عصا قصيرة ورحل، غاب ثلاث سنوات وعاد، كان شديد النحول وقد ازداد انحناء كتفيه لم يجد أثراً للخط الذي حفره غير أن عصاه كانت هناك بعد أن أخذ دورة واسعة بالمكان جمع العشب أوقد النار وشرب الشاي ورقد في القارب. في الصباح غرز عصا أخرى وذهب.."(100) فالثغرات السردية في هذا المقطع تتعلق بغياب الصياد العجوز مرتين. المرة الأولى لمدة ثلاث سنوات والمرة الثانية لمدة عام ونصف، فالسارد يتعمد أن يحذف ما يتعلق بهذين الحدثين.‏ </strong>
ينتج عن ذلك انتفاء العلاقات المسببة بين الأحداث، فالسارد يرفض أن يعلل الأفعال السردية وأن يبررها فالأحداث وأفعال الشخوص تسرد صامتة. فهي موجودة بذاتها ولذاتها وليست في حاجة إلى تدخل من السارد ليبرر وجودها وصورة التلفظ ستؤثر في سبل صياغة الجمل السردية، فتكاد تزول وسائل الربط التقليدية التي تصل بين الجمل السردية بمعانيها المختلفة فتتراصف الجمل متقطعة على هذا النحو: "سارا على طريق خارج البلدة، لم تر على الطريق أية ركوبة، وجاء الليل وهما يسيران أرقدها بعد الطعام على شط القناة. كانت تبكي، قال لها لا تبكي قفزت صارخة حين جرت الضفادع على وجهها، كتم فمها بيده، أرقدها مرة أخرى"(101).‏ </strong>
إن حيادية السارد تقترن بمحدودية الرؤية عنده، فالرؤية في سرد الأحداث هي الرؤية من الخارج حيث لا يرى السارد أبعد مما يراه الشخوص، فالسارد أحد رجال البلدة يشاهد ويروي وبالتالي لا يمكن أن يرى ما تفعله الشخصية عندما ترحل مثلاً وهي كذلك رؤية موضوعية فلا يرى السارد إلا المظاهر الخارجية للأشياء والشخوص من أقوالهم أفعالهم.‏ </strong>
يعمد السارد كذلك إلى التلخيص والاختزال بصفة متواترة ويكون ذلك على حساب الوقف والاستراحة إذ تكاد تغيب كل تلك المقاطع التأميلية التي تقف فيها الشخصية لتتأمل ذاتها وتنظر إلى ما حولها. والمبالغة في الاختزال تساهم في إحداث الفراغات السردية فلا تمنح الشخصية عمقها النفسي أو الاجتماعي عن طريق التوسع في الحدث ولا تمنح الحدث ذاته مبررات وقوعه الكافية لتضمن سلامة ترابطه مع بقية الأحداث وانصهاره في النسيج السردي ويمكن أن نكتفي بهذه الأمثلة: "كان صيادا عجوزاً، جاء ذات يوم واستقر في المكان" غاب ثلاث سنوات وعاد "أبحرت القوارب ذات ليلة، قطرت القارب الأسود وبه المرأة والولدان واختفت في عتمة البحيرة الواسعة" و"لن تراه إلا بعد سبع سنوات هزيلاً رثاً تأتي النوة وتذهب، تخلف وراءها ما تخلف" "وسوف تمضي خمسة أعوام قبل أن يعودوا إلى الظهور"(102).‏ </strong>
إن هذا الأسلوب الذي توخاه السارد في عرض الأحداث، يجعله يتخلى عن وظيفته التقليدية المتمثلة في تبرير الحدث وتفسيره وتكثيف الشفرات الإعلامية من منطلق الحرص على سلامة الرسالة، إن الأحداث عنده، تبرر ذاتها في شبكة من العلاقات وعلى القارئ أن يفكها ويكفي للأحداث أن تكون موجودة إذ ليس للسارد ما يقول ولكن مثل هذه الأطروحة إضافة إلى طبيعة الأفعال والشخوص تجعل من الغموض عنصرا إنشائياً ضرورياً في النص الروائي.‏ </strong>