عرض مشاركة واحدة
قديم 05-26-2012, 05:30 PM
المشاركة 694
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
قراءة نقدية في رواية صخب البحيرة للروائى محمد البساطي

عصام شرتح

يقول الناقد صلاح فضل:«إذا كانت «المدونة الشعرية» قد تكفلت عبر عصور طويلة بمسؤولية بناء ذاكرة الانسان العربي، فحفظت كثيراً من ذبذبات نفسه ومعارج روحه من الضياع، وضمنت تداولها عبر الأجيال وتناسلها في آثارها فإن «المدونة الروائية» قد تقدمت في القرن الماضي بشعريتها المميزة لتملأ فراغاً «أنثروبولوجيا فادحاً في فضاء الكتابة الابداعية، فهناك آلاف المجتمعات الخاصة، واللحظات التاريخية المتحوّلة تظل مفقودة معدومة، ان لم تلتقطها حواس المبدعين، وتسجلها بهذه الطرائق الفنية المرهفة، بما يحفظ لها مذاقها وخصوصيتها، ويجعلها تندرج في منظومة الوعي الثقافي بالحياة والتاريخ الباطني للروح الانسانية، وعلى هذا فإن الوسيلة الكبرى لاستيعاب متغيرات التحديث المحتوم، وانضاج تجربة المعاناة وتجاوز التناقضات الناجمة عنه، تتمثل في قدرتنا الابداعية على استحضار اللحظات المفصلية الحاسمة في التطور الاجتماعي والثقافي،
واستجلاء المؤشرات الكامنة فيها، والمحددة لاتجاهاتها المستقبلية، في سبيل تحقيق أنموذج أوفق للحرية والعدالة باعتبارهما جوهر الفعل الحضاري..»
على ان ما يثير هذه التأملات عن طبيعة القراءة وتجربة الرواية في تصوير الحياة انما هو نص روائي جديد لمحمد البساطي بعنوان «صخب البحيرة» الذي فاز بجائزة معرض الكتاب المصري لعام 1996، وتابع به الكاتب مسيرته الابداعية باعتباره أحد ممثلي جيل الستينيات، الذي قطع شوطاً طويلاً في تطوير التجربة الروائية العربية ودفعها في اتجاهات طليعية خصبة ومتعددة.
ولعل الظاهرة اللافتة في هذه الرواية، والمناظرة لعدد آخر من الأعمال الجديدة هي غيبة البطل المركزي والحدث الرئيسي، وقيامها على أساس نوع طريف من العلاقات «العقدية» ان صح التعبير، أي تلك التي تبدو الفصول كأنها حبات من عقد منتظم في سلك يتمثل في المكان والبؤرة والاستراتيجية الدلالية، مع احتفاظ كل حبة بكيانها المستقل وطبيعتها الخاصة، حتى لتراود القارىء فكرة اعتبارها مجموعة قصصية، لولا أنها تقدم اليه منذ عنوان الغلاف بصفتها رواية، ولولا انه يستفز في كل نقلة بين الوحدات المكونة لها الى البحث بنفسه عن روابطها الظاهرة والخفية، وسرعان ما يدرك انه ازاء نسق منتظم في بنية كلية، وان ما يصل عناصر هذه البنية ويقيم التراتب الحيوي في المكان والزمان والرؤية بين وحداتها، ويشكل عالمها في نهاية الأمر، أهم مما عودنا عليه السرد التقليدي من وحدة البطل والحدث المركزي، ويقوم العنوان حينئذ بدور هام في تحديد البؤرة الدلالية للعمل، وبوسع أنصار التحليل السوسيولوجي للأدب ان يستخلصوا من تكرار ظاهرة غياب البطل والحدث الرئيس دلالة تشبه ما سجلته دراسات «غولدمان» عن تطور الرواية الغربية، حيث تُعدّ مؤشراً لتجاوز المجتمع لحالة الاعتماد على البطل المركزي الذي تنعقد حوله الآمال في الخلاص وصناعة المستقبل الموعود، وتَتَبَأّر في منظوره رؤية العالم، وانتقال هذا المجتمع لحالة أخرى تسود فيها الرغبة في توزيع الأدوار على رقعة وسيعة من الشخوص والمواقف، على ان تتلاقى في نهاية الأمر عند محور جوهري يرتبط بظروف المكان وشروط الانسان، ومقتضيات تغيرهما.
والجدير بالذكر ان العالم الذي يقدمه محمد البساطي في «صخب البحيرة» هو تلك المجتمعات البدائية التي تعيش على هامش بحيرة كبرى تقع بين ملتقى النيل بالبحر الأبيض في شمال الدلتا، حيث تقيم أحراش الجزر المتناثرة وبعض التجمعات السكنية للصيادين المبثوثة في تضاعيف المياه، تغمرها حين تهيج «النوّات» وتنحسر عنها لتعود الى سيرتها الطبيعية والانسانية في أوقات الصفاء، وتنبت حيوات الناس وتتحدد مصائرهم منذ القدم طبقاً لهذه الجدلية بين حالات الطبيعة، حتى ترتفع بانخطافة سريعة الخرسانة، لتعلن عن دخول الانسان مرحلة جديدة في الصراع مع الطبيعة وتؤذن بنوع من التحول لا تتريث لرصده، بل تكتفي باللمحة الدالة في الاشارة اليه، فما كان يعنيها في المقام الأول انما هو صناعة ما يشبه النصب التذكاري الأخير لهذا الانسان في الطبيعة قبل ان تتخطفه السدود والأبنية العالية ومظاهر التحول الحضاري الجارف، انها تستنقذ من ذاكرة المكان حالته البدائية الابدية وتسارع الى تسجيل ملامحه المحكوم عليها بالاندثار، قبل ان تغمرها المياه الأخرى مثلما غمرت قرىً ومعابد، وطمرت آثاراً على ضفاف وادي النيل، لكنها تفعل ذلك دون شجن أو شماتة، بل تحافظ على موضوعية قاسية وتسجيلية حقيقية محايدة، ومن الواضح ان الكاتب الذي بعد عهده فيما يبدو بهذه البيئات الأصلية، ثم أخذ يقاربها بحنوٍّ شعري متوازن، قد اصطفى في ذاكرته خطوطها التجريدية العريضة، وأخذ يرسمها بريشة الفنان المتمكن عن بعد، بحيث يشحنها بالتفاصيل التي لم تنتزع لتوها من الواقع المباشر، وانما جهزت واختمرت في معامل التمثيل الفني لتقديم أوقع صورة ممكنة عنه، فنجد أنفسنا حيال ألوان فضية شاحبة مثل تلك التي تستخدم في السينما للاشارة الى اختلاف الذكرى أو الحلم عن الهدير اليومي بألوانه الفاقعة، لكن ما تؤديه السينما جمالياً بتغيير درجة اللون وإيقاع مظاهر الاشياء بما يتبقى في الذاكرة عادة بعد وقت طويل.
من هنا فإن اصداء «الصخب» المدهش الذي ينبعث من البحيرة هو معادل الصمت الرائن عليها معظم الوقت، عندما تجثم في حضن الغيبوبة عن الزمن وحركة التاريخ، وتبرز من ثناياها ملامح انسانية مركزة لعدد من البشر، النساء والرجال والأطفال، الذين نسجوا حيواتهم ومصائرهم، وطموحاتهم ومشاعرهم على ضفافها، ريثما كانت تأتي هبة العاصفة فتجرف بأنوائها وطينها وكدرها وبقايا معاركها هذا الصمت، وتحيله الى ضجيج طبيعي هائل هو الذي يتبقى في قاع الصورة الأدبية لينطقها بعد طول سكوت، عندئذ نرى ان البحيرة/ الطبيعة لا تتحدث الا بكلمات الادب عندما تشف عن قوانينها، وتنحسر عن آثارها، وإذا عظم الانسان ولحمة المتشذر هما ما يتراءى على الشواطىء المهجورة.
على أن يقظة الحس الواقعي - على حدّ تعبير صلاح فضل- عند محمد البساطي وتجربته الطويلة بمذاقها الخاص في الكتابة قد جعلت عملية «التغييب الشاحب لصور الواقع لا تصل الى الدرجة التي يتحول فيها الى الوجه الآخر، فحالت بنيه وبين امكانية استثمار أساطير الصيادين وعالمهم السحري المتصل بالبحر والماء، لم يخرق الروائي قوانين الواقع وهو يستبعده ويستقطره، ولم ينفذ منه الى ما وراءه».

رصد الرواية من الخارج:
إذا تأملنا بعض التقنيات الفنية التي يوظفها محمد البساطي في هذه الرواية بفصولها الأربعة، والتي يقدم فيها مجموعة من الصور التي تنحفر ببروز شديد في ذاكرة القراء لأنها تخلقت بجهد فني متمكن عن انطباعات غائرة في وجدان المبدع - وجدنا أن الملمح البارز فيها يتمثل في طريقة سرد الأحداث وتكوين الصور، فأسلوب الروائي هو الذي يجعلنا ندخل عالمه ويقربنا مما يريد ان يبثه من دلالات، فهو يعمد الى رصد المظاهر الخارجية للمشاهد باقتصاد لغوي شديد، في جمل فعلية متلاحقة، تنشىء حركات منتظمة للمرئيات، وتعزف عن التوغل في دواخل الشخوص والمواقف، لا يسرف في التعليق ولا يتبرع بشرح ما لا يلزم، يكفيه ان يرقب بعين الكاميرا اللاقطة ما يحدث، ناطقاً بوصف موجز ضروري لفهم المشهد.
ومع أنه لا يستخدم ضمير المتكلم المفرد، ولا ضمير الجماعة المتحدثة إلا نادراً، ويختفي دائماً حول ضمير الغائب (الراوي) فإنه لا يبدو في وضع العليم ببواطن الأمور، لا يعتمد على الراوي الذي يعرف السرائر والمصائر، بل لا يكاد يتشخص أو يتعين، فالكاتب ليس هناك، بل الآخرون هم الذين يشهدون ويراقبون، وتبدو الرواية كأنها (تنكتب أمامنا دون راوٍ مسيطر فأفعال المضارعة تجعل المشاهد تتوالى وهي تحدث دون أن تنعكس لتصوير المتحدث ذاته، ولنقرأ فقرة تتجلى فيها هذه الخواص يقول في الفصل الأول:
«كان صياداً عجوزاً جاء ذات يوم واستقر في المكان، رأوه دائماً عجوزاً ربما بسبب تجاعيد وجهه الكثيرة وانحناءة كتفيه، يقولون انه كان مقطوعاً من شجرة، فلم يروه يوماً مع أحد، يتجول ليلاً ونهاراً بقاربه في البحيرة، وحين يهده التعب ويشتاق للأرض يرمي بالهلب لأقرب مكان ويستغرق في النوم، وأحياناً يمرون بقاربه شارداً في عرض البحيرة ويرونه راقداً بداخله، ورغم المجدافين القويين فهو قليلاً ما يستخدمها، يرفعها الى سطح القارب ويفرد شراعه المتهالك برقعه الكثيرة، وهو ليس متعجلاً، انما يستضل به حين تكون الشمس حامية، كان قاربه بخلاف القوارب الأخرى في البحيرة - وكانت رفيعة مدببة الطرفين- عريضاً على شكل صدفة، مؤخرته مكشوطة، وقد ثبت عصاً بكل من طرفيه امتد بينهما حبل علق عليه كل متاعه.
هذا المشهد المرسوم المتحرك لا يكاد يتجاوز سطح الأشياء إلا بلمسة خفيفة عندما يعمد الى تفسير الحركة بأنها نتيجة للتعب والشوق للأرض، أو يصنف إيقاعها بأنه ليس متعجلاً وفيما عدا ذلك فنحن حيال كلمات شديدة القابلية للترجمة الحرفية الى منظور تشكيلي في متواليات مرئية لسيناريو متواصل، ومع أنه يصف الأشياء والأشخاص إلا ان طريقة الوصف تختلف تماماً عما عهدناه في القص التقليدي، فهو يؤثر تكوين الصور الخارجية مكتفياً بالاشارة السريعة الشارحة غير الشخصية.
وإذا كان أسلوب محمد البساطي يعتمد «الأسلوب السينمائي» على طريقة الستينيات مثل ابراهيم اصلان وصنع الله ابراهيم فإن محمد البساطي يمارسه بطريقة خاصةً تكاد تخلو من الانحياز الأيديولوجي لعصر معين، انه صارم في طريقة تشكيله للواقع المتباعد عن الزبد السياسي المباشر، فهو يحاول الغوص في أعماق الحياة، بعيداً عن التيارات القريبة عن طريق هذه التقنية اللا شخصية المحايدة، وليس معنى ذلك ان كتاباته خالية من الدلالة السياسية، بل هي تطمح الى تصوير القوى الكامنة خلف أمواج السياسة، تطمح الى التصوير المكثف لكيفية تخلق حيوات الناس وتشكل مصائرهم.
في فصل آخر بعنوان «النواة» نرى كيفية تولد الكلام المنطوق بالحوار من قبل الوصف السينمائي الخارجي ذاته والاقتصاد الشديد في تجسيد العالم دون ميوعة أو خطابية أيديولوجية على الرغم من أنها مفعمة بالدلالة، يقول في أحد مشاهده:
«يجلس جمعة وامرأته في ليالي الصيف على مقعدين فوق العتبة، يشربان الشاي وفوق رأسهما الفانوس معلقاً بشراعة الباب يضيء خافتاً، تلتف حوله سحابة من الناموس، البراد المطلي بلون أصفر نقش على جانبه حروف من لغة أجنبية، يمر واحد أو اثنان من الجيران يلقيان بالسلام، يدعوهما جمعة للشاي يجلسان على حصير مفروش فوق العتبة، يتأرجح جمعة في المقعد الهزاز، جسده محشور في المقعد الصغير، تصب امرأته الشاي للضيفين، يتحدث جمعة عن الشاي الذي يحتفظ بمذاقه حين يكون البراد من صناعة جيدة، ويلعن الزمن الذي جعل صناعة المواعين في متناول كل واحد، تأتي النسمة طرية من ناحية البحيرة يهتز لها الفانوس.

- الخواجات أولاد حرام، (ويبصق جانباً، حين يصنعون شيئاً يصنعونه تمام التمام)، الى جانب هذا الاتقان التشكيلي والحركي في رسم الصورة ثمة عدد من الاشارات الدالة في السياق، فالفصل يدور كله حول ما تأتي به النوة من حطام البحر ومخلفات السفن التي برعت امرأة جمعة في التقاطها وتنظيفها وإعادة تشغيلها، مثل الكرسي الهزاز والفانوس والبراد هنا الولع بمخلفات الصناعة الأجنبية هو الذي سوف يحدد مصير جمعة عندما يعثر على صندوق ناطق صغير، تنبعث منه موسيقى وكلمات أجنبية فيؤدي الى استلابه وذهاب عقله افتناناً به، هنا تكتسب النوة ومخلفاتها بعداً رمزياً... فالتقاء العوالم لا يتم في مناخ تفاعل صحي خصب، وانما هو مثل ارتطام العواصف وضرب الأمواج للصخور، تفتتها قبل ان تذوب على أطرافها المدببة، فالوصف هكذا لا يظل خارجاً الى النهاية، بل سرعان ما ينتج دلالته عندما يقيم القارىء مفارقاته ويستخلص مغزاه.

(1) فضل صلاح أشكال التخييل من فتات الأدب والنقد ص 78-79
(2) المصدر نفسه ص 79- 81