عرض مشاركة واحدة
قديم 05-01-2012, 10:41 PM
المشاركة 506
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
سحر خليفة في

حبّها الأوّل وغصّة الواقع الأليم


نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


د. نـبـيـه القــاسم

"إنّ المعرفة بالواقع هي الصورة الحقيقيّة للواقع، أي للإنسان، إذ لا واقع في عدسة تنأى عن الواقع وتنحرف عنه"[1].
هكذا قالت سحر خليفة التي رافقت بإبداعاتها الروائية- نضالات شعبها الفلسطيني منذ الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية في الخامس من حزيران 1967، وهي التي ووجهت بكثير من الاتّهامات وحتى الرفض لمواقفها الصّلبة، وجرأتها في توجيه سهام الانتقاد باتّجاه الكثيرين.

السؤال الدّائم ورحلة الاسترجاع
لكنّ سحر نفسها، وبعد انقضاء العمر الجميل، وانحسار الأمل بتحقيق الحلم البعيد، وجدت نفسَها، كآلاف غيرها، تسأل: كيف حصل ذلك؟ لماذا؟ إلامَ نظلّ؟ وإلى أين نسير؟
وكانت رحلتها الاسترجاعيّة نحو الماضي للبحث والتنقيب والوقوف على حقائق الواقع الذي كان، رغم ما في رحلة الاسترجاع هذه من مفاجآت أليمة، محزنة، مُفجّرة للغضب.
بدأت رحلة الاسترجاع بروايتها "أصل وفصل"، وأعادتنا لتلك السنوات وأحداثها، وأهمها انفجار ثورة 1936 ومَقْتل رمزها الشيخ عزّ الدين القسّام، وانتهاء الثورة، وانقسام الزعماء في مواقفهم تجاه الثورة واستمرار النضال، بينما أصرّ الكثير من الشباب على مُتابعة القتال رغم دخول البلاد وسكانها في أجواء الحرب العالمية الثانية، حيث كانت بريطانيا المنتدبة على فلسطين طرفا أساسيّا فيها.
وقفت بنا سحر خليفة في روايتها "أصل وفصل" عند عام 1939 لتعود في روايتها هذه "حبّي الأوّل"[2]، لتُتابع السّرد وتصل إلى عام 1948، عام النكبة وضياع البلاد.
"أعود اليوم لدار العيلة لأقومَ بإصلاح ما تصدّع ونَخرَه السوس، وأجعل من الدار، دار العيلة، مكانا يُسْكَن، شيئا يُذكر وله تاريخ، ما عُدتُ أطيق جوّ الغربة والطيّارات والمطارات والبَدْء من جديد في كلّ مكان أذهبُ إليه. هناك عمّان، قبلها بيروت، ثمّ لندن، ثمّ باريس وواشنطن، ثمّ المغرب، وأخيرا جئتُ إلى الضفّة. شيء مُزعج أن تحسّ أنّك طَرد آدميّ مُتنقّل في كلّ مطار. ما أن تستقرّ في مكان ما حتى تنتقل إلى آخر، وإلى آخر بلا نهاية، وبلا تحديد."(ص9).
هكذا تبدأ سحر خليفة، على لسان راوية القصة، بتصوير حالة الفلسطيني المرفوض في كلّ مكان، مطرود من كلّ مطار، غريب لن يدخل، "برسونا نون جراتا"، كما وصفه الشاعر سميح القاسم.
وتوضّح أنّ عودتها سببُها أنّها "في هذه الدار وُلدتُ أنا، وأمي وداد وستي زكيّة. أنا كنتُ هنا منذ التاريخ" (ص10). وتشرح ما حلّ بالدار وأهلها "على هذه الدار مرّت أجيال، ومرّ احتلال وعواصف وزلزال رهيب جعل مدينتَنا مقلوبة، رأسها لتحت وأرجلها لفوق وحولها دمار وشظايا وغبار كثيف. وكذا الاحتلال ، مثل الزلزال." (ص10)
وتتساءل بألم: "في هذا الجوّ، مَن كان هنا؟ ستّي وأنا، وخالي وخالي، وخالي الآخر في السعوديّة، وأمي وداد. مَن ظلّ هنا؟ لم يبق أحد إلاّ سافر، هاجر، ولّى، أضحى ذكرى. وأنا أعود بعد كلّ السنين لأصلح ما اهترأ وتصدّع بعد الزلزال، وقبل الزلزال، وأعيد إلى الدار بعض الرّونق، وأزيل الغبار." (ص11)
راوية الحكاية
وراوية القصة هي نضال ابنة وداد بنت زكية، وشقيقة أمين ووحيد القحطان، الشخصيّات التي عرفناها في رواية ( أصل وفصل). ونضال الراوية هي التي عرّفتنا على نفسها في "أصل وفصل" بقولها "ولدتني وداد، لكن أمي الفعلية كانت ستّي، أمي كانت شبه طفلة، بعد أن تُرضعَني تُلقي بي في حجر الأم وتهرع لتعود للمستشفى ودرس التمريض. ومع الأيام بدأتْ تستوعبُ ما تسمعُ من كلام وأفكار وتتقبّلها بحماس، بأنّ الجيل القديم سيتغيّر إذا غيّرناه، وأنّ التقليد سيتغيّر إذا كسرناه، وأنّ الثورة تعني التغيير، وأنّ التغيير يبدأ بالنفس، فواظبَتْ على تغيير تلك النفس، نفسها هي، ولم تشملني، كانت مشغولة بما تحلمُ وبما تعملُ وتكسير القيود. وكنتُ أنا ضمن القيود فكسَرَتْني، وكانت تُحسّ أنّي امتدادٌ لماضيها وقيود الزواج فنبذتني."[3].
وكانت النكبة عام 1948 ليلفظها وطنُها، ويتنكّر لها الشقيقُ والأهلُ والغريب، وتذرو بها الرياح فترميها في مختلف العواصم المُتباعدة. كانت نضال قد عاهدت نفسَها وقد نُكبَتْ بفقدان الوطن والأهل أنْ تعيش بلا ذكريات وبلا أحزان، أن تنسى ما هي اليوم وما كانت بالأمس وتعيش فقط من أجل الفن، أن تعيش لإحساسها وترسم لوحات خرافيّة فيها ألوان مُشرقة وعيون خضراء وعسلية.(ص134). وتمرّ سنون التشتّت والغربة والضياع، وتُقرّر، وقد شارفت على السبعين من عمرها، أن تعود للوطن والبيت، رغم حراب جنود المحتل، لتُرمّم بيت العيلة، وتُعيد لحياتها بعضَ الاستقرار والطمأنينة والرّاحة.

أساليب السّرد
اتّبعت سحر خليفة في روايتها هذه أسلوب التوزيع ما بين ثلاثة أزمنة: الماضي المَسحوب من الذاكرة البعيدة، الماضي المُسَجّل على الأوراق، والحاضر المُخفّف من عبءِ الماضي، والشاهد على ما أوصلتنا إليه أعمال وخيانات الذين تاجروا بالبلد والشعب. وكان لتيّار الوعي حضور كثيف في العديد من المشاهد كتلك التي تستعيد فيها الماضي وتستحضر الأمكنة والأزمنة والناس الذين كانوا، خاصة في وقوفها أمام لوحاتها التي رسمتها بعيدا عن الوطن وعادت تحملها وتعمل على ترتيبها في بيت العائلة الذي تقوم بترميمه وإعادة الحياة إليه. فيختلط في ذهنها الحاضر بالماضي والرغبة في الانطلاق للمستقبل المرجو كما رأيناها في ساعة سماعها لكلمات ياسمين عن الرجل الطويل الذي وقف أمام الدار وقال إنه كان يوما من رُوّادها، فقفزت بها الذكريات إلى البعيد البعيد لتستعيد فتاها ربيع الذي أحبته وتعود لتعيش الساعات التي قضتها برفقته. والحالة نفسها أصابتها وهي تنظر إلى سعد الصغير الذي خبأته ياسمين في الخزانة عند مُلاحقة جُند الاحتلال له. واعتمدت سحر أيضا أسلوب الكتابة التوثيق في نقلها لبعض الحوارات التي دارت في اللقاءات بين عبد القادر الحسيني والزعماء والقادة العرب في دمشق، كما أرفقت الوثيقة والصورة، وحافظت على لغتها البسيطة القريبة من اللغة العاديّة القريبة للقارئ التي كتبت بها الجزء الأول من الرواية "اصل وفصل"، مع ازدياد المشاهد التي طغت الشاعرية والإيقاعيّة والجمالية على لغتها، مشاهد عاشتها في الماضي البعيد مع حبيبها الأوّل أيام المراهقة ربيع، ومشاهد حضرتها مع خاليها وحيد وأمين وحسنا، في مواقف الانكسار والتّوحّد والشعور بالهزيمة والضياع. ومثل المشهد الذي تنقل فيه ما دار من حديث بين وداد وأخيها أمين حول حبّه لليزاوحبّها هي لعبد القادر الحسيني.

عودة للماضي والحبّ الأوّل
تعود بذاكرتها الاسترجاعية نحو الماضي البعيد أيام طفولتها وحياتها مع جدّتها في بيت العائلة في نابلس لتستكمل صورة العمل العشوائي غير المنظم للعمل العربي السياسي والعسكري ضد الاستيطان اليهودي في البلاد الذي أسهبت في وصفه في رواية "أصل وفصل"، تستعيد شريط حياتها في عملية استرجاع للماضي البعيد، لتلك السنوات التي تلت مقتل عزّ الدين القسّام واستمرار الشباب في نضالهم ضدّ المحتل الانكليزي الغريب، وضدّ عمليات الاستيطان التي يقوم بها المهاجرون اليهود بدعم من المحتل. تسترجع أحداث الرحلة التي قامت بها مع ستّها زكيّة لموقع الثوّار حيث يتواجد خالها وحيد، مُتابع دربَ القسّام وحامل لواء قيادة الثورة، ولقاءها بالفتى ربيع مُرافق خالها وابنه المُتَبنّى، وكيف خفق قلبُها الصغير له."رأيتُ عينيه مثل قمرين أخضرين في وجه شبيه بوجوه البنات، أملس، أمرد، إلاّ من زغب فوق الفم، كان جميلا، طويلا نحيلا ومُثيرا فبدأتُ أحسّ بشيء يطفح داخل صدري كفوّار ماء، ماء ساخن، دفّاق، يُرسل موجات تلو موجات ترتفع وتصل حتى رأسي، ووجهي يصيرُ كرغيف خبز خرج من النار." (ص36). وتتابع شريط الماضي واستعادة المشاعر التي أحسّتها وهي برفقة ربيع وجدّتها في طريقهم للقاء خالها وحيد، "الولد الشاب طيّر عقلي، استولى عليّ، ما عدتُ أرى إلاّ خياله ولا أسمع سوى رنّة صوته."(ص45) لم يطل هذا اللقاء بسبب تحرّكات مُريبة لجُند الانكليز وقرار وحيد بعودتهم السريعة للبيت.
وتستعيد أحداث اليوم الذي فاجأهم فيه خالها وحيد، عندما دخل برفقة ربيع ليُعلن لهم "أنّ الثورة بدأت تنهار، وكيف جلس وخالها أمين يتبادلان الحديث حول الأوضاع. وزيارتها لخالها وحيد في قرية زواتا برفقة جدّتها ولقاءها بربيع، وما سمعت وشاهدت خلال زيارتها من أحداث المُواجهات بين الثّوّار وجُند الإنكليز وسيطرة اليهود على الأرض وعجز أصحاب الأرض عن المواجهة، والاكتفاء بالشكوى والنّدب. وتتذكر زيارتها وجدّتها لقرية صانور التي استقرّ فيها وحيد وتزوّج من حسنا وتحوّل ليُصبح فلاحا يعمل في أرضه.
وتتذكرُ آخر لقاءاتها مع ربيع والحالة الحزينة التي كان عليها بسبب تدهور الأوضاع وانهيارات الثوّار، قال لها معترفا : "انحلّت الثورة من الداخل، وما عاد بإمكاننا أن نتجمّع. كل فرد منّا بات يبحثُ عن مخرج لخلاصه. وأمثالي الآن بلا مخرج. لا مال ولا أرض ولا عمل ولا مستقبل. فماذا لديّ لأعطيك؟ لا شيء لديّ أعدك به لأقول بصدق انتظريني، كوني لي وانتظريني. وها أنا أقول لا تنتظري لأنّي سأهجّ من هذه الأرض وأبحث عن أرض تؤويني. أبحث عن عمل، أبحث عن خيط يهديني لأنّي الآن بلا حياة ولا مستقبل. أنا لا شيء، مجرّد لا شيء."(ص108) وتتذكّر كيف قبّل يدها يستسمحها، ووضع رأسه في حضنها وبكى عليها وعلى نفسه، وكيف بكى وبكى وهي بكت أيضا، وأقسمت أنها لن تنساه طوال حياتها، وستظلّ وفيّة على عهدها ما ظلّ نفَس في صدرها، وستظلّ له، وستنتظره، ولن تكون لرجل غيره".(ص108) وكيف قبّل يديها مرات عديدة وقبّل جبينها وسألها وهو يُفارق: لن تنسيني؟ وكيف ضمّت يديها إلى صدرها وقالت كصلاة قدسيّة: كيف أنساك؟ أنتَ ربيعي!." (ص 109).
وتقف نضال مع الماضي البعيد وهي تسال نفسها: " الآن، وأنا أتذكّر تلك الأيام، وأتذكّر ذاك الوداع وذاك الموقف أقول لنفسي كم ضاع العمر بلا ثمرة! كم خفق القلبُ بلا إحساس! لو ظلّ ربيع هل كنتُ أمرّ بتلك الخيبات؟ هل كنتُ أضيع بهذا العالم بحثا عن بديل لربيعي؟ لكن ربيع لا يُستبدل ولا يتجدّد، مرّة في العمر، فقط مرّة. هو حبّ الصبا وربيع القلب وحلم التغيير"(ص110).
وتتذكّر ما حدث من مُواجهات مع المستوطنين اليهود المدعومين من جند الإنكليز، واستيلاء اليهود على الأرض، والمواجهة الحاسمة التي كان من أثرها انفضاض شمل العائلة، فوحيد وزوجته حسنا انضما للثورة بقيادة عبد القادر الحسيني، وكان ربيع قد سبقهما، نضال وجدّتها عادتا لتقيما في بيت العائلة في نابلس، وأمين تابع عمله الصحافي يتتبع أخبار الثوّار والثورة.
تتوقف استرجاعات نضال عند هذه الأحداث الأخيرة التي شهدتها، وهي على يقين الآن وهي في السبعين من عمرها وقد عادت إلى بيت العائلة لترميمه تحت قيد الاحتلال الإسرائيلي للوطن، أنْ لا أحلام تنتظر تحقيقها، ولا أفراد عائلة يمكن أن يقفوا إلى جانبها، ولا أصدقاء ومعارف تبني معهم حياة جديدة. فكل الذي عرفت وعاشت كان ماضيا وانتهى.

عودة ربيع حبّها الأوّل وقد ضاع العمر الجميل
لكن في هذا الماضي السحيق كان ما يبعث الأمل ويشدّ الذاكرة ويرسم البسمة على الشفاه ويعود لينبثق ويتجدد مع كلمات جارة نضال ياسمين التي قصّت عليها ما حدث للفتى الذي هرب إليهم من جند الاحتلال وخبأته في خزانتها، وأسهبت في الحديث عنه بكل العواطف ممّا أثار حبّ معرفة المَزيد لدى نضال وذكّرها بفتاها ربيع الذي أحبته، ولكنه غاب عنها وانقطعت أخباره.
هكذا يتداخل الماضي بالحاضر وتتقابل الصور بعضها ببعض، وينتصب الوهم البعيد مُتجسّدا في كلمات ياسمين جارتها، عن ذلك الرجل الطويل النحيف ذي العيون الخضراء والشعر الأبيض ويحكي بلهجة قرويّة، الذي صادفته أمام الدار وأخبرها أنه يعرف الدار من داخلها لأنه كان كفرد فيها وابن العيلة، وكيف وقف بالباب عدّة دقائق وهزّ رأسه عدّة هزّات وقال: يا خسارة الدار، يا خسارة الدار وأهل الدار. ول يا زمن!" (ص168) فأيقظت أحاسيس نضال من مكامنها، وأعادت إليها ذاك الحبيب البعيد، ربيع الذي عشقت وفقدت كلّ أثر له بعد ضياع الوطن وتشتّت الأهل. وهل كان ربيع إلاّ حلما، رحلة قصيرة، صورة جميلة، مراهقة آفلة مَنسيّة، راحت، ضاعت، طواها النسيان"(ص169).
وبينما كانت تتنقل بين زوايا بيتها المهجورة وتُعيد الأدوات لأماكنها، بعد أنْ تركها العمال حين سماعهم دويّ الانفجار وإعلان مَنْع التجوّل، سمعت طرقا على البوابة الحديدية. وفوجئت بالرجل الذي رأته يقف أمام البوابة، كان رجلا غريبا بسَكسوكة، كبيرا بالسن، شعره أبيض ، بنظارات طبيّة، وقميص أمريكي بكاروهات وجينز أزرق لونه باهت. وقف يُحدّق في وجهها بنظرة غريبة، وقال بصوت مألوف: تغيّرتِ كثيرا يا نضال!
فسارعت لتقول: إذن أنت ربيع!
وبعد لحظات ارتباك وحيرة دعته للدخول. أخبرها أنه "كان في طريقه إليها ليسلّم عليها حين سمع بالانفجار وبدأ التجار يُغلقون الدكاكين والناس يتطايرون كالعصافير. وجد نفسه محشورا في المدينة، فالطريق أُغلقت والسيّارات أوقفت ولم يجد أمامه إلا أن يُكمل طريقه إليها حتى تفرج وتنفتح الطريق."(ص212-213) فقالت معلّقة: " إنّ الإغلاق قد يستمرّ عدة أيام، وهذا يعني أنّه سينام في هذه الدار طوال أيّام وليال."(ص213). وسالت نفسَها: ماذا سيقول الناس عنها، وماذا سيقول الجيران! رجل غريب في داري في هذا الزقاق؟ غير ممكن".( ص213)
وخلال جلوسهما في الحديقة كان يحدّثها عن نفسه وهي تتأمّله وتفكر، كم تغيّرنا واختلف ربيع! أهذا ربيع حفيد أم نايف بائعة اللبن والخبيزة وابن خالي بالروح ووريث الحسيني وسعادة؟ كنت قد سمعتُ من خالي أنّهما حين ذهبا للقدس بعد صانور التقيا بربيع في مقرّ قيادة الثورة عند الحسيني بقرية بير زيت. كان قد التحق بالحسيني وقوّاته وظلّ معه حتى استشهاده في القسطل، وبعد القسطل ذهب مع أمين إلى سعادة.(ص215). "وبعد هرب سعادة إلى دمشق بدأ رجال الأمن يطاردون أعضاء حزبه فالتجأ ربيع إلى السفارة الكندية، وهناك تعرّف على موظفة كانت تزورهم في مركز الحزب و هربت معه إلى كندا وهناك تزوجا وأنجبا" (ص258)
أخبرها ربيع أنه بعد هروبه إلى لبنان مع خالها أمين بدأ حياته رجل مطابع، تعلّم صف الحروف في جريدة الزوبعة الشهيرة في ذاك الوقت. صف الحروف تطوّر منذ ذاك الزمن، ومع تطوّره تطوّر هو من صفّ الحروف باليد حتى الإنترتايب والمونتايب والزينكوغراف والأوفست ثم الطباعة الالكترونية والكمبيوتر. وهو الآن لديه في الإمارات شركة ضخمة للكمبيوتر وآلات النسخ والتصوير والطباعة، يستوردها من كوريا واليابان والهند وألمانيا والبرازيل. يستورد كمبيورات وبرامج ويُتابع الثورة التقنيّة في كلّ مكان في العالم." وهو الآن رجل أعمال ومبرمج. زوجته ماتت منذ سنوات بسرطان الثدي. وقد تقاعد وأبناؤه يديرون أعماله.(ص215).
وروت نضال لربيع ما آلت إليه حياتها بعد النكبة وتشتت الأهل والشعب وضياع البلاد قالت: "بعدما ماتت ستي، وأمي اختفت ألحقني خالي بمدرسة الراهبات، وهناك اكتشفن موهبتي فدبرن لي بعثة فنيّة إلى روما، ومن هناك بدأت حياتي كفنانة وعشتُ حياتي بالطول والعرض. تزوّجتُ وطُلقت ثم تزوجت ثم تمرّدت ثم أحببت ثاني مرّة وثالث مرّة وعاشر مرّة، ثمّ قرّرتُ ألا شيء يستحقّ انشغال القلب إلا فنّي ورسوماتي، وها أنا أعود إلى داري حتى أرمم ما آل إليّ من آل قحطان."(ص216).
أيام الحصار أجبرت ربيع أن يبقى مع نضال في بيت العائلة، حيث كانت تتركه في الليل لينام وحيدا، وتنام هي عند صديقتها وجارتها ياسمين. هذه الأيام كانت مناسبة لإطّلاع ربيع على مذكرات أمين خال نضال وترتيب أوراقها. ومن خلال هذه المذكرات التي قرأتها نضال بتشجيع من ربيع، تعرّفنا على ما ألمّ بفلسطين بعد مَقتل عز الدين القسّام وانهيار ثورة عام 1936 وتشتت الثوار في مناطق مختلفة من البلاد. وبالتحديد تُطلعنا على تفاصيل الحرب المقدسة التي أعلنها عبد القادر الحسيني ضد الاحتلال الانكليزي، وضد الاستيطان اليهودي في منطقة القدس. ويُسجّل أمين في مذكراته تفاصيل أحداث تلك السنوات وما لاقاه عبد القادر الحسيني من لامبالاة الزعماء العرب وحتى زعماء فلسطين، ورفضهم مدّ يد المساعدة له وتزويده بالسلاح عندما ذهب إليهم في الشام، وقابلهم وبيّن لهم خطورة الوضع وأهمية توفّر السلاح. لكن الرفض والسخرية والاتّهام كان ردّ الزعماء العرب على عبد القادر الحسيني، مما جعله يعود منكسرا يائسا واعيا لما قد تؤول إليه حالة البلاد.
وكان الذي توقّع، فقد استطاعت القوّات اليهودية المدعومة من جُند الاحتلال الانكليزي أن توسّع سيطرتها على مساحات كبيرة من البلاد، وأن تحسم الحرب بعد استشهاد عبد القادر الحسيني يوم 7 نيسان 1948 في القسطل، حيث قامت بهجوم كبير وكاسح احتلت على أثره كل المنطقة القريبة من القدس. وكانت مقدمة لسقوط كل البلاد فيما بعد.

الواقع تحت حراب الاحتلال الإسرائيلي
أرادت نضال، بطلة سحر خليفة، أن تؤكّد منذ البداية أن عودتها للبيت والوطن كان عن إدراك وإصرار ورغبة في التحدّي والبقاء والاستمرارية في الوجود. "أجد نفسي الآن بلا صاحب وبلا مأوى. بقيتُ مثل السيف فردا. إن كان الأهل رحلوا مثلي، وأنا رحلتُ مثل الباقين، مَن ظلّ هنا؟ ما ظلّ هنا سوى هذي الدار. لهذا عدتُ ، هنا من جديد، لأجعل من الدار، دار العيلة، بيتي الأول هو بيتي الأخير، جاليري، متحف، صور ورسوم وبراويز، مثل المعرض."(ص15)
وتمحور اهتمام نضال بما حدث في الماضي، وذكر هذه الأحداث التي جرت، وقصّة الناس الذين كانوا يعيشون فيها، لم يصرفها عن نقل صور ومشاهد لما كان يجري.
اهتمت سحر أن تنقل للقارئ على لسان ياسمين جارة نضال صورا عن حالة البلاد والناس تحت الاحتلال الإسرائيلي. "كانت تحكي عن الحواجز والإغلاق، والفقر والهمّ وإسرائيل. دار أبو حمدان نسفوها، ابن البقّال مرمي في السجن من عشر سنوات، بنت المعتوق اعتقلوها مع جوقة شباب معهم ديناميت، نسفوا دار أبوها ونسفوها، يعني حبسوها عشر سنين." (ص63).
وتروي ياسمين ما حدث "الليلة اشتباك عند الجامع. دخلوا الزقاق بالجرّافة وبعدين لحقتها المركابا. المركابا يا جارتنا أعلى من الدار. عمرك شفتيها المركابا؟ المركابا لمّا تمرق أشوف الجندي رأسه براسي، رأسه أعلى من العليّة، يعني المركابا يا جارتنا أطول من الدار، أطول وأعرض، وتهدّ الدار. عمرك شفتيها المركابا؟.(ص76). وكيف أنّ الشباب كانوا في حالة ثورة دائمة ضد جند الاحتلال مما كان يستدعي فرض الحصار ومنع التجوّل على فترات متقاربة.
ونقلت على لسان ياسمين بعض مشاهد من أيام الانتفاضة وكيف كان الشباب يُقاتلون المحتل، ويواجهون العملاء والوشاة من بين أبناء شعبهم. "دارك أنتِ. كانت مهجورة ومفتوحة. شباب الانتفاضة كسروا الشبابيك ونزعوا الحديد ودخلوها. نزلوا في القبو يناموا هناك ويحاكموا هناك ويُعذّبوا هناك. بأوّل انتفاضة كنّا نبعث لهم بيض وجبنة، ومرّات صينيّة مقلوبة ومرّات كفتة. لكن بعدين لمّا صاروا يحاكموا فيها خفنا منهم. صرنا ما نقرّب عليهم ولا نتجرأ نحكي معهم، لكن نسمع، نسمع صياح، نسمع كرابيج ومسبّات، ونسمع الجيش يقتحم الدار. اقتحموا داركم ثلاث مرّات. أمي خوّيفة ومريضة، ستّ كبيرة، خايفة على حالها وعلى دارها، خايفة من السلطة ومن حماس، وخايفة من اليهود ومن العملاء" (ص64-65).