عرض مشاركة واحدة
قديم 08-05-2010, 03:46 PM
المشاركة 33
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: يبلغ لمن يهمه الأمر
عازف التشيللو السيراجيفي

ترجمة وليد زين العابدين / منابر ثقافية
منبر الاداب العالمية




مشى الموسيقار على المسرح بينما كان التصفيق يصم الآذان , في زي العازفين التقليدي الأسود انحنى للجمهور , وجلس على كرسيه وأمسك بآلة موسيقية , يمكننا القول إنها آلة تشيلو قديمة خمرية اللون . ما هي إلا دقائق حتى بدأت الموسيقى تنساب .
كانت يوغسلافيا السابقة قد تمزقت في عام 1992 بحرب عرقية , ومدينة سيراجيفو الجميلة والعريقة , بكل ما تملك من غنى بالمسارح والفن التقليدي , قد تحولت إلى عاصمة أوربا الجهنمية .
في الرابعة مساءً من يوم السابع والعشرون من أيار من ذلك العام , وبينما كان بعض سكان سيراجيفو يصطفون بصبر أمام آخر الأفران في المدينة . سقطت قذيفة مدفعية في وسطهم , مخلفة اثنان وعشرين قتيلاً . العازف الشهير سمالوفيك نظر من النافذة ليجد اللحم والدماء والعظام والدمار وقد انتشر في المنطقة , عندها عرف بأنها اللحظة التي لا يمكن له أن يبقى صامتاً بعدها .
سمالوفيك كان في السابعة والثلاثين في ذلك اليوم , كان معروفاً بكونه عازف تشيللو موهوب في الفرقة السيمفونية الوطنية وعدد من الفرق الموسيقية الأخرى التي كانت تملأ مدينة بالعودة إلى تلك الفترة يصف سمالوفيك نفسه ومجتمع سيراجيفو بالساذج والبسيط , فقد كانوا على ثقة تامة بمجتمعهم ووحدته , وعندما كانوا يشاهدون الحرب الأهلية المستعرة في باقي ولايات يوغسلافيا , كان لديهم يقين بأن ذلك لن يحدث في مدينتهم , فمجتمع سيراجيفو متين موحد غير قابل للدمار , ولكن ذلك الحلم كان قبل 1992 .

سيراجيفو قبل عام 1992 .
شعر سمالوفيك بالغضب والعجز لما كان يجري من حوله, فهو لم يكن سياسياً ولا جندياً , كان مجرد عازف . وآنى لعازف أن يفعل شيئاً في الحرب ! ولكن هل كونه عازفاً موسيقياً يعني أن يقف مكتوف الأيدي ويشاهد الناس يموتون أمامه ؟ هل يعني أن يبقى خائفاً على حياته طيلة الوقت ؟
وهكذا وبعد المجزرة الرهيبة , وعند الساعة الرابعة من مساء كل يوم , كان سمالوفيك يسير إلى وسط الشارع حيث وقعت المجزرة . بزيه التقليدي وكأنه ذاهب للعزف في عرض مسرحي حي, كان يجلس هناك على كرسي صغير في وسط الفوهة التي حفرتها القذيفة القاتلة , وكان يعزف الموسيقا بآلة التشيللو , وكان يستمر بالعزف رغم أن القذائف والرصاص كان يتطاير في كل مكان من حوله, إلا أن صوت الموسيقا في داخله كان أقوى من كل أصوات الرصاص والقذائف والدمار .
لمدة اثنان وعشرون يوماً , في ذكرى ضحايا المجزرة الاثنان والعشرون . سمالوفيك عزف في نفس المكان , للبيوت المدمرة , للنيران المستعرة , للناس الممزقين المختبئين في أقبية المباني , عزف لكرامة الإنسان والتي كانت أول ضحايا هذه الحرب . وبشكل غير محدد فقد عزف للحياة والسلام , للأمل الذي ينبثق من أحلك ساعات الظلمة . وكجواب على سؤال أحد الصحفيين فيما إذا كان العزف وسط القصف جنوناً أم لا ؟ أجاب سمالوفيك : تسألني إذا كان عزف التشيللو جنوناً ؟ لماذا لا تسأل إذا ما كان قصف سيراجيفو هو الجنون .
استمر سمالوفيك بعزف موسيقاه حتى كانون الأول من عام 1993 , في المقابر وأماكن القصف تحت شعار " صلاة موسيقية يومية من أجل السلام " . وهكذا أصبح رمزاً للسلام في البوسنة .
الملحن الإنكليزي ديفيد وايلد أُخِذَ بهذه القصة المؤثرة , فألف مقطوعة موسيقية خاصة بآلة التشيللو منفردة وسماها ببساطة " عازف التشيللو السيراجيفي " حيث سكب فيها أحاسيسه الخاصة من تقدير وحب وأخوة اتجاه العازف فيدران سمالوفيك .

عازف التشيللو الشهير Yo Yo Ma عزف هذه المقطوعة في مهرجان التشيللو الدولي الذي أقيم في مدينة مانشيستر الانكليزية في عام 1994 .
عازف البيانو بول سوليفان كان حاضراً هذا المهرجان وقد وصف هذا المشهد كالآتي : بهدوء تام وبشكل تدريجي بدأت الموسيقا بالانسياب في جو القاعة الساكن . محدثة حالة من الوهم , الفراغ الكوني , والشعور بملامسة الموت , وأخذ صداها يتردد حيث بدأت ترتفع الموسيقا بشكل مضطرب بالتدريج لتصبح عويلاً وصراخاً لامسنا جميعاً وسيطر على أحاسيسنا . لتنتهي المقطوعة بصمت يشبه الموت , بدءاً من الصمت الذي بدأت منه .
عندما انتهى Yo Yo Ma من عزف المقطوعة بقي صامتاً , منحنياً فوق التشيللو بخشوع , لم يتحرك أحد في الصالة , الصمت كان مطبقاً لفترة طويلة , وكأننا قد شاهدنا لتونا المجزرة الرهيبة أمام أعيننا . أخيراً , وبصمت وهدوء استوى Yo Yo Ma في كرسيه ونظر إلى الحضور ماداً يده باتجاهنا , كل الأعين اتجهت حيث دعا أحدٍ ما إلى الصعود إلى المسرح , وكأن صدمة كهربائية عارمة قد اجتاحتنا عندما أدركنا من كان المدعو , لقد كان فيدران سمالوفيك , عازف التشيللو , عازف سيراجيفو . استوى واقفاً ومشى عبر الممر في الوقت الذي نزل فيه YO YO MA عن خشبة المسرح ومشى باتجاه فاتحاً يديه , وتعانقا بشكل مؤثر وعاطفي تماماً بجانب مقعدي .
المشهد كان لا يصدق , كل واحد من الحضور وقف بذهول , بحالة من الاضطراب العاطفي , يصفقون , يصفرون , يهتفون , يبكون وسط شعور بالغبطة والتأثر . كأن موجة مد عاطفية قد اجتاحت الجمهور , كانت الأصوات عالية لدرجة كبيرة . ووسط كل ذلك كان يقف الرجلان متعانقان , ينتحبان بدون خجل .
Yo Yo Ma أمير العزف الكلاسيكي الأكثر شهرة عبر العالم , كان بكامل أناقته وصحته , وإلى جانبه فيدران سمالوفيك الناجي من مجازر سيراجيفو , مرتدياً معطفاً من الجلد البالي والممزق , مع إشارة ما وضعت على ذراعه , بالإضافة إلى شعره الطويل وشاربه الضخم , كل ذلك أوحى بسنوات طويلة من الألم والجراح المصاحب لدموع لا يمكن حصرها .
بعد سنوات من موقفه البطولي المعادي للحرب , سمالوفيك استقر في بلفاست في إيرلندا . حيث يؤلف ويعزف الموسيقا وينتجها على مستوى محلي وعالمي . ولكن الرسالة التي تحملها قصته أعظم بكثير من الرجل الذي صنعها .

الفيلسوف الأمريكي روبرت فولكهام يقول في كتابه الذي يسمى على ما أعتقد ( تأملات أخرى من حياة خاصة ) : " اسمع , لا تأسف أبداً لاعتقادك يوماً بأنه عندما يقرر شخص ما بمواجهة العالم بالحقيقة , فإن العالم سيصغي له ويتوقف . هناك الكثير من الأدلة على عكس ذلك . ما أن نتوقف عن اعتقادنا ذاك حتى تتوقف الموسيقى بكل تأكيد . إن أسطورة الأحلام المستحيلة أقوى من كل حقائق التاريخ . في مخيلتي أضع الزهور على النصب التذكاري الخاص بفدران سمالوفيك , هذا النصب الذي لم بينى بعد , وهذه اللحظة لم تأت بعد , ولكن ربما تأتي "