عرض مشاركة واحدة
قديم 06-15-2012, 11:48 AM
المشاركة 19
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
التصوف كبنية روائية


نبيل سليمان


بعدما فعلت الصوفية فعلها في التراثي والحداثي من التجربة الشعرية العربية، أخذت تفعل فعلها في التجربة الحداثية الروائية، عبر العقدين الماضيين. ويمكن للمرء أن يميز هذين التعبيرين عن ذلك الفعل:
1-التعبير الثقافي: حيث يكون لعلامة أو أكثر من علامات الصوفية، حضور أكبر أو أصغر في الرواية، سواء في اللغة أم في روحية بعض الشخصيات وممارساتها. ومن هذا القبيل تبدو رواية الطاهر وطار (الحوات والقصر)، حيث جعل للصوفية قرية باسم (التصوف) ترسم لحظة دينية ومعيشية من بين لحظات القرى السبع. ومثال (الحوات والقصر) يعود إلى مطلع الثمانينات حين بدأ الفعل الصوفي في الرواية يتواتر. أما مثال رواية (فردوس الجنون) لأحمد يوسف داوود، فيأتي في نهاية التسعينيات ليقدم شخصية الراهب سليمان كتعبير ثقافي عن الفعل الصوفي. فالراهب سليمان الذي كان أستاذاً للفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت، يعتزل في صومعة وفي الفيلا مع الكتاب الهندوسي (المنو سمرتي) والحلاج وابن عربي والمعري والسهروردي، ليغدو قناة الكاتب الفلسفية والصوفية. وثمة تعبير آخر في هذه الرواية عن الفعل الصوفي جاء في بعض حالات الجنون التي ترسمها، كحالة (الجنون المحترم)، أي أن تقفز بين العوالم وتعلن عن روحك، حتى لو لم تقل إلا الكلام الذي تفهمه وحدك.
وقد يكون التعبير الثقافي عن الفعل الصوفي في شخصية المرأة، حيث يتلامع الاتحاد والحلولية، كما في رواية سليم مطر كامل (امرأة القارورة) ورواية (النعنع البري) لأنيسة عبود ورواية (هشام) لخيري الذهبي، ورواية (فردوس الجنون) أيضاً.
2-التعبير الكلي: إذا كان الفعل الصوفي في التعبير السابق يظل محدوداً أو خارجياً أو عابراً أو استعراضياً، فهو في حالات -روايات التعبير الكلي يغدو فعلاً بنيوياً حاسماً وشاملاً، يعني البناء واللغة والشخصية والدلالة وسائر ماتقوم به الرواية. وإذا كانت رواية (رامة والتنين) لإدوار الخراط قد أعلنت عن ذلك عام 1980 بامتياز، فقد أسرعت الثمانينات بكتاب (التجليات) لجمال الغيطاني. وربما كان التعبير الأكبر التالي في رواية وليد إخلاصي (باب الجمر) وفي أغلب ما تلا من روايات الغيطاني والخراط.
لقد بات لعناصر التجلي والكشف والحب والنفي والجسد والكوني والخلود والاتحاد والحلول والمعرفة والحق وسواها من عناصر التجربة الروحية الصوفية، فضلاً عن التعبير الفني عن هذه التجربة، بات لذلك كله فعله العميق في البنية الروائية وفي الشخصية الروائية. وإذا كانت شخصية (محبة الجمر) في رواية وليد إخلاصي (باب الجمر) تجسد بعض ذلك، فإن أغلب روايات إدوار الخراط وجمال الغيطاني عبر
الثمانينات والتسعينيات تجسد كل ذلك. وهاهي هذه العنوانات للغيطاني تؤكد المثل القائل (المكتوب يقرأ من عنوانه): (رسالة الوجد والصبابة، دنا فتدلى، خلسات الكرى، شطح المدينة)، فضلاً عن (كتاب التجليات). ولأن هذه المقاربة ستركز همها في ثلاثية (رامة والتنين) لإدوار الخراط، وبخاصة في جزئها الأخير (يقين العطش) والصادر عام 1996، فسأكتفي بالإشارة إلى ما في (خلسات الكرى) من أمر الأنثى الصوفية التي تتعدد أسماؤها وصفاتها: الباسقة، النغمية، الروية، الشهابية، الملكة، الثريا، السنبلة، الجوهرة، البلبلة، المتكوكبة، والأنثى المجرة. وبينهن "الوافدات عليّ من حيث لاأدري، من لم يسعين قط في عالم الحسّ".
هذه الأنثى الصوفية كونية الجمال، شيرازية الطلة، بابلية العينين، قاهرية المدى، قرطبية الضمة، سكندرية النسيان، أرضية الغواية، مجمع للآفاق. ولأنها كذلك يغدو فضاء العمارة جسداً أنثوياً، وتتوحد الأنثى بالموسيقى في الوشاح الصوفي، ويكابد الراوي الذي يحمل من سيرة الكاتب كثيراً، يكابد الشجن والمقامات والآنات والنشيج المكتوم والطرب. وهو منذ مفتتح الرواية يحمل من طفولته في قريته (جهينة) ذلك (التحنين) الذي تصدح به نساء القرية قصد إثارة الأشواق إلى أرض يثرب ومكة. أليس للرواية إذن أن تصدح بنداء النظام والشيخ الأكبر ابن عربي؟ لقد ضيّع الراوي تلك المراكشية، وكاتبه مريد بامتياز لابن عربي، فليكن هذا النداء الصوفي لتلك الأنثى الصوفية، وليرمح الخيال الصوفي بالعبارة كيما تقوم (خلسات الكرى) كرواية، ولكن من دون أن تستأثر مع ماسبقها، وماتلاها من روايات الغيطاني، لابعالمه الروائي ولا بأسلوبيته، كما تدلل بقوة روايته (حكايات المؤسسة)، وبخلاف ماغلب على التجربة الروائية لإدوار الخراط منذ أسرته (رامة) عام 1980.
***
بعد ستة عشر عاماً من صدور (رامة والتنين)، باتت ثلاثيةً، بصدور الجزء الثاني (الزمن الآخر) والجزء الثالث (يقين العطش). وفيما كتب الخراط من روايات أخرى، عبر ذلك، كان للصوفية القبطية والإسلامية بخاصة والكونية بعامة، فعلها الأكبر. ولئن كان التعبير الثقافي عن هذا الفعل هو ماغلب على الروايات الأخرى، فالتعبير الكلي عن هذا الفعل هو ماحكم الثلاثية، عبر شخصيتها المحورية (ميخائيل)، وفيما عاشت من تجربة الحب لرامة.
بالطبع، وكما يليق بالصوفي، جاءت رامة امرأة استثنائية. ومنذ الجزء الأول الذي ناصف اسمها عنوانه، ترسمها الرواية هكذا: "المرأة الإلهية العرافة الطفلة الضاحكة الحارة التعسة، العابثة الداعرة القديسة العذراء الأبدية...". إنها امرأة لم تكن من سلالة البشر، لا نهاية لها الآن وأبد الدهر، وميخائيل الذي يراها غريبة يراها أيضاً جزءاً منه، لا انفصال له عنها.
هذه الممرضة التي تقرأ اللغات القديمة وتكتب الروايات وتعمل في ترميم الآثار وتطوي عشاقها -وتلك علامات سيرتها في الثلاثية الروائية- تومض في حياة ميخائيل وتختفي، تنقضها وتقيمها، فيهتف "أحبك حباً كاملاً، نهائياً، دون تحديد". ويرسم ميخائيل هذا الحب كجوهر ومطلق. ومنذ هذه البداية في الجزء الأول سينفي ميخائيل -شأن الصوفي- أن يكون الحب من قبيل الكفاءة، أو عدمها، فليس فعل الحب هو الموضوع، بل الحب نفسه. وسنقرأ في (يقين العطش) أن "الحب ليس هو -وحده- أبداً، فهو "دائماً شيء آخر، بل تتجسد فيه دائماً أشياء كثيرة أخرى، ملتبسة، من معاني الحياة نفسها، بل الوجود". كما
سنرى ميخائيل في الجزء الثالث ينفي معرفته بالحب، ويقول: "لعلني أحب الحب نفسه، بشكل ما، على طريقتي الخاصة، ولعل معرفتي الوحيدة أنني أحبك".
لقد افتتح الجزء الأول بالتوكيد على أن الحب هو الشيء الوحيد الذي لايحتاج إلى تبرير، بل يأخذ ويعطي دون سؤال. كما أسرع هذا الجزء بالسؤال عما إذا كان الحب هو هذا النداء الذي لا رد عليه أبداً، ولاينقطع. وسيلي أن الحب "عرامة شوق للحياة، لا تنطفئ أبداً، إيمان كلي بأن الإنسان لايمكن أن يظل وحيداً، وأن الحب ليس كذبة". بيد أن ميخائيل كان قد رأى الحب لعبة، وسيراه فيما بعد كذبة، وهو الشهوة العارمة للخلاص من الوحدة. ويتوسل ميخائيل للتعبير عن حبه العديد من المتناصات الصوفية، فهذا شاعر صوفي يقول:
أرى الأيام صبغتها تحول

وما لهواك في قلبي نصولُ
يخاف من النوم من كان حياً

وإني بعدكم رجل قتيل

وهذا آخر يقول:
فما حال في سري لغيرك خاطري

ولا قال إلا في هواك لساني

وهذا أبو منصور الحلاج يقول: "حويت بكلي كل حبك". وهذا القديس أوغسطينوس يقول: "بحثت عن الحب، في الحب، مع الحب، وكنت أمقت الأمان". وتتوالى الأقوال: "تحمّل قلبي مالا أبثه، وإن طال سقمي ومكنون إخباري"، "من لم يمت في الحب لم يعش به"، وأخيراً، وليس بآخر، هذا ذو النون الإخميمي، (بلديات) ميخائيل وإدوار الخراط، يقول: "أعرف الناس بمحبوبه أشدهم تحيراً فيه".
تلك بعض المتناصات في "يقين العطش"، وقد أشار الكاتب في نهاية الرواية، بصدد سائر المتناصات، إلى أنه لم يثبت مظان مااقتطف من تراث الصوفية والشعر المأثور والصحف اليومية، لأنه عدّها من نسيج الرواية. كما حرص الكاتب على أن يكتب بيت الشعر العمودي، حيثما ورد، بلا فصل بين الشطرين، توسّلاً شكلياً منه لمآل المتناصات -كقطبة- قُطَب من نسيج الرواية، فيما أحسب.
والمهم الآن أن ذلك الحب الصوفي من ميخائيل هو لرامة، لذلك كانت كما مر بنا امرأة استثنائية. لكن رامة امرأة من لحم ودم، جسد متعيّن، فكيف رسم الصوفي هذا الجسد؟
إنه الجسد الغني الوثير، القديم قدم الأزل، المتقلب بطينه، المتوفز بالشباب الغض، المتفتح بالرغبة الدائمة. ومن هذا الرسم في بداية الثلاثية إلى منتهاها يتساءل ميخائيل: هل الفيزيقية المباشرة الصريحة، هل الجسدانية البحتة هي النقية الخالصة لذاتها وبذاتها؟ وبقول ميخائيل، فإن عبادة رامة للجسد تجعلها مقدسة ونقية وإلهية: "أحسّ في هذا التمجيد غلوّ العابدين الذي يشارف الكفر، أو أن فيه سنتمينتالية لم تعد مقبولة في هذا العصر"؟ وكذا، فليس هناك غير الجسد، والجسد جميل، لكنه ملتبس، وجسد رامة خالص الجسدانية، لكنه غير مصمت، غير خالص الوحدانية، أما جسد ميخائيل فغريب "عصي عليّ، غير مطاوع، جامد مفصوم".
هذا إذن جسد المحبّ، وذاك جسد المحبوب الذي هو جسد العالم. والجسد الذي يعنون فصولاً في الرواية (جسد ملتبس -جسد طعين- جسد غامض الوضاءة: يقين العطش)، ينهض فيها برمتها جسداً
صوفياً بامتياز، على الرغم من الإلحاح على الوصف الفيزيقي والفعل الجنسي، فهذا الإلحاح محكوم بالحب الصوفي، وعلاقة الجسدين صوفية، أي أنها علاقة اللذة والألم، العلامة التي تنهك الجسد، وتتجاوزه، وتدغمه في جسد الكون، ليكون وصال الجسدين واتحادهما، اتحاداً بالكون.
غير أن هذا الوصال ملفوع بالألم واللوعة، ولحظة الفقدان كما نقرأ منذ البداية لا تنتهي، وإذا كان ميخائيل يخاطب رامة هاهنا: "أنا وأنت وقد أصبحنا نحن "فشوق الحب لا ريّ له، والعالم معجون بالألم. وفي (رامة والتنين) يعبر ميخائيل من جديد عن النحن التي اتحدت فيها الأنا والأنت باعتبار الأساس هو التوحد: "ألا يكون هناك الأنا والآخر، ألا يكون هناك اثنان، بل واحد، عطاء متبادل كامل وأخذ متبادل كامل". وفي الآن نفسه يقوم النفي، فنظرة رامة لميخائيل، كما يعبر، ليس فيها حب ولا بغض: "بل مجرد انقطاع لكل صلة، ونفي حتى للنفي نفسه، نظرة كائن من عالم آخر، ليس علوياً ولا سفلياً، ولا يحاذيني ولا يتجاوزني ولا يضمني ولا ينفيني فأعرف أنه النفي إلى أبد الآبدين"؟ ويخاطب ميخائيل نفسه قائلاً: "أنت عندما تفقد شيئاً تعرف أنه لن يعوّض، ولا يعوّض، وترفض مع ذلك، ترفض هذا الحس بالفقدان".
إنها علاقة من الوجد والاتحاد والانفصام والألم والفقدان والنفي، ليس لأن المحبوب غير معني بالمحب، بل لأن المحب لايروم سوى علاقة كهذه. وتلك هي الجملة الأولى في "يقين العطش": "كان حسه بالفقدان الذي لايعوّض عميقاً". وسيوالي التنازع بلا كلل، فميخائيل ينقض ما أغفل، وينفي ما أثبت، والحب قائم في وجه كل نقض، غير أن النفي لا يزول، وهاهو العاشق الصوفي يسائل معشوقته: "وكان فيك تلفي، فهل كان فيك -أيضاً- بقائي؟".
ولأن قارئاً قد يعاجل هذه العلاقة بالرومانتيكية والنوستالجيا وربما بالمازوخية أوالسادية أو سواهما من التحليل النفسي، أياً كان مذهبه، فإن ميخائيل يعاجل أيضاً إلى نفي الرومانتيكية عن الألم الملازم ولعلاقته برامة، ويرى مرة أن الألم واقعة حسية فقط، ثم يرى أنها قد تكون واقعة روحية. وميخائيل يهجو الألم: إنه شيء خشن، شعث، غير جميل بأي معنى، لكنه يعايش الألم متلذذاً، فهل من عجب أن يردد مع القائل، في متناص جديد:
فقد جعلت نفسي على النأي تنطوي

وعيني على فقد الحبيب تنام

ومادام الارتواء الكامل هو يقين العطش، فماذا يعني أن يكون الحب الجسداني بين امرأة ورجل شرطاً للحوار الكامل؟ هل يقين العطش هو -كما يتساءل ميخائيل- الفناء وتحدي الفناء معاً؟ هل من يقين وعطش ميخائيل لايطاق؟
قد يكون من المفيد هنا أن يلتفت المرء إلى المدونة الصوفية، على الرغم من متناصات ثلاثية الخراط معها، من أجل إضاءة الصوفي في هذه العلاقة بين رامة وميخائيل، فمماطلة رامة وصدودها هي مما قال فيه ابن الفارض:
عديني بوصل وامطلي بنجازه

فعندي إذا صحّ الهوى حَسُنَ المطلُ

والحب لدى ميخائيل هو مما قال فيه ابن عربي: "الحب يزاوج بين طلب الفناء وطلب البقاء... يدعوك إلى طلب المشاهدة فيفنيك عنك، ويدعوك إلى طلب إمساك الأمر فيبقيك معك" (كتاب الحجب). وكتابة جلّ الرواية في وصف رامة هو مما قال الجنيد في المحبة: "دخول صفات المحبوب على البدل من
صفات المحب". ولوعة ميخائيل هي مما قال فيها محمد بن سوار بن إسرائيل:
وهل تتحمل النكباء مني

إليهم حاجة القلب الكئيب
فتخبرهم بحفظ الود عندي

وإن أضحى صدودهم نصيبي

فلنمض الآن إلى الفعل الصوفي في الزمن الروائي وفي الفضاء الروائي، حيث سيترجع في منتهى ثلاثية الخراط صدى البرهة الطللية في القصيدة الصوفية، فتقرأ: "هذه الأطلال صروح مازالت شامخة وقائمة الأركان، حتى إن كان أهلها قد رحلوا عنها. رامة مازالت. ليست رسماً دارساً طوحت به عاصفات الليالي، بل هي حضور،". ويتوج فصل "جسد ملتبس" من "يقين العطش" هذا البيت لجرير:
حيّ الغداة برامة الأطلالا

رسماً تحمّل أهله فأحالا

ولاينسى ميخائيل أطلال رامة على طريق بيت اللّه. ولعمري، كان قميناً به أن يردد خلف ابن سوار أيضاً:
سلام قد تضمّن كل طيب

على جيران رامة والكثيب

تستدعي البرهة الطللية ما انقضى، منتكبةً الحاضر، ولائبةً على المستقبل الذي يعيد الماضي. وهذا القوام الزمني هو ماتأخذ به الرواية، فالحاضر يظل باهت الحضور وضامر الفعل، يظل كحاضر الصوفي قفراً وكآبة وانكساراً، هكذا تبدو التسعينيات المصرية في "يقين العطش" عبر ماترسم من الأحداث الطائفية في المنيا أو من تهريب الآثار وترميمها. وقد تكون الاستدارة عن الحاضر في الجزء الأخير من الرواية أقل أو أصغر منها في الجزأين السابقين، لكن العين تظل لائبة على كل حال خلف "الزمن الآخر". وهكذا يقوم بناء الرواية على الفصول الطويلة التي تستعيد ماعاش ميخائيل ورامة، بالتزاوج المحدود مع لحظة ما من الحاضر، وبالنشدان بين حين وحين لمستقبل يتجاوز الوجود الشقي (الحاضر) ويعيد الماضي السعيد والفردوس المفقود.
ربما تشي لعبة الزمن هذه في ثلاثية الخراط بالتزامن والتكسير والاندغام بين الأزمنة التي يقوم بها زمن الرواية في التجربة الحداثية بعامة. لكن الثلاثية تكتفي من ذلك بأهونه، شأن القصيدة الصوفية. فمزاوجة خطي الحاضر والماضي، مع غلبة الأخير، ومناوشة المستقبل لماماً، هي ديدن الثلاثية التي لاتغيب عنها الرحلة أيضاً، شأن القصيدة الصوفية، سواء أكانت رحلة في الفضاء الطبيعي والعمراني والآثاري، أم كانت رحلة روحية ومعراجاً.
يقول ميخائيل إن قضيته هي أن الماضي لاينقضي. ويقول أيضاً إن الرحلة عنده متصلة في عتمة ضاربة الضوء وسرية، وليست مراحل. وفي (حركة) ترميم الآثار في مآل الثلاثية يعد ميخائيل الترميم كذباً. والفن كذباً، لأنه تجميل، والأصل بكل خشونته أو بهائه أو بكارته، لن يقوم. وللماضي، للأصل الذي لايستعاد مهما بذل الباذل، جماله الخاص الذي لاينبغي ولايجوز إصلاحه أو تعديله أو إعطاؤه صورة مغايرة، مهما كانت مشابهة أو مقاربة، أو حتى مطابقة، لأنها ليست الأصل.
تثبيت هو للماضي إذن وتمجيد، ويأس من الاستفادة يضارع ويصارع نشدانها. إنها المأساة التي تلفع الوجود، فلا يكون لميخائيل سوى أن ينقذف في الكوني، كصوفي حيث الفضاء الطبيعي، والخلود، وحيث
الحق. وتلك هي السيرورة الصوفية للرواية في الزمان والمكان، فالماضي والحاضر والمستقبل طيّ الخلود، والبيوت والفنادق والمناطق الآثارية والحدائق والشوارع.. طيّ الفضاء الأكبر: طيّ الفضاء الطبيعي.
في الجزء الأول تحضر الصحراء اللانهائية والنيل والورقة والغصن والحمامة وموجة الزمن الزرقاء الخضراء والزرقاء الثابتة، ويحضر وجه رامة الماثل أبداً في الزمن. وإذ تأخذ ميخائيل صدمة كشف تتفجر تلك العناصر في الفضاء الكوني، فإذ برامة كالكون كله، فيها قبس من كيان متقد متسام وإلهي، وحكايتها مع ميخائيل هي حكاية كونية إلهية، وهما يضربان في عالم خاص قد تحرر من القيود ومضى في طريق بهجة كونية من الحرية والطاقة المبذولة بسخاء.
يسأل ميخائيل محبوبته: "هل تظنين أنك أنت -الحقيقة- موجودة في قلب هذا التيه.. هل تظنين أنك أنت موجودة في كل عالم من هذه الأفلاك التي تتماس، ولكن لا تتداخل، تتساوق ولكن لاتتقاطع أبداً، في كل عام، وحده، من هذه التي تدور، غريبة كل منها عن الآخر".
هذا السائل هو عينه من صاغ من رامة امرأة خالدة، وخاطبها: "أنت محدودة ومحددة، دانية البحث عن كمال ما، مفقود، وكأنك كاملة، وكأنك خالدة لاتموتين". ورامة تتناسخ من قميص إلى قميص، فهي إيزيس إلهة الحب القديمة والأولى والدائمة، هي العذراء وأم موريس، وأم المسيح وسنتا الطاهرة وعشتروت وهيرا وديميتر وأفروديت، هي جماع المريمات، والجوهر غير الفاني (رامة والتنين). ورامة هي نعمة، حوريس، حتحور، ليليث، إينانا الأميرة ميريت، بنت الملك رمسيس الخامس، زهرة القمر المنير، محظية السماء، محبوبة رع، أم الإله، بنت رع... (يقين العطش). وأياً كانت أسماؤها، فهي ذات ميخائيل الأخرى كما يجهر.
لكنه أيضاً يرى الأبد كلمة لامعنى لها، والبحث عن الدوام صبياني وبدائي قليلاً، ويخاطب نفسه: "أنت ترى نفسك ميتاً، وتعيش مع الموت، تعيش الموت، تحمله معك، تصبر عليه، وتعانيه، أنت تحمل ميتاً في داخلك، والميت هو أنت أيضاً، قبر متحرك يواري هذا المدفون من غير عطاء ولاكفن".
المحبوبة خالدة إذن والمحب ميت. والخلود والموت، أو الفناء بحسب الإيثار الصوفي الذي يردده ميخائيل، وهو القائل باشتياق الجسد إلى الفناء في الجسد الآخر. إنها أبدية الحب الصوفي التي تتشظى في ثنائياته الشهيرة: الحياة والموت، البقاء والفناء، الجسد والروح، المحب والمحبوب، الهجر والوصال، النقصان والاكتمال، والسلب دوماً في الذات المحبة، والإيجاب دوماً في الذات المحبوبة. وبالطبع، لامكان للمنطق ولا للعقل في هذه المعادلات -الثنائيات، فميخائيل الصوفي يخاطب رامة "لا أحب المنطق. هنا لا أحب العقل"، والطريق سالكة إلى الجنون، وأولها الخمر والسكر.
في (رامة والتنين) حوار مطول بين الحبيبين حول الدونيزية بعامة، وفي ميخائيل بخاصة. والخمر بصنوف لاتحصى لايكاد يغيب عن لقاء الحبيبين، فالنشوة حد الجنون مطلوبة، والجنون غاية ووسيلة، بالخمرة وبدونها. كذلك يتساءل ميخائيل وهولات الجنون جراء علاقته برامة، تصفعه: (هل أنا أجن؟).
لقد سبق النوري إلى القول "العقل عاجز لايدل إلا على عاجز مثله". وسبق ابن عربي إلى أن عدّ الجنون سقف المعرفة في حديثه عن عقلاء المجانين. وهاهو ميخائيل يتقفى هذه الدرب الصوفية، حيث ثنائية العقل والقلب، وصولاً إلى الحق والمعرفة بالرؤيا.
يقول ميخائيل في الجزء الأول مخاطباً رامة: "المعرفة المحرقة هي معرفة من أحب. هذه هي المعرفة، فيم تفكرين؟ كيف تحسين؟ ماذا تقرأين؟ بم تحلمين؟ كيف تتنفسين حتى؟ ماخطاباتك، رؤاك، هذياناتك المخبوءة؟ ماذا في حقبيتك؟ ليس هذا فضولاً، والمعرفة ليست الملكية ولا السيطرة، هي الحق، وحدها، هي الحب". وهذا الحب -الجنس- المعرفة يملأ كل فجوات الماضي والمستقبل، من كما يضيف: هذا الحب ليس تملكاً ذكورياً ولا انتهاكاً للمحبوب، كما سيلي في (يقين العطش)، فميخائيل يرى نفسه مقوماً أساسياً من مقومات جسد رامة. ولئن كان في "رامة والتنين" يرى الحق انهداماً للأسوار وتدفقاً لمياه الحياة المختلطة، فهو في "يقين العطش" يبدي ويعيد في التوله وفي التصوف بالعشق، وفي المطلق توقاً إلى " معرفتك معرفة شاملة في استضاءتك النورانية، وفي مباذلك الأرضية معاً، المعرفة الشاملة، الحب الكلي.
تلك هي الدرب الصوفية التي يحدو لها ابن عربي مرة، إذ يقول: "لو علمته لم يكن". ومرة إذ يقول: "سفور الحقيقة هو إفناء لكل عين سواها". وميخائيل في مضيه على هذه الدرب، شأنه شأن الصوفي، ستغدو عبارته تشبيباً بالمحبوب، وصفاً ومناجاة ومسائلة، وستكون مرة بعد مرة شطحاً، فالشطح -كما قال الطوسي- كلام ترجمه اللسان عن وجد، وميخائيل قد أخذه الوجد، فهو لاينطق عن ذاته، وإنما عما يشاهد، كما قال الجنيد في شطح الصوفي، والمشاهدة هي للمحبوب الذي حدده الجنيد باللّه، وحدده ميخائيل برامة جسداً ورمزاً.
لقد تخللت لغة الرواية حوارات بالعامية ومفردات ومتناصات، مما وشى بتعدد مستويات اللغة، ولكن تحت هيمنة اللغة الشاعرية التي تصل إلى الدفق وغنة الغناء والإصاتة والهزج، حيناً بعد حين ، ولعلي لا أبعد إذ أعود إلى ماقال الشاعر الصوفي حسن رضوان في قول المتصوفة:
فإنهم أجلّ من أن تفتقر

أقوالهم إلى قياس مشتهرْ
أو اشتقاق إذ لهم قانون

ساروا به وسره مكنون
فلفظهم أقواله لاتفتح

إلا بذوق أو بكشف يمنح

فثلاثية الخراط لاتسير في نهج مطروق، وربما كان ذلك ما التبس على ناشر الجزء الأول في طبعته الأولى، إذ عده مجموعة قصصية. وهذه الثلاثية غير معنية بأن يغمض بعضها على قارئ. وقد التفت الخراط في هذا الجزء إلى صنيعه اللغوي والبنائي فقال: "ولعل هذا الدفق من الكلام ليس إلا جسراً رقيقاً لا قوام له فوق المهاوي الغائرة المظلمة والمفتوحة في عمق الروح القلقة والأحشاء المتقلبة بالهوى والمضض والاشتهاء والجنون". وفي مقام آخر يضع الخراط لعبته الروائية موضع التساؤل، فنقرأ: "ألا ترى أن هذا الشعر أو التصوف، أو مالست أدري، هو بتر وبتشويه لنفسك أو للعالم؟ ألا تجد زيفاً وزيغاً وكذباً مقصوداً أو غير مقصود. أبيض أو غير أبيض، في هذه الزخرفة الشعرية أو التصوفية أو مالست أدري؟".
هكذا جاء التعبير الكلي عن الفعل الصوفي في ثلاثية الخراط. ولعل هذا التعبير هو مادفع فيصل دراج إلى أن يصف لغة الكاتب بلغة المغترب المتعالي، أو مادفعه مع دوافع أخرى لأن يرى في هذا الشطر من التجربة الحداثية الروائية كهانة جديدة، بينما نعتها غالي شكري بالحداثة الكهنوتية. وفي زعمي أن التعبير الثقافي أو الكلي عن الفعل الصوفي في الرواية يمكن له أن يوفر ويتوفر على حفر في التراث
الديني غير الرسمي، وفي الذات، كما يمكن لهذا الفعل أن يشرع الأسئلة في الرواية على الكوني والإنساني عبر مفاصل الإيمان والموت والحب والجسد والطبيعة. فضلاً عن تطلب ذلك كله إلى لغة -لغات أخرى. بيد أن الأمر ليس بهذا اليسر، فالمزالق تحف بالدرب، ومثال الشعر ماثل للعيان، كما هو الأمر في تجربة إدوار الخراط، حيث وصل اللعب اللغوي إلى المجانية في مقاطع الدفق التي تتوخى جرس حرف ما (من رامة والتنين: حرف الحاء ص92- من يقين العطش: حرف الضاد ص215...). والأهم هو هيمنة الزمن الذاتي غير التاريخي على الزمن التاريخي، فمع هذه الهيمنة يتقدس الماضي، ويكون مايتعلق بالحاضر وبالمستقبل في الرواية تكأة للماضي واستعادة، وتتوحد الذات وتتضبب الرؤيا، فهل ستعيد الرواية سيرة الفعل الصوفي في الشعر وما آلت إليه هذه السيرة من تأزم في التجربة الحداثية، أم إن الرواية ستستطيع أن تجعل من الفعل الصوفي فيها فعلاً مخصباً؟