عرض مشاركة واحدة
قديم 05-22-2012, 07:44 PM
المشاركة 648
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الشعر ... وعد يستحيل انجازه
الناقد محمد العباس - 18.11.2006 - 07:07 pm

بقلم الناقد محمد العباس
الشعر هو المغامرة المستمرة ، إذ به يمكن، بل ينبغي تدمير الثقافة، وتدمير معابد التثقف للعودة إلى صحراء البداية ونقائها. هذا ما يستخلصه صلاح ستيتية الذي يعني بالثقافة، ذلك المصنّع والمعد المستثمر إجتماعياً خارج أي مغامرة فكرية، على اعتبار أن الشعر يرفض أي صيغة من صيغ التصنيع العاطفي أو الفكري أو حتى اللفظي، على العكس من الأدب الذي هو وليد الثقافة، وبالتالي فهو مثقل بالتمسرح الداخلي والحاحية الإقناع والإبتكار المزخرف.

من ذات المنطلق يفرق بين طريقين للشعر: أولهما رحب واسع، وآخر ضيق جداً. ذلك الواسع الأصح ربما قد يوصل إلى فسحات رحبة في العالم، لولا أن فسحاته تضيع المعنى الأساسي الذي يسعى إليه الشاعر الآخر، الذي يؤثر بدوره الطريق الضيق، أو المظلم الذي يؤدي بصاحبه إلى بلوغ شيء نادر الوجود، صعب واستثنائي يسميه " نور المعنى " أو السقوط إلى الهاوية كدرب موصل إلى الكنز، حسب تعبيره، حيث التيه في صحراء الجنون أو ما يشبهه.

أما الإبداع بوجه عام، فلا ينشأ من التاريخ أو من الظروف، أو حتى من العواطف والأحداث وحدها، إنما ينشأ من إبداع آخر، كما يتوجس ذلك هارولد بلوم في " قلق التأثر " فالشعر هو ابن الشعر، والفن هو ابن الفن، أو هكذا يلخص الشاعر صلاح ستيتية نظرية مالرو الواردة في كتابه " أصوات الصمت " ويعتنقها مؤكداً على أن الأشياء الأخرى إنما تأتي لكي تغذي العملية التحولية المستمرة.

هذا الرأي الذي يعتبر مفتاحاً لشعرية شاعر عربي يعتبر أحد أكبر الشعراء في اللغة الفرنسية، بشهادة دو موندرياغ، ليس الوحيد الذي يتبناه ستيتية من " الآخر " ففي حواره المطوّل مع جواد صيداوي، يبدو عرضة لأسئلة ذلك " الآخر " ومقولاته، واعتقاداته الإبداعية، في صيغتها الفلسفية والشعرية، وذلك في الكتاب الصادر عن دار الفارابي بعنوان " ليل المعنى - مواقف وآراء في الشعر والوجود " والمستمد من عبارة الموسيقار ماهلر " لست سوى نابلٍ يرمي بسهامه في الظلام ".
هكذا يعضّد كل رأي يبديه في الكتاب بمقوله لأحد أولئك المبدعين الذين صاحبهم في رحلة جمالية طويلة، أو استجلبهم من التاريخ، حتى عندما جادل القصيدة العربية استند إلى صورة مقتبسة من دراسة لغابريال بونور عن بيار جان جوف، حيث شبهها بالجرف الصخري الصلد المنحوت إلى درجة ظهور العنصر الفوسفوري في اللغة، أي الإنصهار الفذ لعدة مستويات من الواقع متحققة في المزيج ذاته، وموحدة بين التجربة والغناء، وبين العالم والقلب، إذ لم تعد وصفاً أو سجلا ً أو جرداً للسطح، بقدر ما هي عقدة من الطاقات المستهلكة، ليخلص إلى " أن القصيدة العربية تصبح إنغراساً حارقاً في القلب الأسود للواقع ". وعندما تحدث عن سر الإنجاز السريع والكثير لبعض المبدعين والروائيين العرب كان يرد عليهم بمقولة آلن روب غرييه الاستخفافية " القردة في كل مكان ".
أما حكايته مع التأثر أو التفاعل الإبداعي فتبدأ بالنصيحة التي تلقاها من غبريال بونور عندما كان في السابعة عشر من عمره، ومفادها ألا يحاول استكمال شخصيته على نحو متسرع " لأن الشخصية التي تتكون بسرعة تفقد الكثير من فرص التلقي وفرص تكونها على نحو أكثر شمولاً ". ومنذ تلك اللحظة التي استقبل فيها ذلك الكلام الذي يبدو تربوياً في ظاهره، فيما يستبطن وعياً يسائل عمق الذات الإبداعية، وهو يردد في داخله عبارة أبو لينير " لقد حان وقت مجيئك " مقتفياً آثار ذلك " الآخر " دون انفلات شعري عن مرجعياته العربية الإسلامية، أو كما وصفه أدونيس في مقدمة ترجمته العربية لقصيدة ( الوجود - الدمية ) بأنه يكتب العربية بلغة فرنسية، أي بحدس إسلامي عربي.
الكتاب يزدحم بالكثير من الآراء حول الوجود والحياة والفلسفة والتاريخ والمعرفة، وكلها تصب في المعنى الشعري الذي استهدفه ستيتية خلال مسيرته الشعرية، وعبر عنه بقوله " الشعر مادة تقتضي هذا التفكير الدائري، وبما أن الشعر هو هاجسي الأكبر فسأستمر في الكتابة عنه والتفكير فيه، ساعياً إلى تعميق معاني الشعر بصورة عامة، وتعميق أبعاد شاعريتي بصورة خاصة، فقد لا يكون لي من معنى إلا في مجال الشعر، بل قد لا يكون للإنسان عامة من معنى إلا من خلال النص الشعري، حتى أن النصوص السامية المقدسة، بأبعادها غير المرئية تخاطب في الإنسان إحساسه الشعري ".
ذلك التطرف الإعتقادي بالشعر كخطاب إنساني هو ما يدفعه للإعتقاد بأن الشعر هو السؤال الأكبر، بل هو الجواب الجواب الوحيد، حسب تعبيره، أما الشاعر فهو الوسيط بين ذاته وذاته، بين ذاته وإنسانيته، بين الماضي والمستقبل، بين الظاهر والمستتر، بين الشيء وشفافيته " فكل شيء في تصور الشعر موجود في كل شيء، فهو كمفهوم الحديقة الإسلامية عند جلال الدين الرومي، مكاناً مغادراً بكثير من التندم، مستعاداً بالأمنيات والشعر، وبالتالي فهي ليست رمزاً للوجود بكامله وحسب، بل هي صورة مصغرة له، وهو أحياناً - أي الشعر - بتصور ستيتية، واتكاء على مقولة بول كلوديل أيضاً، يشبه المرأة كوعد غير منجز، فالشعر كذلك وعد يستحيل انجازه، وهو ما يفسر انطلاق شعره نحو جميع المؤنثات في الوجود واللغة.
على ذلك يعتقد أن " سر الشعر وسر الشاعر " يكمن في الطفولة فهذه هي اللحظة التي يتبرعم فيها ذلك الاختبار، كما يسميه في إشارة ذات مغزى، فهو ليس " جنة " كما يعتقد الذين لا يعرفون منابعه، إنما استعار دائم بفعل ظلمة الحياة ومصاعبها وآلامها، وبفعل الشكوك التي تعترينا خلال بحثنا عن قدر من الشفافية. أما الطفولة - برأيه - فهي المرحلة الأهم، وهي المرجع والوطن والقبر بالنسبة للكائن، وكل شيء في حياتنا يبدأ من تباشيرها، فجميع الأطفال يملكون النبوغ، حسب جان كوكتو، إلى أن يصلوا إلى سن الرشد فتضيع مواهبهم. وللتأكيد على ذلك النبع يستشهد بطفولة ثلاثة من الشعراء الفرنسيين البارزين وهم : جيرار دو نرفال، وشارل بودلير، وآرثر رامبو، فهم يقولون، وبعبارات متقاربة " بأن انطلاق الاحساس الأول بسحر العالم، وبخطورة العالم، وبما يحمله من مأساوية، مرتبط بطفولة الشاعر ".
ومن ذلك المنطلق يدين الاهمال النقدي العربي، قديمه وحديثه، لتلك المساحة من طفولة المبدع، وفداحة التعامل مع الطقل ككائن ناقص، ومع الطفولة كمرحلة عابرة. أما الشأن الشعري بالنسبة له، ومن حيث علاقته الجدلية بعالم الطفولة فقد كان على صلة بعالم الكلام منذ طفولته، عندما كان يدخل على والده وبرفقته مجموعة من الشعراء يتعاطون الشعر فلا يفهم منه شيئاً، لولا أن اللغة السحرية تلك كانت تفتنه، ومنها عرف أن " هناك استعمالاً عادياً للغة، وهناك في الوقت نفسه، استعمالاً آخر مختلفاً تماماً " فكان ذلك أول اختباراته مع عالم الشعر، أي في " الفهم غير الاستعمالي للكلمة ".
وقد تطور هذا المفهوم الأولي عنده إلى منطق شعري يسمح له بتكوين عبارات على هامش القواعد والأسس البلاغية المعتمدة في اللغة، فهناك داخل اللغة الشعرية المتحررة إلى حد ما من منطق سياق اللغة العادية إمكان استعمال أكثر غرابة داخل ذلك الاساعمال الغريب، حسب اعتقاده، وهو لب نظرية الانزياح عند جان كوهن، كما يتقاطع من ناحية المعنى مع التصور الذي يعتقده ايف بونفوا في مسألة " كمال الفراغ " وسعيه - أي الشعر - للقبض على الأشياء العابرة أو الزائلة، فاللاكمال هو الذروة بالنسبة له، الأمر الذي يقتدي به ستيتية ليؤكد بأن الشعر " هو تفاصيل بين النور والظلام، بين ما وضح من المعنى وبين ما عجز المعنى عن النفاذ اليه من السر ". وصولاً إلى ما يعتبره جان كوكتو وظيفة سحرية للشعر متمثلة في رواية الأشياء الغامضة بدقة ووضوح.
وعندما يفسر أزلية ذلك السر الإنساني، يرى الغموض يكتنف كل ما في الوجود، والشعر يلتزم بجميع الموجودات الغامضة التي تسعى إلى التعبير ويمنحها القدرة على الكلام، كما يعطي التجارب المتضاربة، وغير المنطقية معنى ما، ويؤكد على ذلك بصوفية ريلكه المتأثر بالدين الإسلامي، وكذلك الشاعر الفرنسي جول سوبيرفييل. أما الغموض للغموض في الشعر فآت - برأيه - من فقدان أي نافذة مضيئة لدى الشاعر، أي من عجزه عن الوصول إلى أي سرٍ في نفسه، أو إلى أي سرٍ من أسرار الوجود، وأسرار اللغة، وهو يتوهم أن جميع المعاني واضحة أمام نظر عقله فينطبق في شعره من بدائيات الأمور، مستعيناً بالغموض لكي يوهم القارئ.
وقد بذل جواد صيداوي جهداً معرفياً وذوقياً لافتاً في استنبات أسئلة جادة لاستنطاق ستيتية، والذهاب به إلى مناطق جدلية عميقة طالت مسألة التجديد والحداثة التي رأى ستيتية شرطها في " عقيدة قتل الأب " وبالتالي فإن الحديث حول إشكالية قصيدة النثر والشعر يعتبر ضرباً من الهذر، فالشعر بأي صيغة من الصيغ لا بد أن يعلن التزامه بتوضيح الأشياء المرتبطة بعمق الوجود، كما رفض إمكانية الربط بين مضمون الشعر ولغة الشعر، فللشعر منطق غامض، فهو ليس أمراً منزلاً، إنما يشبه الإلهام في أولياته، أو ضمن ضرباته الأولى كأبيات مستقرة في الوعي الباطن، وآنية فيما بهد من أعماق اللغة أو التاريخ الشخصي للشاعر. وحسب تعبيره هو نعاس داخل النعاس، أو يقظة داخل اليقظة، أو حلم داخل الحلم. أما الزمن كمفتاح من مفاتيح شعريته فقد أكد على صلته بمفهوم المكان من منطلق ارتباطه بجذوره العربية، وفق مفهوم حضاري في أصله، فالزمن عند الشرقيين مدلول تراكمي، أما عند الغربيين فله مدلول أفقي، بمعنى التحرك المستمر في سيره