الموضوع: ** ذاكرة الروح **
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-18-2011, 05:10 AM
المشاركة 4
سحر الناجي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

** جئتَ أنظر إلى السماء
* ذات يوم شتائي كان يحتضر على مشارف الدنيا .. حيث البرد والزمهرير .. وطقس منعش وأنسام كالحرير .. حيث الموت والحياة , وحفنة من مناخات زاهية ,, وأجواء ملبدة بتناقضات شتى .. هكذا كان رحيل الشتاء , متأرجحآ بين الركود والهدير .. متألقا بالحرارة أو مكتظا برعشات تعصف بالأبدان لبرودة الأجواء , حينها تجلت لنا الغاية .. غاية من يريد أن ينقي عمره من شوائب السأم وينفض عنه أتربة التعاقب.. غاية مزركشة بالسعد .. فقررنا - من خلال تصويت جماعي - أنا وعدد كبير من أفراد أسرتي الهروب إلى الصحراء .. إلى السكينة بكل عذريتها .. إلى الصمت الحاني والرمال المتوهجة بلون الذهب , فأخذنا نلملم ضجرنا الملوث بصخب المدينة ونلقي به على حافة تحركنا .. نعم .. عزمنا وتوكلنا ومضينا ..
صحيح أن الرحلة كانت مسرفة بالعناء .. والمسافات ملطخة بالرتابة , لكن ما كدنا نضع رحالنا حتى انطلق كل منا يحتضن البيداء ويلطم وجه الأرض بخطاه المرحة .. كانت الطبيعة بكل رونقها تتلقى حضورنا .. ودروب شاسعة من بياض البادية تتخللها هنا وهناك شجيرات ونباتات صحراوية .. وغروب قرمزي أهرق على سفوح الجبال بألوان قانية من دماء النهار .. كل هؤلاء كانوا يحتفلون بنا ..
وما كاد ينتهي نصب الخيام , حتى حل المساء .. وجاء الليل على عجل يظللنا بعباءته الحالكة .. جاء يتسكع بغطرسته السوداء .. بينما الرياح تهب بأصوات فرحة وأهازيج مشاكسة , لذلك تركت الجمع متحلق حول النار وارتديت "فروتي " ثم تلفحت بوشاحي .. ومضيت أسرع الخطا إلى قلب المجهول , لم يتجسد لي الليل كفزع حينها.. ولم أستنهض تلك الرهبة التي تلازمني على الدوام في حضرة الليل .. لا .. كل هذا كان في منأئ عن وعيي , فقد كانت أمنيتي منذ زمن بعيد أن أختلي بالليل وقمره .. أن أصافح نجومه بعينيَ .. وأوزع بين المجرات أحداق لا تقدر على رصدها .. إذ لا أضواء ولا صرخات تعكر صفو السماء .. لا ألم ولا شر ولا سقم .. ولا حتى وساوس ترغمني على البقاء في ظلال النور .. لأني ذهبت أفتش عن ضوء من نوع آخر يسكن قلب السماء ..
ولكني ما كدت أن أسير قليلآ , حتى سمعت خطوات صغيرة لاهثة تتبعني .. تلفت إلى الوراء , فإذا هي " مها " إبنة أختي ذات العشرة أعوام .. سألتني بفضول :
- خالتي .. إلى أين تذهبين ؟
قلت : جئت أسير قليلآ وأنظر إلى السماء ..
وقفت هي مترددة للحظات .. فسألتها : هل تريدين مرافقتي ؟
أشارت برأسها بالإيجاب فقلت لها : حسنآ ..اقتربي ..
ألصقتها إالى جانبي وشددت عليها طرف "الفروة" أحميها من برد الصحراء , وبينما كنا نسير أخذت أتأمل صفحة السماء .. وأنظر إلى النجوم المبعثرة بتزاحم عجيب .. وإلى القمر الذي كان يطل حينآ من وراء سحابة صغيرة ويختبئ أحيانآ .. فقلت بلا إدراك مني :
- سبحان مكون هذا الكون !
فعلقت مها بدهشة : نعم يا خالتي .. النجوم كثيرة وواضحة وجميلة الليلة ..
ثم سألتني فجأة :
- خالتي .. هل تنظرين إلى النجوم لأنك تتوقعين أن يطل عليك وجه جدي يرحمه الله من الأعلى ويكلمك ؟
صفعني سؤالها .. توقفت عن السير .. وجعلتها في مواجهتي .. قلت مقضبة : ماذا ؟؟
انتبهت الصغيرة إلى عبوسي فارتبكت .. بينما استرسلت أسألها :
- من أوحى إليك بمثل هذه الفكرة يا عزيزتي ؟
قالت متلعثمة : هم يقولون ذلك ..
صحت بنبرة حادة : من هم اولئك يا مها ؟
وأخيرآ أمام إصراري .. لم تجد مناص من قول الحقيقة ..ألقت ذراعيها إلى جانبيها وقالت متنهدة باستسلام :
- هذا ما شاهدته في أحد الأفلام الكرتونية .. حين يموت الأب ويصبح نجمة .. ثم يظهر من السماء ويتحدث إلى إبنه ..
- يا إلهي ..
علقت بشرود وحيرة .. صدمت لهذه القناعة في رأس الصغيرة , ومع ذلك تماسكت وقلت بهدوء وأنا أجلسها على الرمال وأضع وشاحي حول رأسها .. ثم أجلس قبالتها :
- إسمعي يا حبيبتي .. ليس كل ما تشاهدينه على التلفاز .. يجب أن يكون حقيقي ..ونقتدي به ..
سألتني تنبهني إلى عدم فهمها : ما معنى هذا يا خالتي ؟
نظرت بحيرة حولي وأنا أغوص في عمق الظلام وأفكر في كيفية تبسيط المعلومة لها .. وفجأة واتتني فكرة , فقلت أشرح لها :
- إستمعي لي جيدآ يا مها .. أنت تعلمين جيدا بأنني كاتبة .. أليس كذلك ؟
قالت : بلى .. اعرف ..
قلت : إن للكاتب خيال واسع يا صغيرتي .. يشبه عالم الأحلام .. األا تحلمين أحيانآ وأنت نائمة وترين أشياء في منامك غير حقيقية ؟
أومأت برأسها قائلة : بلى .. كئيرآ ..
قلت : وهذا إلى حد كبير يشبه ما يحدث مع الكاتب .. تنتابه حالة مثل أحلام اليقظة , فيبدأ يكتب ويؤلف بسهولة قصصآ وحكايات من وحي خياله فقط ..
وأردفت : وهذه الحكايات فيها أشخاص يتكلمون ويأكلون ويغضبون .. مثلنا تمامآ .. لكنهم غير حقيقين ..
وتابعت : يعني الفيلم الذي شاهدته هو فيلم غير حقيقي ويجب أن لا نصدق كل ما جاء به ..
قالت بحماس : آه .. الآن فهمت ..
قلت أسألها بتشكك وأنا أبتسم : ماذا فهمت ؟
قالت تشاكسني وتتحدث ببطئ ودلال وهي تعبث بيدي :
- أنني حين أشاهد الأفلام يجب أن لا أتأثر بها ..
أسعدني قولها .. قلت وأنا أربت على خدها ثم أحتضنها:
- : أحسنت يا حبيبتي .. هذا ما يجب أن تفعليه دائمآ ..
وماهي إلا دقائق حتى سمعنا أصوات من صوب الخيام تدعونا لتناول الطعام .. فأسرعت وإياها نتسابق في الجري ونضحك .. وكأن الصحراء كانت تراقبنا بفرح ..
والنجوم تطل علينا بوابل من السرور ..
أو كأن الظلام في ذلك الزمن البهي قد اختفى إلى الأبد ..
تحيتي