عرض مشاركة واحدة
قديم 05-24-2012, 03:35 PM
المشاركة 667
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
قراءة في كتاب




"العصافير" لياسين رفاعية تكتمل - "مع الحياة عندما تصبح وهما ً"




السؤال الذي يطاردنا أبدا ً.. هل حقا نعيش في دائرة مفرغة، نولد ونموت؟ أم نحن وسط كم كبير من أسئلة نبحث عن أجوبة لها ورموز علينا تعلـّمها؟



هذه الرموز وتلك الأسئلة هي سلوك طريق الحياة ومراحلها .. رموز تعني في خلاصتها وجودنا، علومنا، معرفتنا، مركباتنا الحيوية.. لسنا في فراغ الدائرة، نحن في طريق البحث عن الإجابة على سؤال لا ينتهي.



نبحث في ذواتنا، فنكتشف النقص. نبحث عن الكمال، تشتعل فينا جذوة الإلتقاء مع الآخر.



تسنى لي ان اقرأ كتاب ياسين رفاعية " العصافير" في طبعته الرابعة الصادرة عن "دار الخيال" ببيروت، وقد اختـُتِمت بعدد من المقالات التي كـُتبت حول/ وعن هذه المجموعة القصصية حين صدورها ـ في طبعتها الأولى العام 1974 ـ في فترة كانت تدور فيها جدليات حامية، تشبه الحرب الباردة، في المنتديات الثقافية، تناقش الموقف القومي من قضايا الأمة التي استنهضتها الناصرية قبل عشرين سنة تقريبا من تاريخه، وبين الأفكار اليسارية التي وجدت لها مسرحا ً رحبا ً لتحركها في هذه المنطقة، فاستقطبت، الحالتان، مجموعات كبيرة من الشباب ، كانت تطوق الى الخلاص مما تشعره من قيود إجتماعية تخدم بطريقة أو باخرى، مصالح الإستعمار الذي بدأت حركة التحرر العربي في مواجهته.



في هذه الأجواء ووسط هذا الجدل، جاءت التعليقات تشرح نظريات من كتبوا وفهمهم الواقع الإجتماعي، عبر قصص رفاعية، ملبّسة إياها أثوابا أسقطتها عليها عبر مقارنات لا صلة لها بواقع وبيئة مسرح هذه القصص، وبخاصة ما كتبه المرحوم عصام محفوظ، فرفاعية الآتي من مدرسة ذات بعد قومي ثقافي وسياسي وإجتماعي، يصعب ان ينضح فكره وقلمه سلوكا ً معاكسا ً لهذا الإتجاه.


فبقدر ما استحوذت عليّ صور القصص، بقدر ما وجدت فيها تأريخا ً وجدانيا ً لمرحلة من تاريخنا العربي، سياسيا ً واجتماعيا ً، والتي تفرض علينا ان نسعى جاهدين للوصول الى قاعدة اجتماعية يشعر معها شعبنا وأمتنا، بشيء من الاستقرار النفسي والاجتماعي برغم الحلول ـ النظرية على الأقل ـ التي يحاول مجموع من يتصدون للواقع الاجتماعي والإنساني ان يُـنـَظـِّروا في أصل الداء ليصلوا الى وصف الدواء، بخلاف ما يعترضنا من متعلقات بوهم الرهبة وخوف المجهول الذي جسده رفاعية في روايته فيما بعد "مصرع ألماس" التي لعبت الأسطورة دورا ً بارزا ً فيها من خلال الارهاصات النفسية سلبا أو إيجاباً، بحيث تمكن بطل الرواية الاستفادة من هذه الرواسب العالقة في الأذهان، ليقارع بها المحتل وفي نفس الوقت يثبّت دعائم زعامته، وهذا يعني ان الموروث الثقافي يمكن ان يُطوّر بعد معالجة الإشكاليات التي نخرجه من ماضيه المنغلق الى مستقبل اكثر انفتاحا ً، والإفادة منه بما يرجى لبناء مستقبل افضل.



ربما ليس الدافع وراء اضافة التعليقات والقراءات للرواية من بعض النقاد للعصافير، في طبعتها الرابعة، هو طلب شهادات حول الرواية، بل إثبات الجدلية التي أوجدها الكاتب في مجموع ما كتب. وفي ظني انه اعتبرها جزءا ً مما أراد تسجيله على صفحات الكتاب، فأضافها لاتفاقها مع ما أراد إثباته ياسين رفاعية في قصصه، من أن الجدلية بين النفس والذات ـ وقد جسد ذلك من خلال الحلم والخيال في القصص كبطلين من أبطالها ـ تشبه الى حد كبير الجدلية مع الآخر.


إضافة الى ذلك، فإن بعض قصص "العصافير" هي من وحي علاقة الكاتب بزوجته في إحدى المراحل.. وأجرؤ ان اقول ان بعضها كان من أحلامهما التي رسمها خيالهما نتيجة الواقع الذي كانا يعيشانه وكما نقرأه في رواية " الحياة عندما تصبح وهما".

لا أشارك من ذهبوا في كتاباتهم حول العصافير، النظرة السوداوية التي غـَلــّـفـت سطورهم بوشاح الحزن (وأنا أتحدث عما كتب عنها في الماضي المرحوم عصام محفوظ)، رغم ان كل الروايات توحي بظاهرها الى هذا، لكن استعمال الظاهر كدليل مطلق على الباطن خطأ علمي ونظري، هو يمكن ان يكون مؤشرا للبحث فيه أو تأكيدا له.



ما لمسته في القصص التي اعتبرت انها مغرقة في تراجيديا الموت، أنها تؤشر في محور هام منها، عبر وجود الطفل كأحد أبطالها، انها تدفع بالأمل قدما نحو الوجود ولم تحيله الى ركام، يمكن ان تحوله في بعض المواقف الى الإنطواء أو الإنزواء، لكنها حافظت عليه وأبقته حيا ً ملازما لقيمة الوجود، لأن الأمل قوة فاعلة في إرادة البقاء، من هنا فإن الأطفال الذين هم موضوع الجدل تقريبا في كل القصص، إنما عبّرت عن هذا الأمل لتنفي تراجيديا الموت.



اذن نحن أمام مرتجى مأمول (الطفل) بتغيير واقع أشرنا اليه سالفا ً.



من هنا.. حين تكون قارئا جيدا لمجتمعك، بعيدا عن النظريات غير الواقعية، أو النظريات المستوردة والمستمدة من إسقاطات لا تتلائم وبيئة الواقع المروي عنه، ومن ثم يأتي من يقول عكس ما ذهبت اليه، فهذا يعني انه اخرجك عن مسارك وأذهبك الى حيثما لا ترغب. وكان الأجدر ان نبحث في إشكاليات هذه البيئة بقصد تطويرها وبعثها من خلفية حتمية نمو العقل ونـُضجه وفقا ً لعلم مكتسب يساعد على إزالة الكثير من العوائق المفاهيمية والقراءات غير المبنية على وقائع صحيحة.



انت حين تكون كاتبا وفي لحظة تقفل جميع أبواب الأمل في وجهك ويشوب كل ملامحك شبح الخيبة، تسيطر عليك رهبة الموت القِـيَـمي، فتدخل عباراتك أو جملك مفرداته لا إراديا، خاصة اذا كنت كاتبا ً عالما ً وقارئا ً لكل ما يدور حولك من عادات وتقاليد وثقافات خبرتها، بخيرها وشرها.. باثرها وآثارها، وكنت مِمّن يجيد صياغة اللحظة، وفي سرّك ان الموت لا يعني صمت الجسد عن الحركة، انما الموت القـِيـَمي الذي يعني انك فقدت الأمل المسروق منك، يعني انك مسلوب الإرادة.. أصبحت في حال من الإستسلام.



أما تراجيديا الموت جاءت بكل تفاصيلها في " الحياة عندما تصبح وهما" التي صدرت مؤخرا عن "دار الساقي" لكاتب العصافير، حيث يروي فيها فصولا ً من حياة زوجته الشاعرة أمل جراح والسنين التي عاشتها على وجه الأرض تلتحف الألم وتفترش المرارة والعذاب في قلب لم يكن قادرا على ضخ الدم في عروق الجسد، وهي الآن في باطن الأرض تعيش بيننا بكلماتها وآثارها الإبداعية.



في هذه الرواية يحكي رفاعية ليس قصة حياة زوجته ، فحسب، إنما حياة الكثيرين ممن لم يتسن لنا معرفتهم والاطلاع على مسيرة الألم والعذاب التي عاشوها.. كم من هؤلاء ماتوا بصمت وتحت جنح الفقر والقهر. مثل هذه الرواية شهادات تروي قصة ملايين الناس ممن لم يجدوا بعد الراعي المعنوي على الأقل، في بلادهم.


والالم الاكبر هو انك اذا ظننت انك بين أيد أمينة طبيا ً وتوافق على إجراء عملية في ظروف صعبة، لتكتشف فيما بعد انك كنت عرضة لخيانة طبية تسببت لك بكارثة اكبر مما كنت تعانيه، " قال الطبيب، ان الجراح الالماني وسع الصمام اكثر من الحد المطلوب بالآلة أولا ً ثم بإصبعه (!!!) ولم يكن قد مر عام على جراحتها الأولى، وان الدم بدأ يتفق خارج القلب، وستوت من هذا النزف ما لم تجر لها جراحة جديدة، لمعالجة العطل... وإلا فلن تعيش امل اكثر من أشهر والتكاليف لا تقل عن مئة الف دولار"، هذه الشهادة من ياسين رفاعية تثبت حقيقة ان الحياة تصبح وهما في ظروف مثل تلك الظروف لأن المحاسبة غائبة والرعاية كذلك، وكذلك هناك من يستغل حراجة موقفك ليلهو بك ويعبث بمصيرك.



ربما في السنوات الأخيرة بتنا نسمع بأن مؤسسات كثيرة مدنية ورسمية، تمد يد العون لمثل هذه الحالات، لكن في الزمن الذي كانت تعاني فيه أمل جراح، جراحها وعذاباتها، لم يكن ذلك أبدا ً ميسرا ً او موجودا ً، ما أضطر في حينه عدد من الأصدقاء أن يجمعوا التبرعات لأجل إجراء عملية جراحية مستعجلة لها.



وكأن ياسين رفاعية في روايته الأخيرة " الحياة عندما تصبح وهما" على قلة صفحاتها وهدوء سطورها، يريد ان يقول انها حكاية أمة بكاملها وليس أم بسام ولينا فقط، فهو خبر معارج كثيرة في الحياة الإعلامية، فكتب وقرأ الكثير عن هموم أمته ومعاناة شعوبها.



علي دهيني


9 /1/2007