عرض مشاركة واحدة
قديم 03-17-2011, 11:29 PM
المشاركة 3
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي




ثالثاً: جذور الحداثة:

هذا الانشقاق الذي فجر الإنسان إلى ماهية أو جوهر روحي من جهة وإلى جسد محتقر من جهة ثانية، يعود إلى المشروع العقلاني والعلماني الذي تأسست عليه عصور الحداثة. إن فلسفات الذات هي التي أحدثت هذا الشرخ العنيف في الإنسان، وذلك حين تشكل الوعي الحديث طبقاً لمقتضيات الأنساق التي "تقول" الحقيقة وتحتويها.

فالإنسان أصبح جوهراً ميتافيزيقيا أي "كوجيطو" يتقوقع داخل نسق مغلق على نفسه ولا تربطه أية علاقة بالعالم أو بالآخر. وقد يكون هذا الوعي الماهوي هو الذي خلق شعوراً بالانكفاء على الذات وإيثار العزلة، التي يعاني منها إنسان الحداثة.

إنها "كارثة ميتافيزيقية" تتمثل في الفصل الحاد بين الأنا والآخر، بين الذات والعالم، بين النفس والبدن، بين عالم المقدس وعالم الطبيعة.

وقد أتت العلمانية لتعمق هذه الكارثة الميتافيزيقية، عندما اعتبرت هذا الفصل بين الذات والموضوع ضرورة منهجية للوصول إلى الحقيقة. إن الموضوعية هي معيار إنتاج الحقيقة في مجال العلوم الطبيعية، كما أراد لها الرواد الأوائل لهذه العلوم. وهذه الموضوعية لا تتحقق إلا إذا تم الفصل بين الذات الدراسة وموضوع الدراسة، أي عندما تستقل الطبيعة نهائياً عن الأنا. لقد تواطأت العقلانية مع العلمانية لإنتاج كائن مبتور عن العالم، وكان الإنسان هو هذه الضحية.


إن إعادة النظر في المسلمات الكبرى التي قامت عليها العلمانية، وتأسس عليها العقل الحديث؛ هي التي ستظهر هذا المسار الذي اتخذته العلوم. كما أنها ستبين توافق النتائج التقنية مع المقدمات التي انبنى عليها العقل العلمي الحديث. تفكيك العقل الغربي الحديث وبيان أغراضه ومقاصده العامة منذ تأسيسه ابتداء من القرن السابع عشر، هي المهمة التي انفرد لها كل من هوركهايمر وأدورنو في كتاب مشترك لهما يقع تحت عنوان جدل العقل.


ينقل هوركهايمر وأدورنو عن فرانسيس بيكون – أب العلم الحديث - قوله الذي يلخص المشروع الجديد: "إن تفوق الإنسان يكمن في المعرفة، هذا ما لا يقبل الشك". وهذه المعرفة لا تتجلى قيمتها في الحقيقة التي تصل إليها، ولا في الحجج الدامغة التي تنبني عليها "بل في الممارسة والعمل، وفي الكشف عن التفاصيل المجهولة سابقاً، والتي تسمح بالتحكم في الوجود". إذن، فهدف المعرفة الجديدة ليس نظرياً بل هو عملي، أي السيطرة على الوجود وإخضاعه: "المعرفة والسلطة مترادفتان".



تحرير العالم من السحر والأسطورة: هذا هو مشروع عصر الأنوار. ومن ثم كان الرفض العنيف من طرف العلم الحديث لكل شيء لا يقبل التحديد: "كل ما لا يقبل القسمة على عدد ما –وفي الأخير على الواحد- فهو بالنسبة للعقل ليس إلا وهماً". الكشف عن التفاصيل المجهولة، نبذ السر، استبعاد الأسطورة؛ وبالمقابل التكميم والقياس: هذا هو المسار الذي دشنه العقل العلمي الجديد بالنسبة لتاريخ الفكر البشري.

ولكن تحليل هوركهايمر وأدرونو يذهب إلى أبعد من تقرير هذه الوقائع، إذ يكشف عن كون العقل العلمي الذي قضى على الأسطورة انتهى إلى إنتاجها من جديد. "إن الأساطير التي كانت ضحايا التنوير، هي نتاج لهذا الأخير أيضاً". ذلك أن الأسطورة إذا كانت تتحدث عن أصل العالم بواسطة الحكي، فإنها تفسر وتثبت وتتمثل هذا العالم. وإذا كان الإله هو الذي خلق العالم، فإن الإنسان هو الذي خلفه لتحمل المسؤولية الكبرى تجاه هذا العالم، وذلك بهداية من عقله الموهوب! إن دور الإنسان في هذا العالم يشبه دور الإله، ما دام الإنسان يريد السيطرة والتحكم في العالم.


هكذا يخلص هوركهايمر وأدورنو إلى التأكيد على أن "الأسطورة أصبحت في العقل"، هذا العقل الذي أصبح "ديكتاتوريا تجاه الأشياء". فرجل العلم لا يعترف بالأشياء إلا عندما تصبح قابلة للقياس، ومن ثم قابلة للمعرفة الدقيقة التي تسهل التحكم في هذه الأشياء وتحويلها لخدمة الإنسان / السيد. والتقنية هي الوسيط الذي أنجز هذه المهمة، أعني تحويل الشيء إلى بضاعة قابلة لأن تصبح قيمة تبادلية في سوق السلع.


إن تفكيك العقل العلمي يظهر أن النتائج المرعبة والمروعة التي انتهت إليها العلوم، كانت متضمنة في الأسس التي قامت عليها هذه العلوم. فالمعرفة العلمية لم تعد نظرية، ولم يعد هدفها هو تفسير الوجود الطبيعي أو البشري، بل هدفها هو السيطرة على الأشياء. بينما كان هدف التفكير الأسطوري هو الكشف عن تناغم الأشياء، ومحاولة إيجاد نقطة تواصل بين مصير الإنسان ومصير الكون.


وكرد فعل تجاه الحداثة قام الفيلسوف الألماني هيدجر Heidegger بتفكيك عام للميتافيزيقا الغربية، متمما بذلك مشروع نيتشه في أحد أبعاده. لأن تاريخ الميتافيزيقا الغربية هو تاريخ العقل الغربي نفسه، يعود هيدجر إلى الجذور السحيقة والموغلة في القدم؛ بحثاً عن الأساس الذي انبنى عليه هذا العقل. فالكشف عن هذا الأساس هو وحده السبيل الذي سيمكننا من زحزحته.


من هذا المنطلق يرى هيدجر أن العقل الغربي تأسس على الصيغة المنطقية-الصورية منذ زمان أرسطو، بل قبله بقليل مع أفلاطون وسقراط. كما أن التمييز بين موضوع المعرفة والذات العارفة، تحدد أونطولوجيا آنذاك. في حين أن الفترة السابقة على سقراط كانت تتأسس على قاعدة مغايرة، وتتحرك ضمن مجال مخالف. كان الحكماء الطبيعيون الأوائل يحاولون تفسير الفيزيس (الطبيعة)، التي لم تكن تعني لديهم ما نفهمه منها نحن اليوم.

الفيزيس Physis عند هؤلاء كانت تعني "الكل" الذي يجمع بين الآلة والبشر والكائنات الحية والجامدة… السماء والأرض وما بينهما، وكذا الفكر والروح والأخلاق… كل هذا كان يسمى عندهم: الفيزيس. وحينما نبحث عن الجذور الميتافيزيقية للعقل في تلك الفترة البعيدة، نجد أن دلالته تحيل على شيء آخر ليس هو ما نعرفه اليوم من مصطلح"عقل".


إن مصطلح العقل يقابله "اللوغوس" Logos في اللغة اليونانية، وهو يتكون من جذر لغوي هو فعل "ليغين" Legein. هذا الفعل كان يعني في زمان أفلاطون وأرسطو: يتكلم أو يخاطب، ومنه تم اشتقاق المصدر: كلام وخطاب.

فاللوغوس إذن هو الكلام أو الخطاب الذي يوجه تفكير الإنسان توجيها سويا، من أجل الكشف عن الحقيقة. وقد اجتهد أرسطو كثيراً لصياغة القوانين العامة التي تجعل من الكلام أو الخطاب "آلة تعصم الذهن من الوقوع في الخطأ". إن الأورغانون Organon الأرسطي يعني تحويل الخطاب إلى منطق، أي تحويل Logos إلى Logique. بينما كان فعل "ليغين" عند الحكماء السابقين على سقراط يعني: يجمع أو يضم، ومنه تم اشتقاق المصدر: الجمع. لقد كان اللوغوس يعني لدى هؤلاء "الجمع" وليس الخطاب أو المنطق. وهذا الأمر يعود إلى سبب رئيسي هو أن الفيزيس كان معناها: الكل أو الكلية Totalité، التي تجمع الكائنات بغض النظر عن طبيعتها وأنواعها.


لقد تشكل العقل الغربي عندما تأسس على المنطق. ولكن "في أية لحظة بدأ يتكون المنطق؟ في تلك الفترة التي بدأت الفلسفة اليونانية تقترب من نهايتها عندما أصبحت مسألة مدرسية، أي مسألة تنظيم وتقنين". لم يظهر المنطق عند اليونان إلا عندما حدث الانشقاق بين الوجود والفكر، هذا الانشقاق الذي دشنه أفلاطون وأكمله أرسطو. هنا تقعد المنطق، وتأسس الفكر على القياس، وظهر العقل الغربي، منذ بداية هذا التقعيد النظري للفكر، لن يسمح للحقيقة باستيطان أي مكان آخر غيره.


لقد انتقلت الحقيقة من الوجود إلى القول، من الفيزيس إلى المنطق؛ وأصبحت القضية المنطقية هي مأوى الحقيقة، ومجالها هو الفكر: الفكر هو مصدر الحقيقة. هكذا ظهرت الفلسفات المثالية، حيث تم سجن الحقيقة داخل أنساق محكمة لا يجوز أن تتجول خارج أسوارها. بل أكثر من هذا أصبح الإنسان ماهية فكرية، وذاتا ميتافيزيقية هي هذا الجوهر المفكر: إنه الكوجيطو (أنا أفكر).


ديكارت Descartes زعيم المذهب العقلاني في الفلسفة الحديثة، هو الذي أسس الكوجيطو، واعتبره بمثابة أرضية صلبة يقوم عليها اليقين. فاليقين الأول هو الأنا - أفكر: Le moi-pensant، وعليه تتأسس كل أنواع اليقين الأخرى. الإنسان انفجر إلى نفس وبدن، حيث سجنت النفس داخل النسق بينما ألقي بالبدن خارج اليقين أي خارج النسق.


توالت فلسفات الذات بعد ديكارت لكي تعدل من قسوة النسق، وتحاول ردم الهوة بين الذات والموضوع، بين النفس والبدن، بين الفكر والوجود… ولكن بدون جدوى! لهذا يرى هيدجر أن هناك سبيلاً وحيداً للخروج من فلسفة تفكيك الأنساق المثالية التي سجنت الإنسان داخلها.






هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)