الموضوع: إجنازيو سيلوني
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-26-2013, 12:34 PM
المشاركة 2
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الكتاب

41698
‏السنة 125-العدد
2001
فبراير
4
‏10 من ذى القعدة 1421 هـ
الأحد
حوار مع الشيطان
بقلم‏:‏ رجاء النقاش


ما الذي يمكن أن يفعله الإنسان لو أنه التقي بالشيطان وجها لوجه؟‏..‏ هل يقول الإنسان له‏:‏ أهلا وسهلا ومرحبا؟‏..‏ هل يقول له‏:‏ أنا تحت أمرك فافعل ما تشاء‏,‏ ولن تجد مني سوي التقدير والإعجاب؟‏..‏ لن يفعل الإنسان شيئا من ذلك‏,‏ خاصة إذا كان إنسانا حسن النية طيبا عازما كل العزم علي أن يرفض الشر ويعترض عليه‏.‏ ولذلك فكثيرا ما تظهر أمام مثل هذا الإنسان مشكلة أخلاقية وفلسفية‏.‏ فمقاومة الشيطان‏,‏ أو مقاومة الشر في هذه الدنيا بصورة عامة لا يمكن أن تتحقق بأساليب مستقيمة واضحة في كل الأحوال‏.‏ لأن الاستقامة والوضوح في مواجهة الشر ليس لهما نتيجة إلا تقوية الشر‏,‏ فكلما كان الإنسان واضحا‏,‏ وكانت خطته في الحياة مكشوفة وأبواب بيته ونوافذه مفتوحة‏,‏ كان بإمكان اللصوص والمجرمين وكل الأشرار أن يعتدوا علي هذا الإنسان بسهولة ويسر‏.‏ ولذلك فلا مفر من مواجهة الشر من أن يكون الإنسان قادرا علي الكتمان‏,‏ وأن يكون علي قدر مناسب من المكر والدهاء‏.‏ ودون ذلك فإن هزيمة الإنسان أمام الشر لا مفر منها ولا حيلة فيها‏.‏
وهنا تولد تلك المشكلة الأخلاقية والفلسفية التي قد تؤدي إلي الحيرة والارتباك‏.‏ فالدهاء والمكر والكذب أحيانا تكون كلها ضرورية في مواجهة الشر‏,‏ ولكن هذه الأساليب نفسها هي نوع من الشر‏,‏ فهل نواجه الشر بالشر؟ وهل نسعي إلي الانتصار علي الشيطان باستخدام بعض أساليبه؟ وهل ذلك جائز في حساب الأخلاق السليمة وفي حساب الفلسفة الإنسانية المستقيمة؟‏.‏
هذه الأسئلة كلها يطرحها الأديب الإيطالي العظيم إجنازيو سيلوني‏1900‏ ـ‏1978‏ في مذكراته ترجمة الأستاذ فؤاد حمودة‏.‏ وذلك حين يروي إحدي القصص الواقعية التي صادفته في حياته وطرحت عليه الأسئلة السابقة وما يشبهها‏.‏ والقصة التي يرويها سيلوني كثيرا ما تصادف كل إنسان في حياته وتجاربه‏,‏ ومن هنا كان لهذه القصة البسيطة معناها الإنساني العام في كل زمان ومكان‏.‏ والقصة علي بساطتها هي قصة ممتعة‏,‏ وبعد أن نقرأها سوف نقول لأنفسنا‏:‏ ومن منا لم يتعرض لمثل هذا الموقف في حياته؟ من منا لم يجد نفسه في لحظة من اللحظات أمام الشر أو أمام الشيطان أو إبليس وجها لوجه؟ ومن منا لم يقع في الحيرة والقلق نفسيهما في مثل هذه اللحظة وهو يبحث عن الأسلوب الصحيح لمواجهة هذا الشر ويعمل للتغلب عليه ودفع أذاه؟‏.‏

يقول سيلوني في قصته البسيطة الممتعة‏:‏
كنت صبيا صغيرا حين اشتركت في مناقشة حامية وقعت ذات يوم في درس الوعظ والدين بين القسيس الذي كان يعطينا هذا الدرس وبيننا نحن التلاميذ‏,‏ وكان موضوع المناقشة عرضا للأراجوز كنا قد حضرناه مع القسيس في اليوم السابق‏.‏ كان العرض يروي مغامرات لطفل يضطهده الشيطان‏,‏ ولقد حدث خلال هذا العرض أن الطفل ظهر علي المسرح يرتعد من شدة الخوف‏.‏ ثم اختبأ تحت سرير في جانب المسرح لكي يهرب من الشيطان الذي كان يبحث عنه‏,‏ ولم يلبث الشيطان أن ظهر علي المسرح‏,‏ وجعل يبحث عن الطفل دون جدوي‏,‏ وأخيرا قال‏:‏ ولكن الطفل هنا بغير شك‏,‏ فأنا أشم رائحته‏.‏ والآن سوف أسأل عنه هؤلاء المتفرجين الطيبين‏.‏
ثم التفت إلينا وقال‏:‏
ـ يا أطفالي الأعزاء‏.‏ هل رأيتم هذا الطفل الخبيث الذي أبحث عنه مختفيا في مكان ما؟‏.‏ وفي الحال أجبنا جميعا في صوت واحد بكل ما لدينا من حماس‏:‏
ـ لا‏..‏ لا‏..‏ لا‏.‏

قال الشيطان في إصرار‏:‏
فأين هو إذن؟‏.‏ إنني لا أستطيع أن أراه‏.‏
فصرخنا جميعا في إصرار‏:‏ لقد غادر المكان‏.‏ لقد ذهب من هنا إلي مدينة لشبونة ومازالت لشبونة في قريتنا إلي يومنا هذا عند أهلنا هي أبعد مكان علي سطح الأرض‏.‏
ويواصل سيلوني رواية قصته الطريفة فيقول‏:‏

ينبغي أن نذكر هنا أن أحدا منا لم يكن يتوقع عندما ذهبنا إلي المسرح أن الشيطان في عرض الأراجوز سوف يسأله‏,‏ وإذن فقد كان سلوكنا غريزيا وتلقائيا تماما‏.‏ والذي أتصوره أن الأطفال في أي مكان آخر من سطح الأرض في مثل موقفنا كانوا سيتصرفون مثل هذا التصرف‏.‏ إلا أن قسيس كنيستنا‏,‏ وهو رجل علي قدر كبير من الفضل والثقافة والتقوي‏,‏ لم يعجبه منا هذا‏,‏ وأخبرنا بوجه مغموم منزعج‏,‏ بأننا قد اقترفنا جريمة الكذب‏.‏ حقا لقد كذبنا لهدف طيب‏,‏ ولكنها مع ذلك مازالت كذبة‏,‏ وينبغي للإنسان ـمن وجهة نظر القسيسـ ألا يكذب أبدا‏.‏ فسألنا القسيس في دهشة‏:‏
ـ‏...‏ ولا علي الشيطان؟
فأجاب‏:‏
إن الكذب جريمة في كل الأحوال‏.‏
فسأله أحد التلاميذ‏:‏ ولا علي القاضي؟
فزجره القسيس بعنف وقال‏:‏

ـ إنما أنا هنا لأعلمكم العقيدة المسيحية‏,‏ لا للعبث والكلام الفارغ‏.‏ إن ما يحدث خارج جدران الكنيسة لا يهمني‏.‏
ثم بدأ القسيس يتحدث بلغة فصيحة عن الصدق والكذب عموما‏.‏ ولكننا في هذا اليوم لم نكن مشغولين بفكرة الكذب عموما‏.‏ كنا نريد أن نعلم‏:‏ هل كان ينبغي لنا أن نخبر الشيطان بمكان اختفاء الطفل؟‏...‏ نعم‏..‏ أم لا؟ ولكن القسيس المسكين جعل يكرر بشيء من الحرج والضيق‏:‏
ـ ليس هذا هو المهم‏.‏ إن الكذبة دائما كذبة‏.‏ وقد تكون إثما عظيما‏.‏ وقد تكون إثما معتدلا‏.‏ وقد تكون إثما صغيرا ضئيلا‏.‏ ولكنها دائما إثم‏,‏ ولابد من تمجيد الصدق والحقيقة دائما‏.‏
قلنا له‏:‏ إن الحقيقة هي أن الشيطان في جانب والطفل المختبئ في جانب آخر‏.‏ وأردنا نحن أن نساعد الطفل ضد الشيطان‏.‏ هذه هي الحقيقة‏.‏

ولكن القسيس ظل يكرر‏:‏
ـ ولكنكم كذبتم‏.‏ أنا أعلم أنكم كذبتم لغاية نبيلة‏.‏ ولكنه كذب علي أي حال‏.‏
ولكي أنهي أنا هذا الجدال قدمت سؤالا فيه كثير من المكر‏,‏ وفيه بالنسبة إلي صغر سني في ذلك الوقت‏,‏ كثير من النضج والذكاء‏...‏ قلت للقسيس‏:‏
ـ لو حدث أن رأينا قسيسا في مكان الطفل‏,‏ فكيف ينبغي أن يكون جوابنا للشيطان؟
فاحمر وجه القسيس‏,‏ وتحاشي الإجابة‏,‏ وعاقبني بأن جعلني بقية الدرس راكعا علي ركبتي كعقاب لي علي سفاهتي‏,‏ وعند نهاية الدرس سألني‏:‏ هل أنت آسف الآن؟‏.‏ فقلت له‏:‏ طبعا‏.‏ وإن سألني الشيطان عن عنوانك لأعطيته له في الحال‏!.‏

ثم ينهي سيلوني هذه القصة اللطيفة بقوله‏:‏
لم يكن شيئا مألوفا بالطبع أن يحدث جدال بهذا الأسلوب في درس الوعظ‏,‏ برغم أن حرية المناقشة كانت متاحة في محيط الأسرة وبين الأصدقاء‏.‏ إلا أن هذه الحرية لم تثر أي تحرك أو تيقظ في ركود حياتنا الاجتماعية المخزي في ذلك العصر‏,‏ أي في بدايات القرن العشرين‏.‏
تلك هي القصة وذلك هو السؤال‏.‏
هل من حقنا أن نكذب علي الشيطان وأن نعامله بشيء من المكر أو أننا لا يجوز أن نلجأ إلي الأساليب الخاطئة أخلاقيا حتي مع الأشرار‏,‏ وفي معاركنا المختلفة ضد الشر‏.‏ وما الشيطان إلا تجسيد للشر ورمز أساسي له؟‏.‏

قبل أي محاولة للإجابة عن هذا السؤال الذي يواجهنا في حياتنا كثيرا لابد من الالتفات إلي شيء في طبيعة الشر والأشرار‏.‏ فالشيطان وكل من يمثلهم ويرمز إليهم إنما يقيمون كل أعمالهم السيئة علي اقتناع بأن ما يقومون به هو الحق‏.‏ فإبليس ـحسب القصة الدينية المعروفةـ قد ارتكب العصيان لربه لأنه اعترض علي إرادة الله الذي خلق الإنسان من طين وخلق إبليس من نار‏,‏ ثم طلب الله من إبليس أن يسجد لآدم‏,‏ فسجدت كل الملائكة إطاعة لأمر الله إلا إبليس‏,‏ فإنه أبي واستكبر‏,‏ وكانت حجة إبليس أن النار أفضل من الطين‏.‏ ولا يصح ـمن وجهة نظرهـ أن تسجد النار للطين‏.‏ ولكن إبليس ـرغم حجتهـ قد ارتكب عصيانا لربه‏.‏ ومثل هذا العصيان لا تقلل من جريمته أي حجة من أي نوع‏.‏ لأن الطاعة عند المؤمنين هي أمر واجب لا يصح الجدال فيه‏.‏ ولكن إبليس جادل وارتكب المعصية فخرج من دائرة الإيمان‏.‏
وهكذا نجد أن الأشرار ـوعلي رأسهم إبليس شخصياـ لديهم قدرة علي إقناع أنفسهم بأنهم علي حق‏.‏ فإبليس معترض علي السجود لآدم‏,‏ لأنه من نار وآدم من طين‏.‏ وهو مطرود من الجنة عقابا له‏,‏ وما يقوم به في الأرض وبين الناس من إفساد وتحريض علي الخطيئة والشر‏,‏ هو عند إبليس ـوعند كل الأشرارـ انتقام مما حدث لهم من عقاب ولعنة‏.‏
فالأشرار في الدنيا لديهم قدرة علي تبرير تصرفاتهم أمام أنفسهم‏,‏ ولديهم ذلك المرض المستعصي وهو إقناع ضمائرهم ـإن كانت لديهم ضمائرـ بأنهم علي حق وليسوا علي باطل‏.‏ ولذلك فالأشرار يقاتلون بعنف شديد دفاعا عما يظنون أنه حقهم في الحياة وفي تحقيق الانتصار علي الآخرين‏.‏

ويبقي السؤال هو‏:‏ كيف نتعامل مع الشيطان أو مع الشر؟‏.‏
هل نتصرف كما تصرف الأطفال في قصة سيلوني فنستخدم كل الوسائل الممكنة للانتصار علي الشيطان وتضليله وحماية الآخرين وحماية أنفسنا منه؟
هل نفعل ذلك حتي لو اضطررنا إلي الكذب واستخدام الدهاء والحيلة؟ أم نتصرف كما طلب القسيس من تلاميذه الأطفال‏,‏ فلا نكذب ولا نحتال‏,‏ حتي لو فعلنا ذلك ضد الشيطان؟‏.‏
الحقيقة واضحة تماما‏.‏ وهي أننا لا نملك أن نواجه الشر في كل أشكاله بخطة واضحة مكشوفة‏,‏ خالية من أي مكر أو دهاء أو أي أسلوب آخر قد يساعدنا علي تضليل الشر وهزيمته‏.‏ فلو اعتمدنا في حياتنا علي خطة مكشوفة في مواجهة الشيطان فإن معني ذلك أننا نساعد الشيطان ونقدم له تسهيلات كبري ليواصل عدوانه علي الإنسان وترسيخ قدرته علي مواصلة شروره المختلفة‏.‏

إن المبادئ النظرية علي الورق لا تفيد الإنسان في معارك الحياة المستمرة‏.‏ وفي هذه المعارك لابد أن تكون المبادئ علي شيء من المرونة والقدرة علي مواجهة الظروف الواقعية‏,‏ بما تمليه هذه الظروف من الحكمة والتصرف الذكي الحسن‏.‏ وليس هناك حكمة مقبولة في مواجهة التواء الشر باستقامة الخير‏,‏ ولا في أن يكون الصدق الكامل هو الأسلوب الصحيح للإجابة علي أي سؤال‏,‏ لأننا لو كنا صادقين مع الشيطان فإننا بذلك نمنحه قوة علي قوته‏.‏ وفي أي حوار مع الشيطان أي مع الشر ينبغي أن نكون علي حذر شديد‏.‏ ودون هذا الحذر فإننا نسقط في حالات كفيلة بأن تلحق بنا الهزيمة في أي معركة حتي لو كانت معركة صغيرة‏.‏ ومن هذه الحالات ما يمكننا أن نقول عنه إنه سذاجة‏,‏ فإذا وصلت هذه السذاجة إلي أقصاها فإنها ولاشك تكون نوعا من العبط‏.‏ وليس من اليسير علي النفوس الطيبة الكريمة أن تستسلم أمام الشيطان‏,‏ أي أمام الشر‏,‏ في سهولة وبساطة‏,‏ فذلك معناه أن يظل أصحاب هذه النفوس مهزومين علي طول الخط وإلي الأبد‏.‏ وإذا انهزمت النفوس الطيبة الكريمة بهذه الطريقة الدائمة فماذا يبقي لنا من معاني الحياة الرفيعة؟‏.‏ لن يبقي لنا شيء إلا الشر‏,‏ وسوف يبقي سلطان الشيطان فوق كل سلطان‏.‏ والمبادئ الأخلاقية الثابتة مطلوبة وضرورية‏.‏ فمن الصواب تثبيت الإيمان بهذه المبادئ لا تكذب‏..‏ لا تسرق‏...‏ إلخ‏,‏ ولكن عندما تشتعل معركة علي الأرض بين الخير والشر‏,‏ ماذا نحن فاعلون؟‏.‏ هل نترك كل شيء للشيطان ونعلن التسليم؟‏.‏ هذا خطأ ندفع ثمنه في العادة ـإذا وقعنا فيهـ أضعافا مضاعفة‏.‏ المعركة‏...‏ معركة‏.‏ وكل ما يحقق النصر في المعركة مطلوب ولا حياء في استخدامه أو الاستناد إليه‏.‏ وكل فضائل الدنيا سوف تكون بلا قيمة ولا تأثير إذا كان أصحابها من الضعفاء والمستسلمين في كل معركة يخوضونها حتي لو كانت هذه المعركة مفروضة عليهم‏.‏ ولعل هذا كله هو ما يفسر لنا وصف الله‏,‏ لنفسه في القرآن الكريم بأنه لله المكر كله وأنه خير الماكرين‏.‏ فصفة المكر في حد ذاتها مكروهة‏,‏ ونسبتها إلي الله الذي هو خير كامل‏,‏ تبدو غريبة‏.‏ ولكن المكر هنا منسوب إلي الله في مواجهة الأشرار الذين يمكرون ويخدعون ويكذبون ويخططون لإيذاء الناس وإفساد الحياة‏.‏ فالمكر في مواجهة المكر فضيلة كبري‏.‏ والكذب علي الشيطان لمنع شروره ليس كذبا ولكنه منتهي الصدق‏.‏
وإذا راجعنا قصة سيلوني ربما وجدنا أنفسنا مع موقف الأطفال في كذبهم علي الشيطان‏,‏ ولسنا مع القسيس في دعوته إلي الصدق حتي مع الكاذبين الأشرار‏.‏

نحن إذن مع الأطفال وضد موقف القسيس‏.‏
واللا إيه؟‏!.