عرض مشاركة واحدة
قديم 11-16-2011, 01:50 PM
المشاركة 48
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
تابع ...
6
في العاشرة من عمريبدأت كتابة ما كنت أتصور انه الشعر، ومنذ ذلك الحين لم أتوقف عن الكتابة. وحينسألنا احد المدرسين، نحن تلامذة الصف، عما نحب ان نكون ونشتغل في المستقبل، اجابهأترابي: دكتور، طيار، مدرس، مهندس، فيما أجبته أنا بأني سأكون شاعراً، فأثار الأمراستهجان التلامذة. أما انخراطي في النضال والعمل السياسي، فكان يصدر عن واجبوضرورة، لا عن رغبة. لقد ملكت الكتابة رغبتي، وفيما أنا منخرط في العمل السياسيوالنضال، كنت مدركاً اني أؤجل الكتابة حتى تحقيق العدالة والاستقلال عن الانكليزوزوال الاحتلال واقامة الاشتراكية. لكن هذه الأحلام كلها انجلت عن اعتقالي ضمن حملةاعتقالات واسعة مع إعلان الأحكام العرفية في أيار ،1948 وطاولت جميع الفئاتاليسارية والوفديين. وفي المعتقل تلاشت العداوة بيننا نحن التروتسكيين وبينالشيوعيين، فتآخينا وتعاونّا، حيث التقيت مصادفة هنري كورييل في معتقل هاكس تسام فيالقاهرة. رأيته من بعيد من دون أن أكلمه أو يكلمني. كان نحيلاً رقيقاً يلبس الشورتوينتعل صندلاً ويتحرك طوال الليل كالنحلة.
أمضيت في المعتقل عشرين شهراً،وخرجت منه في العام ،1950 وكان والدي قد توفي. وفي النوادي رحت ألقي محاضرات عنالسوريالية والوجودية فتعرفت الى أنور كامل ورمسيس يونان. لكن كان عليّ أن أبحث عنعمل ما أكسب منه معيشتي، فأهداني اليه صديق تعرفت اليه في المعتقل، وكان العملموظفاً صغيراً في "شركة التأمين الأهلية". ونبهني صديقي ذاك بألا أقول أني أحملاجازة في الحقوق، لأن العمل المطلوب في الشركة لا يتجاوز الإلمام باللغتين الفرنسيةوالعربية والضرب على الآلة الكاتبة. وبعد مقابلتي المسؤول في الشركة، وقع نظري فيأحد مكاتبها على فتاة جميلة رقيقة من موظفاتها، وكانت تلك النظرة العابرة فاتحةوقوعي في صفقة غرامية برفيقة حياتي التي تزوجتها عام .1958

7
في أثناء عملي في الشركة وإلقائي المحاضرات في نوادي الاسكندرية، كنا نلتقيفي المقاهي، حيث تدور بيننا المناقشات حول ثورة الضباط الأحرار الناصرية. وكانالأبرز في تلك المناقشات رأيان اثنان في ثورة .1952 الأول يعتبرها ثورة ديموقراطية. أما أنا فقد ملت الى الرأي الثاني الذي كان يعتبرها انقلاباً عسكرياً على طريقةالانقلابات في بلدان أميركا اللاتينية. ومنذ الأيام الأولى للثورة حتى تأميم قناةالسويس سنة ،1956 لم يتبدل رأيي في تلك الثورة. وقد يكون الخطأ الكبير الذي ارتكبتههو تصالحي مع الناصرية في أعقاب قرار التأميم. لكن برغم تلك المصالحة، ظل موقفيالشخصي من جمال عبد الناصر ملتبساً. إذ ظللت اعتبر الجانب العسكري في الثورةالناصرية سيئاً، لأن ما أتت به من انجازات ظلت فوقية لعدم صدورها عن الناس وهذا ماأكده انهيار تلك الانجازات مع موت الزعيم المصري.

عام 1955 ضربني اليأسوالقنوط من عملي موظفاً صغيراً في شركة التأمين، لأعيل بالراتب الذي أتقاضاه أميوأخواتي الأربع. كنت أشتعل حنيناً الى الكتابة التي منعني عنها الدوامالوظيفيالمرهق، ففكرت في الاستقالة من الشركة، وأقدمت عليه. ومن التعويض المالي الذيتقاضيته رحت أعطي والدتي راتبي الشهري، كما لو أنني لا أزال موظفاً. في تلك الفترةكنت أمضي وقتي مداوماً على المكوث في أتيليه الاسكندرية التي يديرها أحمد مرسي،منصرفاً الى الكتابة والترجمة، فكتبت "حيطان عالية" وترجمت بعضاً من أشعار أيلوارومؤلفات تشيخوف وكامو. وشهراً بعد شهر راح التعويض المالي يتناقص وينفد، فلم يعد فيمستطاعي تقديم راتبي الشهري لوالدتي، فأجبرت على إعلامها بأني تركت وظيفتي فيالشركة.

الضيق المادي الذي عشته آنذاك كان شديداً، فرحت أترجم براءاتالاختراع في الميكانيكا والكيمياء لإحدى الشركات، مما أثرى قاموسي اللغوي. وفيالأثناء بدأت أبعث لأصدقائي رسائل استغاثة لمساعدتي في البحث عن عمل، حتى وصلتنيذات يوم رسالة من صديقي ألفرد فرج يطلب مني فيها الحضور فوراً الى القاهرة للعملمترجماً في السفارة الرومانية، فغادرت الاسكندرية متوجهاً الى القاهرة في العام .1956
أثناء عملي مترجماً في السفارة الرومانية بادرت الى انشاء جمعيةالصداقة المصرية - الرومانية التي رعت انشاءها هيئة من أبرز العاملين في الحقلالثقافي في مصر: يوسف السباعي الذي كان رئيس المجلس الأعلى للفنون والآداب، ومحمدمندور ويحيى حقي وفريد أبو حديد وعلي باكثير. ثم أصدرنا مجلة عن الجمعية التي تركتالعمل فيها عام 1959 لأعمل، بمبادرة يوسف السباعي، في قسم الشؤون الفنية لجمعيةتضامن الشعوب الافريقية - الآسيوية، وكان مدير شؤون هذا القسم رمسيس يونان الذيعملت الى جانبه جامعاً بين فوضوية الفنان وعقلانية الرجل الإداري.

8
في يوم من عام 1968 جاء الى منزلي جمع من الاصدقاء بينهماحمد مرسي وابرهيم منصور، وطلبوا مني العمل في تأسيس "غاليري 68"، على ان ننشىءصالة للعروض الفنية والتشكيلية، ومجلة ثقافية - أدبية يجري تمويلها من عائدات بيعاللوحات التشكيلية في صالة العرض، ومن اشتراكات الاعضاء. وكان الفريق الأساسي الذيعمل في اصدار المجلة، أحمد مرسي وابرهيم منصور وغالب هلسا وسيد حجاب وجميل عطيةابرهيم وأنا. وفي ثلاث سنوات صدر من المجلة ثمانية أعداد من دون انتظام. وقامت "غاليري 68" بنشر نصوص قصصية لمحمد البساطي وجمال الغيطاني وغيرهما من ادباءالستينات الذين كانت المجلة منبراً لكتاباتهم.

والغريب ان جيل الستينات منالروائيين والقصاصين والادباء الذين تحلقوا حول "غاليري 68" كانوا أصغر مني سناًوعايشت انطلاقتهم، من دون ان أكون منتمياً الى جيلهم الادبي، ولا الى غيرهم منالأجيال السابقة. كأنني دائماً كنت مضيّعاً انتمائي الى جيل أدبي وثقافي وكتابي فيعينه. ربما لأنني منذ الأربعينات أكتب من دون أن أنشر ما أكتبه، الا اذا طلب منياحد ما مخطوطة للنشر. وربما لأن تصنيف الكتّاب في أجيال وموجات لا ينطبق عليّ. فحتىفي التصنيف الادبي الأكاديمي والجامعي لم أحسب على جيل الستينات او غيره.
قد أكون من التيار الروائي والقصصي الذي سُمّي تيار ما بعد المحفوظية وجمعمروحة واسعة من الكتاب المصريين مثل صنع الله ابرهيم وجمال الغيطاني وغالب هلساوبهاء طاهر وعبد الحكيم قاسم، والجامع المشترك بين هؤلاء هو التمرد على القواعدالمحفوظية في الكتابة القصصية والروائية وكسرها. أما العنصر الآخر الجامع في هذهالتجارب الكتابية، فقوامه احساس هؤلاء الكتاب بأن هناك خطأ ما في التجربة السياسية - الاجتماعية للناصرية، خصوصاً بعد الكارثة التي تكشفت عنها هزيمة .1967 ورغم اننقد الناصرية لم يصل الى ادانتها ادانة مباشرة وصريحة، فان الحذر والتوجس منشعاراتها كشفا خواءها في مقابل القمع السياسي والثقافي للسلطة السياسية. وهذا ماانعكس في الأعمال الأدبية للكتاب والروائيين.

9
كروائي،اعتبر نفسي مؤرخاً لأشواق الروح وأشواك المجتمع. لكن التأريخ الاجتماعي وغيرالاجتماعي يحضر في وصفه عنصراً داخلياً في السياق الروائي والمشهد الروائي. وأظن انالتأريخ الحقيقي او الفعلي متضمَّن في الأعمال الروائية. أما السيرة الذاتيةفموجودة على نحو ما في كل رواية وقصة وقصيدة ولوحة تشكيلية، وفي كل عمل فني على وجهالعموم. أما كيفية تجلي حضور السيرة الذاتية في الأعمال الفنية، فمسألة غير قابلةللتقنين في قواعد ثابتة ومحددة. والذي يُخرج السيرة الذاتية، او الشرائح والمقتطفاتالمستخدمة منها، عن كونها سيرة ذاتية، اندماجها بالمتخيل الفني في العمل الروائي. فاستلهام وقائع وحوادث معينة، وكذلك استلهام مقتطفات من السيرة الذاتية، أمر طبيعيوعادي في الفن الروائي، شرط ان يجري استدخال هذه الاستلهامات في المتخيل الروائي. وعلاقة الذاكرة بالخيال معقدة. وربما يلازم التخييل عمليات التذكر كلها. وهنالكخيال منفصل او منقطع عن عمليات التذكر.

حين أقول ان السيرة الذاتية تدخل فيالأعمال الروائية لا أقصد ان الرواية سيرة ذاتية مقنّعة، بل ان الفعل الروائييستلزم تحويل مقتطفات من السيرة الذاتية وتحويرها على نحو ملائم للبناء الروائي.

أعلم ان هناك كلاماً عن روائيين يخلقون شخصيات روائية تروح تتفلت منهموتستقل عنهم، فلا يتمكنون من السيطرة عليها. لا أظن ان هذا الكلام حقيقي ودقيق. فالروائي خالق شخصياته، والمسؤول عن نموها وتحولاتها ومصائرها. والمخطط الروائيالذي أضعه قبل البدء بكتابة رواياتي، عام غير تفصيلي لا يتجاوز الصفحة او نصفالصفحة فقط ومعظم رواياتي كتبتها مرة واحدة فقط، لأني حين أشرع في الكتابة تكونالرواية مكتوبة في ذهني او في مخيلتي قبل مباشرة كتابتها. اما ما أقوم به من حذفوتقطيع واضافة وتبديل، فأجريه لاحقاً بعد الكتابة الأولى التي لا أعيدها. هناك بعضالقصص والروايات التي كتبتها في البدايات أعدت كتابتها مرات كثيرة. أما لاحقاً فقدتعودت أن أكتب قصصي ورواياتي مرة واحدة فقط.

10
سوف يبدوكلامي متضمناً شيئاً من الصلف حين اقول أني أحب أن يأتي التاريخ على ذكري وحيداً فيإحدى صفحاته، لا على صفحة يشاركني فيها غيري من الأسماء. هذا في حال كنت في عداد منسيأتي التاريخ على ذكر اسمائهم في صفحاته. فأنا أشعر أني وحيد ولا صلة وثيقة تجمعنيبأحد.

تصعب عليّ الاجابة عن السؤال إن كنت مؤمناً بالله أم لا. ذلك ان أباالعلاء المعري لو قيّض له ان يكتب "رسالة الغفران" مرة أخرى، لن يسألني عن ايمانيبالله، بل عن الحس الديني لديّ. مثل هذا الحس يشغلني لأنه ينطوي على الاسئلة حولالوجود والمصير والموت، أقول هذا وأميز بين الأيمان والدوغما العقائدية والاسطورة،مع العلم ان الموت عندي هو نهاية الحياة.

أما لو سألني أبو العلاء المعريإن كنت يسارياً، فأنني أجيبه بأني يساري في معنى الانحياز الى العدل والحرية. وأعنيالعدل الكوني المستحيل التحقق. واذا اعطيت فرصة ان أعيد كتابة ما كتبته مرة أخرى،فإني أعيد كتابته من دون ان أغيّر فيه شيئاً. أي أتركه على حاله لأن لديّ مشاريعكتابة كثيرة متراكمة عليَّ تنفيذها. وان كانت قد بدأت متأخراً في نشر ما كتبت،ومتأخراً أعلنت نفسي كاتباً، وما زلت أكتب مع تقدمي في السن، فإني على يقين بأن لاعلاقة بين الكتابة والنشر. وانا الذي بدأت الكتابة في سن مبكرة، اعتبر ان لا معنىللنصائح في الفن. أي لا معنى لوصفة نقترحها ناصحين الكتاب بأن يبدأوا الكتابة في سنمبكرة او متأخرة من اعمارهم.

أذكر أني كنت أكتب "رامة والتنين" وكان عليّأن أحصل على اجازة من عملي في جمعية تضامن الشعوب الافريقية - الآسيوية التي كنتأعمل فيها لا كموظف، بل كفدائي لا يتوقف عن العمل طوال الساعات الاربع والعشرين مناليوم. لذا كنت أغادر القاهرة الى الاسكندرية، حيث انقطع تماماً عن الدنيا منصرفاًالى الكتابة. واذكر أني بعد انجاز مسوّدة "رامة والتنين" تركتها سنة او سنتين علىحالها، قبل أن أعود الى العمل عليها حين طلب أحدهم مني أن أعطيه كتاباً للنشر. أرويهذه الوقائع لكي أقول ان الأمر نفسه تكرر في مرات أخرى مع قصص وروايات غير "رامةوالتنين". لكني بعدما تقاعدت من الوظيفة في السابعة والخمسين من عمري، رحت أكتببغزارة كبيرة. فرواية"الزمن الآخر"، مثلاً، كتبتها في مدة لا تتجاوز الشهرين. ذلكان كل ما كتبته موجود بالقوة، قبل كتابته، بحسب العبارة البالزاكية.
وإنسئلت ما هو الكتاب الذي قرأته من الأدب العربي والعالمي، وأحب أن أعيد قراءته بينمدة وأخرى، فإني لن أعثر على كتاب معين او محدد. قد يـشغفني احياناً أن أعيد قراءةبعض المقاطع من كتاب "الأبله" لدوستويفسكي. أما نيتشه فقد تأخذني رغبة في اعادةقراءة مؤلفاته كلها. اما كتاباتي فإني لا أطيق قطعاً إعادة قراءة أي شيء منها.
واذا أعطيت فرصة ان انقذ خمسة كتب من كتبي كلها من طوفان أو حريق، فإني لنأنقذ سوى ثلاثة منها، هي "حيطان عالية" و"رامة والتنين" و"ترابها زعفران".


إدوار قـــلـتـــة فــلـتـــس يـــوســــف الـخــــراط
هو إدوار قلتة فلتس يوسف الخراط.
وُلد في 16 آذار 1926 فيالإسكندرية لأب من أخميم في صعيد مصر، وأمّ من الطرانة غرب دلتا النيل. حصلعلى ليسانس في الحقوق عام 1946 من جامعة الاسكندرية.
عمل أثناء الدراسة عقبوفاة والده منذ عام .1943
شارك في الحركة الوطنية الثورية في الإسكندريةعام .1946
اعتقل في 15 أيار 1948 سنتين في معتقلي أبو قير والطور.
تزوج عام 1957 وله ولدان وأربعة أحفاد.
في عام 1959 عمل في منظمةتضامن الشعوب الأفريقية - الآسيوية ثم في اتحاد الكتّاب الأفريقيين - الآسيويين حتىالعام ،1983 وأشرف على تحرير مطبوعات سياسية وثقافية لهما.
سافر الى معظمبلدان أفريقيا وآسيا وأوروبا وأميركا في رحلات عمل.
شارك في إصدار مجلة "لوتس" للأدب الأفريقي - الآسيوي وفي تحريرها، وفي مجلة "غاليري 68" الطليعية،ومطبوعات لكل من منظمة التضامن الأفريقي - الآسيوي واتحاد الكتّاب الأفريقيين - الآسيويين.