عرض مشاركة واحدة
قديم 03-20-2012, 10:37 AM
المشاركة 316
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
السيرة الذاتية: صورة سهيل إدريس الشابّ

محمد جمال باروت
احتلّ سهيل إدريس مكانتَه في تاريخ الرواية العربية الحديثة وتطوّرها بفضل روايته الحيّ اللاتيني (1953) التي صدرت حين كانت الروايةُ العربيةُ تنجِز مرحلتَها الثانيةَ على يد رعيلٍ شابٍّ تباينت سبلُه وتلامعت فيه أسماءُ نجيب محفوظ وحنّا مينة وإحسان عبد القدّوس ويوسف السباعي وحسيب كيّالي... ومن إرث ذلك الرعيل كانت تتلامع رواياتُ إبراهيم المازني وتوفيق الحكيم وتوفيق يوسف عوّاد وشكيب الجابري.نبيل سليمان، "ثلاثية سهيل إدريس تندرج في الجيل الثاني للرواية العربية،" الحياة، 21/2/2008 وتمثِّل روايةُ إدريس علامةً في تطوّر الرواية العربية في مرحلتها تلك، كما في العودة إلى اكتشاف جوانبها الريادية في مرحلةٍ لاحقةٍ، وتحديدًا في إطارِ ما تمكن تسميتُه بلغة جورج طرابيشي نوعًا من تقليد الرواية الجنوسية الحضارية، أو ما وضعه محمد كامل الخطيب تحت اسم "المغامرة المعقّدة،" ونبيل سليمان تحت اسم "وعي الذات والآخر."
مثّلت الحيّ اللاتيني انتقالاً في تجربة إدريس من "المرحلة الرومنتيكية" إلى "المرحلة الباريسية." وإذا كان اسمُ "المرحلة الرومنتيكية" يحيل مباشرةً على تجربةٍ ذات سماتٍ فنيةٍ وأسلوبيةٍ ترتبط بالاتجاهات الأدبية والوجدانية الرومنتيكية، فإنّ "المرحلة الباريسية" متعددةُ الأبعاد والدلالات في تبلور قضايا شخصية إدريس واتجاهاتها.
ترتبط المرحلة الرومنتيكية بسهيل المنتقل من اليفاعة والفتوّة إلى النضج، وتشمل السنواتِ الممتدّةَ بين الخامسة عشرة والرابعة والعشرين، وهي سنواتُ تبلورِ قضايا الشخصية واتجاهاتها الفكرية والسلوكية. في هذه المرحلة، وهي سنُّ الشباب الأول، أنتج إدريس ثلاثَ مجموعات قصصية هي أشواق (1947) ونيران وثلوج (1948) وكلّهنّ نساء (1949)، وهي برمّتها ذاتُ عناوين رومنتتيكية، وتتّسم بما تسمّيه يمنى العيد "الأسئلةَ الأولى" للقصة القصيرة (والواقع أنّ إدريس نفسَه، في تقويمه الاستعادي لها، يعيد طباعتَها تحت اسم أقاصيص أولى، ويضعها في هذا الإطار بوصفها تمثِّل "إنتاجَ الشباب الأول.")"تذكرتُ تلك المجموعات الأولى التي نسيها القرّاءُ، وكدتُ أنساها معهم، فخطر لي أن أعيد نشرَها. ولكني، إذ رجعتٌ إليها أقرأها من جديد، أحسستُ بعدم الرضى عنها، وحكمتُ بأنها لا تمثّلني بعد. بيد أني توقفتُ عند مضمون هذه العبارة الأخيرة: "لا تمثّلني بعد",, إذن فقد كانت تمثّلني من" قبل" في فترة من إنتاجي. فهل يحقّ لي أن أُسقطَها من حساب التطور الفني الذي مرّ به هذا الإنتاج؟ إنني أبتسم الآن لدى قراءتي كثيرًا من هذه الأقاصيص الأولى.... فتنشأ لدي القناعة بأنني لا ألتمس المعاذير إذا حكمتُ بأنها من إنتاج الشباب الأول الذي يفتقر إلى النضج الحياتي والنضج الفني جميعًا.." سهيل إدريس، أقاصيص أولى (بيروت: دار الآداب، 2000)، ص5. لكنّ نشر هذه القصص يتمتع في مفهوم الأعمال الكاملة للكاتب بأهمية خاصة، إذ درج المفهومُ السائد لـ "لأعمال الكاملة" على الاختيار التدخلي الانتقائي للتجارب الأولى، بينما يقوم مفهومُه على نشر كلّ ما أنتجه الكاتبُ مما يسمّى "غثّاً وسمينًا."
وقد يمكن القول إنّ المرحلة الرومنتيكية هي الأكثرُ هيمنةً على أشكال تعبير الذات عن نفسها واختبارِها للعالم في مرحلة الشباب. إلاّ أنّ ما عزّزها هنا هو هيمنةُ الرومنتيكية الأدبية والفكرية والسياسية على تجارب الشباب في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، ولاسيما هيمنةُ الرومنتيكية الأدبية في المجال الأدبي والإبداعي عمومًا بوصفها اتجاهًا بازغًا وصاعدًا. ويُظهر الشعرُ ذلك بأكثر مما تُظهره القصةُ القصيرة بسبب القطب الحكائي والمرجعي الذي يَحكم إنتاجَ الأخيرة من ناحية طبيعتها النوعية السردية.
أما المرحلة الثانية، وهي" المرحلة الباريسية،" فترتبط بإصداره رواية الحيّ اللاتيني (1953) وهو في الثامنة والعشرين، وهي سنّ تُؤشّر على مرحلة الخروج من الشباب الأول، إذ ستسجِّل هذه الروايةُ تطوّرَ إدريس الروائي، الذي سيأخذ مداه من خلال إصداره لاحقًا لـ الخندق الغميق (1958) وأصابعنا التي تحترق (1962)، في شكلٍ روائيّ ينطوي في "الحلقات" الثلاث على سيرة ذهنية ديناميكية وصراعية بين شرقٍ وغرب، وتقليدٍ وحداثة، وبين أجيال مختلفة، وفي تحولات اجتماعية-سياسية لاهبة. إنها في الواقع سيرةُ جيلٍ بأكمله، أُطلق عليها في تاريخ الرواية العربية اسم "ثلاثية إدريس،" وهو وصفٌ تقبّله إدريس وإن كان ينظر إليها على ما يبدو كـ "مراحل مستقلة."سهيل إدريس، أقاصيص أولى، مصدر مذكور، ص 6.
تتمتع الحيّ اللاتيني في سياق "الثلاثية" بأهميةٍ خاصةٍ ترتبط بأنها أهمّ آثار "المرحلة الباريسية" في حياة الكاتب واتجاهاته. فالبطل الذي غادر بيئتَه التقليديةَ الدينيةَ البيروتيةَ إلى باريس كي يكمل دراسةَ الدكتوراه في جامعة السوربون في مطلع الخمسينيات - متلاطمًا بين اندفاعه إلى التحرر من عالمه الشرقي المكبوت وبين خيالات عالم المرأة الغربية الطليق – لا يعود إلى بيروت مجردََ دكتور بمرتبة شرف من السوربون، بل يعود شابّاً ملتزمًا وعضوًا ومؤسِّسًا في جمعية عربية قومية تسعى إلى تحقيق التغيير الشامل، لتسجّل هذه العودةُ في نهاية الشريط السردي نقطةَ بداية في حياة البطل.
تتّسم الجذورُ السيريةُ لهذا البطل بقوة حضورها في العالم السردي؛ بل يشير إدريس إلى أنّ البطل ليس سوى إيّاه (إدريس) في "مرحلته الباريسية."قارن مع سهيل إدريس، ذكريات الحب والأدب، الجزء الأول، ط2 (بيروت: دار الآداب، 2002 )، ص 116 وقد يمكن الذهابُ مع إدريس إلى القول بأنّ بطله ليس شخصيةً من "ورق" بل "من لحم ودم،" وبأنّ الحيّ اللاتيني تمثّل الشكلََ الروائي لتجربته السيرية الباريسية المتعددة الأبعاد. غير أنه لا يمكن اعتبارُ تحوير السيري إلى روائي من مصادر السيرة الذاتية؛ ذلك لأنّ عملية التحوير هذه تنطوي على حركةٍ مقابلةٍ، هي تحويرُ الروائي أو التخييلي إلى سيري، وبشكلٍ يصعب فيه التمييزُ بينهما: إذ يسمح التخييلُ الروائي بتحيين السيري، فتتقدم السيرةُ كفهمٍ للذات في شكلٍ روائي تَحكمه قوانينُ هذا الأخير.
وبكلامٍ آخر، فإنّ الحيّ اللاتيني روايةٌ فنيةٌ لا سيرةٌ ذاتيةٌ؛ بل الأحرى أنها روايةٌ قبل أيّ شيء آخر، ولا يمثِّل التطابقُ بين بطلِها وكاتبِها إشكاليةً خاصةً بالنسبة إلى النقد الأدبي، المعنيِِّ بالنصّ في حدّ ذاته، أو بالعلاقة بينه وبين متلقّيه لا بينه وبين أفكار منتجِه وسيرته الذاتية. كما أنه ليست لمدى هذا التطابق أو انحرافِه، أو لواقعيةِ ما يسرده النصُّ، أيةُ قيمةٍ في حدّ ذاتها، غير أنّ آليات النصّ توهم بواقعيةِ ما تسرده وبمعقوليتِه.
إنّ الجذورَ السيريةَ لبطل الحيّ اللاتيني تهمّ الدراسةَ الأدبيةَ فعلاً، بمعناها الواسع، لا النقدَ الأدبي. وإذا كانت الدراسةُ الأدبية، في منظور التطور النوعي الهائل الذي شهدته الممارسةُ النقديةُ، هي من قبيل النقد التقليدي الذي يَخلط بين عالم الرواية التخييلي والعوالم الأخرى، فإنها مهمةٌ في منظور التقييم الشامل لتجربة الأديب، وقد يمكن إدراجُها في فضاء النقد ما فوق النصّي الذي يتيح مقارباتٍ متنوعةً ومتعددةً تُعتبر المقاربةُ السيريةُ إحداها. وهذا يسمح بالانتقال إلى تمييزٍ آخر بين الرواية والسيرة الذاتية في تجربة إدريس: فالجانبُ السيري يختلف في الرواية عن السيرة الذاتية، لأنّ الأولَ المبثوثَ في أية رواية جزءٌ من الرواية لا من السيرة الذاتية.
إذن، تميّز الإنتاجُ الأدبيُّ لسهيل إدريس، وتحديدًا في الحيّ اللاتيني، بقوة حضور الجذور السيرية، وبآليّاتِ تحوير السيري إلى روائي، وبالعكس. إلاّ أنّ إدريس كتب، إلى جانب ذلك، سيرةً ذاتيةً قريبةً ممّا يمكن وصفُه بـ "سهيل إدريس بقلمه،" وهو تقليدٌ سيري- ثقافي معترَفٌ به في تاريخ الأدب الحديث. وهذه السيرة هي ما تعبِّر عنه ذكرياتُ الأدب والحب (2002).
لكنّ السيرة الذاتية تمثِّل، بدورها، مفهومًا ملتبَسًا: فهي سردٌ يتّسم بخصوصية العلاقة بين الرؤية الحكائية التي تَحكمه وبين الزمن. ولعلّ هذه العلاقة الخاصة هي ما يجعل منها نوعًا إشكاليّاً ينتمي في وقتٍ واحدٍ إلى مستويين: مستوى الواقع ومستوى التخييل. فهل هي نوع يصلح لوضعه في فضاء التراث الشفوي المدوّن؟ أم أنها مجردُ نوعٍ سردي تخييلي يصحّ عليه ما يصحّ على أيّ نوعٍ سرديّ آخر، مهما أوهم بواقعيته ومعقوليته؟ أم أنها نوعٌ هجينٌ يَصلح وصفُه بالنوع الكتابي الذي تتداخل فيه السماتُ الشفويةُ التاريخية المدوّنة بالسمات التخييلية؟
ترتبط هذه الأسئلة بموْقعة السيرة الذاتية بين التاريخ والأدب، في ضوء تحديد القيمة المتوخّاة منها: أهي قيمةٌ أدبيةٌ بحتة، أم قيمةٌ ما فوق أدبية؟ من الواضح أنّ السيرة الذاتية تقع في فضاءٍ وسيطٍ معقّدٍ بين التاريخ والأدب. لكنّ هذا لا ينفي أهميةَ التمييز بين السيرة الذاتية الموجَّهة لأسباب التأريخ والتعريف بتاريخ الشخصية وتطوّرها وعلاقتها بعصرها، وبين السيرة الذاتية المتوجّهة لأهدافٍ تخييليةٍ أدبية. هنا ليس لدينا سوى تحديد استراتيجية صاحب السيرة الذاتية: أهي تنتمي إلى مجال التاريخ، وتَصلح من ثم شهادةً يمكن الاستهداءُ بها أو الاستشهادُ بها في المقاربة التاريخية البحتة ضمن منهجية هذه المقاربة في الفحص والمقارنة، أم أنها تنتمي إلى مجال التخييل الذي له أن "يخترع" حوادثَ وتجاربَ وشخصياتٍ متخيّلةً وإن حملت أسماء ووقائعَ ومجرياتٍ وُجدت بالفعل؟
تنتمي سرديةُ ذكريات الأدب والحب إلى السيرة الذاتية، التي تتوجّه إلى التعرف على حياة الشخصية ومصادر تكوينها وتطوّرها، وإن كانت أسلوبيتُها سرديةً أدبيةً. ويمكن أن نميّز في السيرة الذاتية، وفق استراتيجيات الرؤية السردية، بين شكلين للسيرة: الذكريات (Souvenirs) والتذكارات (Memoires). ففي الذكريات يحرص الكاتبُ على أن تكون الرؤيةُ السرديةُ "مع" ما هو عليه. أما في التذكارات فيَجهد في أن يعيدَ رؤيتَها ليَحكمَ عليها وليجادلَها؛ وهذا يفترض أن ينشطر عن ذاته، وينظرََ إليها "من الخلف." وفي ذلك تبدو التذكاراتُ أقربَ إلى المذكّرات (Journal) من الذكريات، مع التنويه بتداخلها.سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي: الزمن، السرد، التبئير ( بيروت- الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1985)، ص288-289
في ضوءِ هذا التمييز المنهجي قد يمكن القول إنّ الشكل السيري لسهيل إدريس الشابّ في ذكريات الأدب والحبّ ينتمي إلى الذكريات أكثرَ من انتمائه إلى التذكارات، واستتباعًا إلى المذكّرات. ويبدو أنّ إدريس، وهو الخبيرُ المتمرِّسُ بالأنواع السردية المختلفة وبمصطلحاتها، لم يختر عنوانَه عبثًا. ولو سألنا عملَه المعجمي العظيم، المنهل، عمّا يقصده بالذكريات، لأجابنا أنه يعني بها الشكلَ الأول: Souvenirs. وقد يفسِّر ذلك أنّ إدريس لم يستخدم ما تستخدمه التذكاراتُ أو المذكّراتُ عادةً من وسائل أسلوبيةٍ ونصّيةٍ متعددةِ الأنواع والوظائف، مثل الوثيقة والصورة، حيث يهيمن الكاتبُ على اتجاهات الرؤية السردية ودلالاتها في إطارٍ يوهم بواقعيته ومصداقيةِ تبئيره، بل اختار للذكريات شكلاً انسيابيّاً بسيطًا يرافق فيها الكاتبُ دفقاتِها ومقاطعَها وووقائعَها برؤيةٍ سرديةٍ مصاحبة بضمير الراوي/ المتكلّم الذي يحيل على الكاتب نفسه، ويحيل في الوقت نفسه على ذكريات الكاتب/ الإنسان.
يغطّي المتنُ السردي من الجزء الأولرحل إدريس من دون أن يصدر الجزء الثاني، ولا نعرف على وجه الدقة ما إذا كان قد كتب هذا الجزء أو شرع فيه. من سيرة/ ذكريات سهيل إدريس بقلمه فترةً محدّدةً من حياة الكاتب، هي بشكلٍ أساسي فترةُ الشباب بالمفهوم المحدّد للفئة العمرية (15-24 سنة)، مع استرجاعاتٍ واستباقاتٍ محدودة إلى ما قبلها وبعدها. ولا يشتمل هذا المتنُ على معلومات تاريخية استثنائية أو ذاتِ خصوصية، لكنه يشتمل على معلومات سوسيولوجية وثقافية وطوبوغرافية شديدةِ الأهمية في معرفة البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية لفترة التكوّن في حياة الكاتب، والموجَّهة لخدمة التاريخ الأدبي-الفكري الخاصّ. ويُعتقد أنّ إدريس فكّر بتخصيص الجزء الثاني لتجربته الجديدة بعد نهاية "المرحلة الباريسية،" والتي ستشهد بروزَ دور إدريس الديناميكي القومي بامتياز في تأسيس مجلة الآداب وفي تبنّيها الرائد لحركة الشعر العربي الحديث وفي طرح الوجودية كإيديويولوجيا للحركة القومية المهيمنة تميّز وعيَ الذات القومية العربية عن الوعي الماركسي وعن الوعي القومي-الإقليمي، وصولاً إلى تجربة المشروع القومي العربي وتطلّعاته إلى وضع العرب في إنتاج التاريخ، وانكسار راياته بعد الانفصال السوري (1961) وهزيمة الخامس من حزيران (1967).
وبهذا المعنى لا يفيدنا الجزءُ الأول بأكثر من مرحلة التكوين والبزوغ، وهي مرحلةٌ ذاتُ أهمية في إطار وظيفتها المحدّدة والموجَّهة من قبل الكاتب. ويمكن أن نجد فيها جذورًا عميقةً لسهيل إدريس الناضج والمتبلور الذي كان يُفترض بالجزء الثاني أن يسردَها. وفي هذا الإطار العام للجزئين، الأول المنشور والثاني المفترض، فإنّ سيرة إدريس العامة هي سيرةُ التحوّل العاصف من صورة الشيخ التقليدي الذي يعيد إنتاجَ القيم المحافظة السائدة إلى صورة المثقف القومي الحديث، ومن نمط التعليم الشرعي الذي يتلقّاه خرّيجُ الكلّية الشرعية ببيروت يومئذ إلى نمط خرّيج جامعة السوربون في مرحلة غليان الأفكار الحديثة.
ذكريات سهيل إدريس الشابّ المنشورة قابلةٌ للتقسيم إلى جُملٍ أو حزماتٍ سرديةٍ زمنيةٍ ذكرياتية أو سيرية كبيرة من نوعٍ دلاليّ. وهي ما يلي:
1- الجملة السردية الأولى، وهي سرديةُ التكوّن، وتشتمل على "الأصل والمولد والأسرة" و"أهل الجدّة والأم والأخوال." تضطلع جملةُ الأصل والمولد بمكانة الجملة المؤسِّسة للشريط السردي الذكرياتي، وتغطّي حوالى 20 صفحة من مساحة المتن السردي، بينما تضطلع جملتُها التكميليةُ بإنارة المعلومات عن أهل الجدّة والأخوال، والتي تكشف شبكةَ المصاهرات والقرابات البيروتية العميقة، وتغطّي9 صفحات. وتقوم الجملتان بتزويدنا بالمعلومات عن الأسرة وبيئتها القريبة والمباشرة، وانحدارها من أصولٍ مغاربية، ونمطها البيروتي السُّنّي المحافظ في مرحلة هبوب التغيرات الحديثة، وانعكاس الأوضاع الاقتصادية الصعبة في تحويل ربّ الأسرة إلى تاجرٍ مفلسٍ. ولا تعني شجرةُ العائلة لسهيل الشابّ النابض بصورة الجيل الجديد شيئًا في حدّ ذاته، بل يحيط ذلك بسخريةٍ جميلةٍ تتعلّق بتجربة البحث العارض عمّا يمكن أن يكون هناك من إرثٍ وقفي ذُرّيّ (نسبة إلى الذرية) خّلفه الأجدادُ الأدارسةُ في المغرب!
2- تحمل الجملةُ السرديةُ السيرية الثانية عنوانًا مفتاحيّاً هو "جبل النار.. والشيخ الصغير، وبدايات الأدب والحبّ" وتضطلع بتقديم معلومات عن سنوات الطفولة والصِّبا، وتغطّي حوالى 26 صفحة، تنهض فيها صورٌ وشخصياتٌ وأحداثٌ من حيّ البسطة الذي اشتُهر بحيويته الوطنية المبادرة، ويصفه إدريس في ضوء ذلك بـ "جبل النار." ويستعيد إدريس فتوّتَه الأولى بحسّ كاتب القصة القصيرة الذي يعتني بالناس المغمورين والأبطال البسطاء وومضاتِ حيواتهم التي ما إن تشعّ حتى تخبو: الأب التقيّ الفاسد، القريب الذي يقوم بالخير لحاجةٍ في نفسِ يعقوب، قبضايات الحارة...
وتضيء هذه الجملة تكوّنَ إدريس الفتى في إطار هذه الملابسات التاريخية في الكلّية الشرعية ببيروت (1937-1941) التي كانت تؤهّل خرّيجيها الممتازين لمتابعة الدراسة في جامعة القاهرة. ويصف إدريس صورتَه في المتن الزمني لهذه الجملة بتعبيرٍ ينطوي على نوعٍ من المرارة، هو "الشيخ الصغير" الذي وضعه في زوايا الانزواء والسخرية. ويستعيد إدريس هذه الصورة عبر حزمةٍ من الأحداث الصغيرة التي لعبت دورَها في التمرد على نمط الشيخ الصغير الذي كان مقرَّرًا أن يكونَه. ولكن يمكن القولُ إنّ تبرّم سهيل الفتى والشابّ يدين نسبيّاً لما حملته مناهجُ هذه الكلّية من نفحاتٍ حديثةٍ سيكون لها أثرٌ كبيرٌ في تطوّر روحيته الثائرة اللاحقة، ولاسيّما أنها أتاحت له خيارَ التركيز على دروس اللغة والأدب أكثر من الموادّ الدينية، ودراسة اللغة الفرنسية التي واظب على اكتساب مهاراتها بنفسه، بل حاول القيامَ بترجماتٍ مبكّرة. فـ الذكريات تُبرز صورةَ فتًى مشيخيّ يُقبل على ترجمة فصول من رواية آلان فورنييه مولن الكبير، ويرسل فصولاً منها إلى مجلة الرسالة التي كان يرأس تحريرَها أحمد حسن الزيّات، حالمًا بأن ينشر فيها كما فعل أستاذُه علي الطنطاوي.
وربما كانت تجربةُ الفتى في ترجمة مولن أولَ تجربةٍ له بهدف النشر، لكنها كانت أولَ تجربةٍ له في الحبّ العنيف أيضًا. كأنّ الحياة تقلّد الفنَّ كما في قولة أوسكار وايلد، أي كأنّ إدريس يحاكي على طريقته تعلّقَ مولن بإيفون دو غاليه. وقد كتب سهيل عن ذلك الحبّ، كما يخبرنا، سبعين صفحة في شكل مذكّراتٍ روائيةٍ أعطاها عنوانًا رومنتيكيّاً خالصًا هو "أشعّة الفؤاد،" ومن حسن الحظّ أنه يُعلمنا أنها مازالت في أرشيفه، وقد طَبعت آثارُها قصصَه الأولى حتى الخمسينيات.ذكريات الأدب.. والحب، مصدر سبق ذكره، ص 50. في حال التفكير بإصدار أعمال كاملة لسهيل إدريس فإنه ينبغي نشرُ هذا النصّ، بغضّ النظر عن مستواه الفني. كما ينبغي نشرُ الرواية المسلسلة التي نشرها إدريس فعلاً تحت عنوان "السراب" في بيروت المساء، وكافة مراسلاته. في هذه المذكّرات كان إدريس الشابّ يمرّ بمرحلته الرومنطيقية الساذجة، وبخبرةٍ أولى في التعرّف على المرأة، وهو ما سيضطلع بدوره في تحرير الكاتب من صورة الشيخ المحافظة المنطوية على نفسها وعلى معارف "الحلال والحرام." وتنتهي هذه المرحلة في العام 1941 بخلع إدريس الشابّ للزيّ الديني على الرغم من عدم رضا والده عن ذلك، وبإعراض الكلّية عن إيفاده لإكمال دراسته في جامعة القاهرة. وكان إدريس يعبّر بعمله ذاك عن اختيار الفتى المتوهّج طريقَ الأفندي لا طريقَ الشيخ، وطريقَ المثقف الحديث لا طريقَ الشيخ التقليدي.
3- تحمل الجملة الثالثة عنوان "من الصحافة إلى الأدب،" وتغطّي مساحتُها النصّية حوالى 16 صفحة، بينما يغطّي مداها الزمني حوالى 8 سنوات (1943-1950). ويُعتبر هذا المدى الزمني مرحلةَ تحوّلات كبيرة انعكست آثارُها، ولاسيما السياسية، وفي عدادها معركةُ الاستقلال اللبناني وقضيةُ فلسطين، في وعي إدريس الشابّ، الذي يضيف إلى تمرّده على نمط الشيخ كسرًا لهيبة القيادة التقليدية البيروتية: فباستثناءِِ ما يمحضه من احترامٍ لرياض الصلح، فإنه يَسخر بشكلٍ مريرٍ من الوجهاء البيروتيين الآخرين الذين مثّلوا "أهلَ الحلّ والعقد" للبيروتيين. وفي هذه الفترة عمل إدريس محرِّرًا في مجلة الصيّاد لصاحبها الصحفي اللبناني العصامي المعروف سعيد فريحة، وذلك لأسبابٍ ثقافيةٍ واقتصاديةٍ تتعلّق بمساهمته في إعالة الأسرة التي غدا والدُها مفلسًا. وتتمثّل أهميةُ معلومات هذه الجملة في بروز تجربة إدريس الشابّ القصصية، التي أتاحت له، بحكم اتجاه موهبته ومتطلّبات العمل في تحرير الصيّاد، تأليفَ القصص القصيرة التي قام بإصدارها في ثلاث مجموعات هي: أشواق (1947) ونيران وثلوج (1948) وكلُّهن نساء (1949)، وكذلك تجربة النشر في بيروت المساء وغيرها. وربما وفّرت هذه القصص، ذاتُ العناوين والمضامين الرومنتيكية والمرتبكة، لإدريس الشابّ خبرةً هائلةً في التدرّب على الكتابة والإنتاج، وفي التواصل مع كتّابٍ وأدباء ناهضين في تلك الفترة مثل أنور المعدّاوي وسعيد تقيّ الدين وسيّد قطب وغيرهم، ولاسيما أنها ترافقت مع سجالٍ أدبيّ حول فنّ القصة وطرق تقويمها.
4- الجملة السردية الرابعة، وترتبط بالمرحلة الباريسية في تجربة إدريس، وتغطّي مساحةً نصّيةً كبيرةً تزيد عن نصف صفحات الذكريات، ويشمل متنُها الزمني الأساسي مرحلةَ السنوات 1949-1952 التي تمكّن فيها من تسجيل الدكتوراه في جامعة السوربون ومن إنجازها تحت عنوان: الرواية العربية الحديثة من 1900 إلى 1950 والتأثيرات الأجنبية فيها. وتضيء هذه الجملةُ بدرجة أساسية نوعيةَ الصداقة الثقافية–الأدبية والشخصية العميقة التي ربطت إدريس بكلٍّّ من الناقد المصري أنور المعدّاوي والأديب اللبناني سعيد تقيّ الدين. ويتوسّع إدريس هنا في استخدام الرسائل (38 صفحة مع المعدّاوي و52 صفحة مع تقيّ الدين)، وفي تركها تروي بنفسها تجربتَه من خلال منظورات حوارية متعددة. وقد يرتبط اهتمامُ إدريس الكبير بالرسائل في سرد ذكرياته باهتمامه المبكّر بهذا النوع الكتابي، ومحاولةِ إدماجه في السرد؛ وهو ما تعبّر عنه تجربتُه السرديةُ في أقاصيص أولى التي ترتبط بمرحلته الرومنتيكية ما قبل الباريسية، إذ يكثر استخدامُ الرسائل في قصص "أشواق" و"أمومة" و"أصداء" و"الحرمان" و"دموع في الكونتنتال" و"لعنة الحب." وسيعزّز إدريس أسلوبَ الرسائل في إطار تنويع أشكال السرد في مرحلته الباريسية التي تمثّل الحيّ اللاتيني أهمّ أثرٍ مرتبطٍ بها خصوصًا وبتجربة إدريس الأدبية عمومًا. لكنّ الرسائل المتبادلة بينه وبين المعدّاوي من جهة وتقيّ الدين من جهة ثانية تضطلع بأهميةٍ تاريخيةٍ كبيرة في منظور تاريخ الأدب وتطوّر المفاهيم الأدبية والنقدية في تلك الفترة. كما تضطلع مراسلاتُه مع تقيّ الدين بأهميةٍ خاصةٍ أيضًا بالنظر إلى الصداقة العميقة التي ربطت بينهما وافتراقها بتأثير حدّة الاستقطاب المحتدم في الخمسينيات بين الحزب السوري القومي الاجتماعي والحركة القومية العربية: ففي حين حدّد إدريس مصيرَه بقضايا الحركة العربية ومشروعها القومي، انخرط تقيّ الدين في حركة الحزب المذكور وأخلص له حتى حافة الهاوية، جامعًا بشكلٍ معقّدٍ بين شخصيته القوية الساخرة وتعلقه بإعادة اكتشاف اللغة الجارية واندفاعه خلف المُثل البطولية المرتبطة بفلسطين ومنعة الأمة. ويكشف تقيّ الدين في مراسلاته مع إدريس عن فهمٍ معمّقٍ ومتطوّرٍ للقصة القصيرة تجدر بنا العودةُ إليه ووضعُه في مكان التطور التاريخي في الأدب العربي الحديث لهذا المفهوم وممارساته الأدبية، إذ لا ريب في أنه يبدو سبّاقًا في الفهم الناضج والمكين لهذا النوع الأدبي.
***
تضيء ذكريات الأدب والحب مرحلةً مهمةً ومبكّرةً من حياة سهيل إدريس الشابّ الشخصية والأدبية والفكرية، وتضطلع بأهميةٍ خاصةٍ في منظور الدراسات الأدبية وتاريخ الأدب العربي الحديث خصوصًا، وتشكّل صورةَ المثقف الحديث في منظور نظرية الحداثة. وهي تقطع الشريطَ السردي عند مرحلة أوائل الخمسينيات، مع أنها تقوم باستباقاتٍ محدودةٍ إلى ما بعدها. ويثير ذلك أسئلةً عن الجزء الثاني أو الأجزاء الأخرى المحتملة، التي لا بدّ أن تكتسب أهميةً كبرى لأنها تتعلّق بمرحلة التحوّل والأسئلة والصراعات الكبرى التي انخرط فيها إدريس في مرحلته ما بعد الباريسية، وبامتلاك إدريس معلوماتٍ هائلةً عنها بحكمِ ما لعبته مجلةُ الآداب ومعاركُها في تطوّر الثقافة العربية الحديثة، وبحكم مكانة سهيل إدريس الديناميكية في الجيل الكبير الرائد والمؤسس في الثقافة العربية.
حلب