الموضوع: كشكول منابر
عرض مشاركة واحدة
قديم 10-20-2019, 08:14 AM
المشاركة 2131
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي رد: ( مليون رد ) ك ش ك و ل = م ن ا ب ر

(3)
ولكي يتسنى لنا تمييز شعر التقليد من شعر العاطفة، يجب أن نوضح الشعر بمعناه الصحيح كما نرتضيه ويرتضيه نقده الكلام فهو تصوير لعاطفة حساسة، ووحي لوجدان مرهف، وحديث قلب خفاق يدرك من دقائق الأشياء ما لا يدرك غيره من القلوب، وإبراز لهذه الأحاسيس في صور من اللفظ والخيال البديعين، حتى ليخيل إليك وأنت تسمعه أن نفس الشاعر تسيل في ألفاظه، وتتدفق في بيانه فلا تلبث أن تؤاخي هذه النفس، بل لا تلبث أن تسيل معها في هذه النفحات، وتصبح وتراً من الأوتار يردد هذه الأحاسيس، فتتجاوب نفسك ونفس الشاعر، وتحلفان معاً في جو من الخيال البديع: تعيشان تارة بين الخمائل النضر والرياض الأريضة، تبتهجان للحياة وتريان فيها المسرة والإنياس، وقد يجذبك إلى جو من التشاؤم والضيق بالناس، فتضيق، وتتمنى أن لو عشت فريداً وحيداً.

هذا هو الشعر كما يجب أن يكون، فإذا بعد عن هذا الأفق وزل عن هذه المكانة، كان تكلفاً وتقليداً لا غناء فيه، واستبان الناظر فيه فساد السليقة وفتور العاطفة. ونحن نعرض هنا مثلاً من شعر التقليد في القرن التاسع عشر، وستدرك فيها انحداراً عن المستوى الرفيع وتجافياً للمنهج المستقيم.

طلب أحدهم من الشيخ شهاب الدين أن يكتب له أبياتاً لينقشها على مائدة الطعام، فقال أبياتاً منها:

أيها السيد الكريم تكرم ... وتناول ما شئت أكلاً شهيا

وتفضل بجبر خاطر من هم ... أتقنوا صنعه وخذ منه شيا

وبدهي أن يأتي هذا الكلام (ولا أسميه شعراً) فاتراً بارداً لا يحمل خيالاً كريماً، ولا معنى لطيفاً، إذ لم يتجاوز القلم واللسان إلى ما وراءهم العاطفة والشعور، ولا يزيد قائلهما إحساساً بهما عن إحساس الكتبة الذين يقتعدون منافذ المحاكم، ومكاتب البريد: إنما هي كلمات مرصوصة، وصور باهتة محفوظة، تحبر في الورق بريشة جف دهانها وحركتها يد مسخرة مأجورة، فجاءت لا تحمل من شخصية الفنان قليلاً ولا كثيراً.

وأطرف من هذا قصة شاعر آخر هو عبد الجليل البصري المتوفى سنة 1844 فقد طلب منه أحد الشحاذين أبياتاً يتكفف بها الناس، وينال بإنشادها إحسانهم فكتب له:

يا ماجد ساد عن فضل وعن كرم ... وهمة بلغت هام السماك علا

يا من إذا قصد الراجي مكارمه ... نال الأماني وبراً وافراً عجلا

إنا قصدناك والآمال واثقة ... بأن جودك ينفي فقر من نزلا

جئنا ظماء وحسن الظن أوردنا ... إلى معاليك لا نبغي بها بدلا

لقد أضر بنا جود العداة وما ... أودى بنا الدهر يا بؤس الذي فعلا

عسر وغربة دار ثم مسكنة ... وذلة وفراق قاتل وبلا

إلى آخر ما قال في ذلك.

ولست أرى في هذه الأبيات إلا ما يثير العجب، ويدعو إلى الإشفاق على الشاعر الذي أضاع وقته فيما لا يجدي ولا يفيد. وإنه ليخيل إلى أن الشاعر حينما أراد أن ينظمها كان يضع كلمة بجانب كلمة، ويتصيد الكلمات الأخرى ليتم الوزن، ولعلنا نحس هذا في الشطر الثاني من كل بيت.

والشاعر لا يجيد، ولا يتيسر له أن يجيد، إذا حمل على الشعر حملاً، وطلب إليه أن يقول في غرض لم تهتف به نفسه، ولم تستجب له عواطفه؛ وإنما يحسن ويصيب إذا انطلق على سجيته ولبى رغبة نفسه فيكون مثله عندئذ مثل الطائر يغرد إذا شاء ويتوقف إذا أراد، أو كالزهرة تعبق إذا ما اجتمعت فيها عناصر الشذا وتفتحت عنها الأكمام.