عرض مشاركة واحدة
قديم 05-30-2012, 02:51 PM
المشاركة 729
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
المشهد الأدبي التونسي وملامح المستقبل
د.محمد القاضي
قد يستغرب المرء أن يكون الحديث عن الأدب في علاقته بآفاق المستقبل، والحال - أن دراسة الأدب إنما تنطلق أساساً من الزمن الذي يتنزل فيه الإبداع، ولهذا فإننا نرى من المهم أن نبادر إلى تحديد مقصدنا من الربط بين الأدب والمستقبل. فإذا اعتبرنا الأدب نشاطاً إبداعياً جمالياً قائماً على التخييل ترتّب على ذلك منطقياً أن ننزّله في سياق اقتصادي واجتماعي وثقافي، أو قل في سياق حضاري، ومن ثم فإن الأديب- وهو يبدع- لا يعنى بالماضي أو الحاضر بقدر ما يعنى بالمستقبل، لأن القول كما بين علماء الحجاج أو البراقماتيون (Progmaticiens) إنما هو فعل. وبناء على ذلك فإن جوهر كل أدب أن يدفع بمتقبّله إلى الإقرار بفكرة أو مبدأ أو قيمة، والانخراط في تصور تجسده مواقفه وأعماله.
إن هذه النظرة لا تنطوي على تهجين للأدب أو تسطيح له بردّه إلى وظيفة عملية محض، وإنما هي إقرار بدور الأدب في دفع حركة التاريخ ونحت مستقبل أفضل للإنسان.
نعم، إن عصرنا هذا قد تميز بتطور وسائل الاتصال تطوراً مشهوداً هدد الأدب المكتوب، ودفع ببعض المفكرين إلى الخشية عليه من أن يلفظ أنفاسه وينهار صرحه أمام جبروت الأقمار الصناعية وأسطوانة اللايزر وشبكة الأنترنت، غير أن الأدب كذّب هذه التوقعات، وظل- رغم هذا الانقلاب الجامح- صامداً لأنه وليد الإيمان بأن إنسانية الإنسان لا تؤول إلى مقوماته المادية، ذلك أن هم الأدب أن يثير القضايا ويفجّر المكبوت، ويخوض غمار الذات الانسانية ويعبّر عن مسيرة انسان من الماضي السحيق إلى المستقبل غير المنظور، وانطلاقاً من هذا يجوز لنا أن نعرف الأدب بأنه مصنع المثل العليا ومتنفس البشرية حين تستبدّ مشاعر العجز والقهر مهما كان مأتاها، إن الأدب الحق كان في كل زمان ومكان تعبيرا عن الطاقات الكامنة في الانسان وتحريراً له من القيود، ورفضا لما في الواقع من زيف وقبح، وتوقا إلى عالم بديل من مقومات سحره وفتنته أن يظل أبداً في حيز الطموح، لأنه ممهور بالحلم. وحين يتحقق الحلم يكفّ بداهة عن أن يكون.
والناظر في الأدب التونسي المعاصر يلاحظ أنه تجاوز مرحلة التحسّس وأصبح على حال من النموّ يمكننا معها أن نؤكد أن بعض النماذج فيه تضاهي مثيلاتها في الأدبين العربي والعالمي وتتفوق عليها، وليس ظهور عدد كبير من دور النشر الخاصة وإصدارها عناوين كثيرة في مختلف الأجناس الأدبية إلا دليل على هذه النهضة التي يشهدها الأدب التونسي، مما يبوئه للاضطلاع بدور فعال في ترسيخ صورة للمستقبل ذات ملامح مميزة.
ومما يختص به المشهد الأدبي المعاصر في تونس أمور منها:
1- ازدهار الرواية: وهو ازدهار لا ينفصل عما تشهده الآداب الأخرى. فقد أخذت الرواية تتربّع على عرش الإبداع الأدبي وتغير على الأجناس الأخرى وتأكلها، حتى أصبح من الجائز أن نتحدث عن أمبريالية الرواية. ولنا أن نذكر ههنا "حروف الرمل" "لمحمد آيت ميهوب" و"الدراويش يعودون من المنفى" و"شبابيك منتصف الليل" لإبراهيم الدرغوثي، و"المؤامرة" و"التبيان في وقائع الغربة والأشجان لفرج الحوار" و"دار الباشا" لحسن نصر، و"النخّاس" لصلاح الدين بوجاه، و"هلوسات ترشيش" لحسونة المصباحي، ومتاهة الرمل "للحبيب السالمي.. وهي نصوص فيها الكثير من الفن، مما يجعلها جديرة بأن تمثل خير تمثيل الإسهام التونسي في هذا اللون من الإبداع.
2- ازدهار قصيد النثر: والحق أن الشعر العمودي وإن وجد في محمد الغزّي وجمال الصليعي خير مدافع حتى عاد إليه من كان متمرداً عليه مناصباً إياه أشد العداء وأعني الطاهر الهمامي، فإن المقبلين عليه قد قلّ عددهم في حين ظل للشعر الحر عشّاقه من قبيل الميداني بن صالح ومحمد الغزّي والمنصف الوهايبي وأولاد أحمد ومحي الدين خريف ومحمد الخالدي والمنصف المزغنّي وسويلمي بو جمعة ومحجوب العياري وحسين العوري وفتحي النصري.. على أن الظاهرة التي تسترعي الانتباه الإقبال على قصيدة النثر على نحو ما يظهر في كتابات سوف عبيد وحسين القهواجي والطيب شلبي وباسط بن حسن وشمس الدين العوني ومحمد فوزي الغزي.. وفي هذا النوع من الكتابة سعي إلى خرق المألوف وكسر العادات القرائية وتجاوز أفق الانتظار الذي تأسس على عمود الشعر وشعر التفعيلة.
3- ازدهار الأدب النسائي: إذ أكدت بعض الأديبات قدراتهن من قبيل عروسية النالوتي ونافلة ذهب وبنت البحر وفضيلة الشابي وفاطمة سليم وفوزية العلوي وزهرة العبيدي وربيعة الفرشيشي، وجميلة الماجري في حين ظهرت أسماء جديدة منها آمال مختار وعلياء التابعي ونجاة الورغي وطاوس بالطيّب وكاهنة عباس وإيمان عمارة وراضية الرياحي.. وما هذه الحركة التي شهدتها الكتابة الإبداعية النسائية بتونس إلا صدى للمنزلة التي أصبحت تحتلها المرأة في المجتمع منذ الاستقلال والدور الذي أصبحت راغبة في الاضطلاع به في هذا المجتمع.
وليس من شك في أن هذا الحيّز لا يكفي لاستعراض هذه النصوص جميعاً أو حتى أبرزها، وسعياً منّا إلى عدم الوقوع في سطحية التلخيص وسذاجة السبر التاريخي فقد اخترنا أن نعالج مسألة العلاقة بين الأدب التونسي والمستقبل من خلال نقطتين نعتبرهما رئيسيتين وهما:
- صورة الوطن في هذا الأدب: وطن اليوم وطن الغد.
- أشكال الحداثة ومضامينها في هذا الأدب: النص والعالم.
...........
صورة الوطن في الأدب التونسي: وطن اليوم وطن الغد.
إن التحولات التي شهدتها الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة قد انعكست على الشعر التونسي فمر من طور الكلاسيكية الجديدة إلى طور الرومنسية إلى طور الواقعية إلى طور الواقعية الاشتراكية ولكن هذه الأطوار تراخت قبضتها شيئاً فشيئاً، وأخذ الشعر يروُد مناطق أقل التزاماً بالواقع اليومي المتحول وألصق بالتجربة الإنسانية الجمالية التي يغدو فيها الشعر عملاً على اللغة لا تصويراً لواقع خارج عنها، ويترتّب على هذا أن علاقة الشعر بما ليس شعراً قد انقلبت رأساً على عقب.
وقد حاولنا أن نرصد صورة الوطن في الشعر التونسي الحديث فبان لنا أنها مجال خصيب لدراسة هذا التطور، ورأينا أن النصوص الإحيائية أخرجت الوطن في صورة مثالية استخدمت لأدائها البلاغة القديمة المتوسّلة بالتشبيه والازدواج والمحسنات البديعية والبيانية، ومن ثم كان الوطن عند الشاذلي خزندار بمثابة الإله المنفصل عن الكون، فهو خارق للزمان تتغير الأعصر والأحوال وهو لا يتغير، إنه مثل أعلى لا يعتريه التحول، وليس على محبيه إلا أن يعيدوا إليه صورته الأصلية التي دنستها الأعراض الزائفة، وبناء على ذلك فإن الوطن الحق هو ذلك الوطن الثاوي في أعماق التاريخ، والذي ينبغي أن نزيل عنه الغبار لتعود إليه صورته الأزلية الأبدية، ومن هنا فإن مستقبل الوطن ينبغي أن يكون نسخة من ماضيه، يقول الهادي المدني:
أترى يعود المجد مجد بلادي
أم هكذا تبقى على استعباد
وعلى هذا النحو تندرج صورة الوطن في سياق الحركة السلفية التي تريد التجديد ببعث الماضي، وكما كان الوطن جوهراً مثالياً غطته الأعراض السلبية فإن شعرية الوطن ظلت في عمقها تقليدية تستنسخ البلاغة المعتقة.
إن هذه الصورة ستنتقل مع الرومنطيقيين من المثالية إلى الكونية، وبهذا فإن شعرية الوطن عندهم تجلت في امتداد مساحة الوطن وخروجه من الحيز الضيق إلى المدى اللاّمتناهي حيث الحياة والنور. يقول الشابي:
ألا انهض وسر في سبيل الحياة
فمن مات لم تنتظره الحياة
إلى النور فالنور عذب جميل
إلى النور فالنور ظل الإله