عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
8

المشاهدات
3901
 
رشيد الميموني
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


رشيد الميموني is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
597

+التقييم
0.12

تاريخ التسجيل
Dec 2010

الاقامة
تطوان / شمال المغرب

رقم العضوية
9563
07-24-2011, 01:06 AM
المشاركة 1
07-24-2011, 01:06 AM
المشاركة 1
افتراضي قليل من الزنجبيل
قليل من الزنجبيـــــــــــــل


[justify] [/justify][justify][/justify]
[justify][/justify][justify][/justify][justify][/justify]
[justify]


تبدو الشوارع والساحات مقفرة . لا شيء يدل على الحياة ، أو هكذا يخيل إليه وهو يسير على غير هدى . يجر رجليه جرا نحو الضاحية الجنوبية للمدينة الغارقة في الصمت والغبار. الشمس باهتة في حثيثها نحو المغيب ، والسماء لا لون لها . كل شيء ينم عـن لا شيء.. لا لون ولا طعم ، لكن رائحة عفنة تزكم أنفه وتسد خياشيمه .. يحس بالوحدة . أين الجموع التي كانت تملأ الطرقات طولا وعرضا ، وتكتنفه بحميميتها رغم سلبيتها وحيوانيتها ؟ آه.. تذكر المونديال وحرارة المونديال .. النهاية . من سيفوز ؟.. الرهانات و المشادات تكثر ويعلو الصياح فجأة :"گوووووول !"

انتفض في مكانه مفزوعا وشعر بالحنق نحو الهاتفين الذين غصت بهم المقاهي وساحاتها ثم ابتسم ساخرا .. تمثل له المونديال عصابة سوداء تغطي الأعين.. ".. لم يعد ما يشغل الألباب في هذا الصيف الطويل سوى الركض الجنوني وراء هذه الجلدة الملعونة كما يسمونها.. الصياح والهتاف و البطاقات الصفراء والحمراء و.. أخيرا رفع الكأس .. ماذا تعني كل هذه التفاهات ؟ هل تستحـــق كل هذا الوقت المهدور ؟ ".. لن ينسى قول أحد المعلقين الرياضيين وقد بح صوته وتناثر الزبد من بين شدقيه ، وجحظت عيناه إثر فوز الفريق :" الليلة.. لن ننام ولن نأكل ولن نشرب ..." لماذا لم يضف أشياء أخرى .. مثلا.. لن نضاجع ، ولن نثمل؟..لا شك أنــــه عمل بقول هند بحذافيره :" إن تقبلوا نعانق .. إن تدبروا نفارق.."
يركل بعنف قنينة جعة ويزفر غيظا.. هل أغضبه انشغال الناس عما هو أهم و أخطر ، أم أن خلو الطريق منهم زاد من قلقــه و من وطأة الوحدة عليه ؟.. والقطط ؟ والكلاب ؟.. أين هي ؟ ولم اختفت هي كذلك ؟.. أمنشغلة هي بدورها بمونديال خاص بــــها ؟ أم تراها توجست خيفة من اقفرار المكان وتنبهت بغريزتها إلى الأخطار المحدقة .
تثير لعابه لوحة إشهار تمثل مشروبا فيبلع الريق بصعوبة . ما أشد ألم اللوزتين عند البلع . كان الطبيب صادقا يوما حين قال له محذرا :" أغلب الأمراض مرجعها التوتر والانفعال.." صديقه الراضي أكد له ذلك حين روى كيف عانى من مغص في معدتـــه ولولا عناية الله وتريثه لاتبع تعليمات أحدهم بإجراء العملية . إذن فالحال ينطبق عليه .. يتذكر شجار الصباح وعويل لمياء ويريد أن ينسى ، لكن المشاهد تأبى إلا أن تنهال على مخيلته .. متى ينتهي كل هذا وكيف ؟.. لا يمر أسبوع ، منذ زواجهما دون شجار.. كانت فترة خطوبتهما – يا للحسرة – من أحسن فترات العمر . أما بعد ذلك فأسباب المودة انتفت حتى صار الأهل والأصحاب يستغربــون لرؤيتهما يتجاذبان أطراف الحديث في صفاء .." ربما صار يخاف منها.. كلا لقد روضها.. بل تمكنت منه ولا حول له ولا قوة .. بل قل إنها لن تجد مثله طيبة وخضوعا.. يا لكيد النساء.. لا تثق بالمظاهر ، هو نار تحت الرماد.."
تقوده خطاه قبالة الكنيسة فيتوقف عن السير. ينظر إلى أحد المعتوهين وهو قابع عند بوابتها الحديدية ،بينما انتصبت أمامه إحدى الراهبات تحدثه في وقار. ما أهنأهما.. وما أشد ألمه.. ليعد إلى المنزل ، و إن كان لا يطاق . هل يجرؤ على العودة إليه وكلمات لمياء لا تزال سياطا تدمي قلبه؟.. عيرته بألا منزل لديه و أنها مالكة كل شيء. وإذا حدث و تمرد ، أخرجته بمعية أهلها بقوتهم وجبروتهم، وبقوة القانون ، قبل أن تختم مهددة بأن نصف ما يملك سيصير ملكها أيضا في حالة الانفصال.. هل يعود بعد كل ما سمع ؟ صعــب عليه ذلك.. لكن ، عليه بالعودة و إلا انهار أمام الكنيسة .. الوهن يدب إلى جسده.. يتخيل نفسه ممددا على سرير داخل الكنيسة وقــــد أسعفته الراهبة بدوائها وحنوها .. ينتفض على صيحات المقاهي هادرة : "گوووول".. فيغمغم: "اللعنة عليكم.. رهط المغفلين ."
يصعد السلالم بمهل . يترنح قليلا ويحس بالغثيان .. يقف مسندا ظهره إلى الحائط المهترئ ويغمض عينيه . يسمع وقع خطوات تنزل ثم تتوقف.. يفتح عينيه ليجد عينين نجلاوين تحدقان فيه . السلالم شبه مظلمة ، لكنه استطاع أن يميز صورة فتاة لم يرها إلا منذ يومين ، جاءت لزيارة أختها .. جارتهم . لكنها استطاعت أن تزيل الكلفة مع الجميع . تبادر بالتحية ، وتبتسم لكل من قابلها ..
- سي مراد ؟.. مالك ؟.. هل أنت بخير ؟
- لا شيء.. شكرا.. اللوزتان لا غير.. وقد تعبت .
- هل أساعدك على الصعود ؟
- أوه ..كلا ، ليس هناك ما يدعو لذلك .
- إذن احذر أن تزل قدمك .. قل لي.. هل تستعمل دواء ؟
- في الحقيقة كلا.. أو قولي أجرب كل شيء .. وها أنت ترين .. بدون جدوى .
- اسمع.. أنصحك بالزنجبيل.. "بسماية" الله .
- حقا ؟ سوف أستعمله ..
- انتظر .. سوف أعد لك كوبا منه .. أختي لديها الكثير منه .. سوف ترى .
تراجعت بخفة قبل أن ينطق بكلمة ، لكنه دخل إلى المنزل واستلقى بوهن على السرير.. يحس بالانتعاش بضع لحظات قبــل أن يضطر للنهوض ويفتح الباب . تناوله الفتاة كأسا وتقول مبتسمة دائما :
- هذا هو الزنجبيل .. كاس منه كل صباح وكل مساء ، وتشفى بإذن الله .
- شكرا لك .. سأعيد لك الكأس بعد قليل .
- لا داعي لذلك .. اشرب الدواء ثم استرح "
تنبعث من الشارع صيحة أشد وأقوى "كووووووول !"، لكن ذهنه لا يعير ذلك أي اهتمام.. حنجرته تلتهب بفعل الزنجبيل . تشمله راحة وطمأنينة ، وينظر إلى الباب المورب.. يتصاعد الهرج و يمتلئ الجو بزعيق أبواق السيارات.." لتذهبوا ومن ربح إلى الجحيم"
يسمع نقرات خفيفة على الباب ، و تطل الفتاة مستفسرة .. فينهض بإعياء..
- كيف الحال الآن ؟
- أحسن.. وإن كنت أحس بحلقي نار..
تضحك ، فيضحك أيضا.. يا لطعم الضحك الذي لم يذقه منذ زمان .
- شكرا لك على تعبك معي ..
- لا داعي للشكر .. نحن كالجيران ما دامت أختي جارتكم .. حاول أن يكون لك احتياط من الزنجبيل للطوارئ .. وداوم عليه .


- سوف أفعل .. وإذا افتقدته أرسلت إليك .

صمتت قليلا بينما عيناها تبتسم ، وقالت :
- أنا تحت تصرفك .. المهم أن تشفى .. مع السلامة .

يظل جامدا في مكانه قبل أن يعود إلى السرير ويتهالك عليه .. ينظر إلى الساعة.. عما قليل ستأتي لمياء.. يرن اسم لمياء في أذنه رنينا غريبا كأنه يسمعه لأول مرة .. يحاول الربط بينه وبين الوجه الذي ألفه وعاشره منذ سنوات فلا يفلح.. يتناهى إليه صوت المفتاح ، ثم خطوات لمياء..


- أنت هنا ؟.. حسبتك ذهبت لزيارة أمك .
ماذا تعني ؟..هل تلمح إلى أن كلماتها في الصباح قد تكون أثرت فيه و أثارت كبرياءه ..
- لا.. ولكني سأقيم عندها بضعة أيام ريثما أشفى من اللوزتين ..
- آه.. حسنا .

كيف يفسر خلو ذهنه من أي توثب للشجار، ونفسه من أي شعور بالتحدي ؟ كان بالإمكان نشوب جدال حالما انتهت من سؤالها. ينظر إليها فيعجز عن إدراك شعوره نحوها .. مودة ؟ شفقة ؟ شماتة ؟

- كم من مرة نصحتك باستئصالهما.. ألا تدرك خطورة التهابهما على القلب ؟.. أم تريد أن تبتلى بمرضه ؟
- و أصير عالة عليك؟..
حملقت فيه برهة كأنها لم تصدق ما قاله ، ثم انصرفت إلى المطبخ .. كتم ضحكة وتوثب للرد على سؤال توقعه :
- ما هذا ؟- سألت وهي تريه الكأس-
- زنجبيل ؟
- لماذا ؟ ومن جلبه ؟
- هو للتداوي من التهاب اللوزتين.. فوائده جمة.. الله يجازيها خيرا أخت جارتنا .. رثت لحالي و...
- هل تجرأت على دخول منزلي ؟
- لا.. اطمئني.. ناولتني إياه بالباب ..
- ألا تخجل من نفسك ؟.. ما هذا الجهل ؟ زنجبيل ؟ ومن يد جاهلة لا تراعي الأصول ؟
- لمياء.. أريد أن أنام وأستريح..تصبحين على خير .

لكنه لا ينام ، رغم إطفاء النور وخفوت الضوضاء في الشارع ، وخروج لمياء من الحجرة . تسري في أوصاله برودة منعشة ويحدق في الظلام فلا يرى سوى خيوط متشابكة زاهية الألوان.. كيف السبيل لفكها عن بعضها البعض ؟ تبدو له حياته مثل تلك الخيوط ، في هذا اليوم ، بل في هذا المساء بالذات.. حنجرته لم تعد تؤلمه . هل هو الزنجبيل ؟ .. وهذه السكينة التي تعم كيانه في هذه اللحظة ؟..لا الضجيج ولا وهج الأنوار الساطعة ولا حتى صراخ لمياء ونكدها يمكن أن يثير أعصابه.. ولمياء بالذات.. يريد أن يعرف كيف تغير شعوره نحوها فجأة ، بعد أن صار لا يطيق سماعها ولا حتى رؤيتها.. لم يفكر قط في هجرها.. فقط لو لم تجرحه بتلك الكلمات. لكن ، هل هي المرة الأولى التي تذكره بتحكمها في المنزل ؟ لا يدري.. ويحاول جاهدا نسيان أو تناسي كل شيء في هذه اللحظة . فليصفح وليعف عما سلف .. حقا ، لن ينجو من محاسبة الصباح ومن سيل من الأسئلة عما جرى أثناء غيبتها. في الماضي كان يتوجس من كثرة المساءلة ويضيق ذرعا بالمؤاخذات واللوم . أما اليوم فلا شيء يعنيه ، وإلحاح لمياء على معرفة أدق التفاصيل عما حدث وعما قيل إزاء الباب بالأمس ، لا يزيده سوى استهتارا بما تقوله . وفي لحظة ، يقف وهي في أوج ثورتها ، ويدور على عقبيه ، ثم يتوجه نحو الباب. وقبل أن يخرج ، يلملم بعض حاجياته وينظر إليها مليا ، ثم يخرج ويوصد الباب في هدوء . فاجأها تصرفه فسكتت غير مصدقة ما تراه ، وظلت تنظر إلى الباب الموصد . أيعقل هذا ؟.. كيف لم يرد ولم يثر ولم يصرخ ؟ أيكون هذا هو مراد الذي عاشرته وعرفته حق المعرفة ؟.." زنجبيل ؟.. لم يتبق سوى الزنجبيل.. حسنا.. سيكون حسابي عسيرا مع تلك الحية الرقطاء التي استغلت غيابي وفعلت ما يحلو لها.. سوف أريها من أكون ، وأذيقها كأسا أمر من هذا الزنجبيل.." كيف ؟..لا تدري ... يمر النهار ويأتي المساء ثم الليل ، ويتلوه نهار آخر. ويتعاقب الليل والنهار، والأيام والأسابيع ، ولا أثر لمراد ، ولا لأخت الجارة .. فتجلس لمياء عند النافذة متلفعة بالغطاء الصوفي.. تبكي في حرقة متمتمة في همس :
- كان ينقصنا شيء لطعم حياتنا .. ربما شيء من الملح ، أو.. لم لا.. شيء من الزنجبيل ؟
[/justify]