الموضوع: دورة أفعوانية
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
10

المشاهدات
4933
 
محمد غالمي
كاتب وقاص مغربي

محمد غالمي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
91

+التقييم
0.01

تاريخ التسجيل
Dec 2005

الاقامة

رقم العضوية
734
07-10-2013, 01:32 AM
المشاركة 1
07-10-2013, 01:32 AM
المشاركة 1
افتراضي دورة أفعوانية
(دورة أفعوانية)

حمدا لله على سلامتكم.. هيا يمموا شطر تلك الغابة.. لا تبرحوها حتى يأتينكم مني نذير.. شغلوا هواتفكم المحمولة.. خذوا حذركم.. الوضع في غاية السوء.. استنفار حاد في صفوف رجال الأمن.. استعينوا بما يكفيكم من البلاستيك لإقامة حواجز تقي من لفح البرد.. تنفس ياسين الصعداء.. دب في كيانه الحبور واستبدت به نشوة من اجتاز امتحان مرير في عرض الموج العاتي.. وأمسى قاب قوسين أو أدنى من حلم بات واقعا يتراقص على مرمى من ناظريه، ورغم ذلك ما يزال ياسين يتلظى من تداعيات ما استبد بكيانه من رعب مكين.. طيلة الرحلة السندبادية البغيضة في خضم بحر لجي غاضب. لم تبرح ذاكرته صورة قائد المركب العليل يصيح ملء عقيرته: "غاز المحرك على وشك النفاذ.. هيئوا المجاديف أيها الكلاب.." موج ثائر يكيل للمطية صفعا عنيفا.. لم تمهلها المياه الطائشة.. انتفضت الطيور المروَعة.. تعالى العويل واحتد النحيب ومساعد القائد مفتولة عضلاته، يصرخ في هستيريا: "اسكتوا أيتها الغربان المشؤومة" وليخفف من الحمل الثقيل الذي كاد يفصم ظهر القارب... امتدت يده الفولاذية تلقي في بطن اليم أرواحا مروعة وتزفها عرائس للقروش تفض بكارتها، وعاد إلى مكانه وكأن شيئا لم يقع.. واصل صياحه في من لاحت على سماهم رباطة الجأش.. هيا.. أسرعوا.. أفرغوا المركب قبل أن يبتلعكم اليم.. وكاد فؤاد ياسين ينخلع من رعب.. ما يزال مصرا معتصما يعض على حبل النجاة بالنواجذ.. أهي الرغبة الملحة في الخلود والتشبث الأعمى بتلابيب الوجود، أم هو الوعد الخالد خاف عليه الانهيار والوأد؟ ومهما يكن فقد شمر على ساعديه، لا يبالي البرد والبلل.. يفرغ المياه الطائشة بما أوتي من عزم، وكأنما يتبارى في سباق ضد الساعة.. حقا شفع له ما هو فيه من كدح في مفاوز الرهبة والرعب ضد صولة الموت المكشرة، وإلا فعل به المساعد ما فعل بغلامين ملآ الدنيا عويلا.. كادت تلحق بهما امرأة لولا أن شفع لها وضعها كحبلى.. ورغم ذلك لم تسلم من ركلة كادت تجهضها.. ما زال ياسين يسعى في حركات آلية يقضم مكرها ما عاين عن كثب من قرابين آدمية تقدم لسلاطين البحر! يتجرع الألم مشفقا من حال الوعد الخالد. وهو يحتسي سكرة اللحظة الفاصلة بين الحياة والعدم تذكر مالكته عروسة حقول الفول.. في ذلك اليوم الربيعي الرائق.. في حضن القرية المهزولة العجفاء انتشى من سرور وهو يزف إليها النبأ.. كانت مكبة على الفول تجنيه ويجني بجانبها مسرا في انفعال.. "لاحت بوادر الفرج.. عنت تباشير الفجر الذهبي.. قري عينا وهللي يا مالكة روحي.. جميع الأمور رتبت.. سوف تنطلق الرحلة مساء هذه الليلة من أدغال جبال الريف.. سوف تصبحين نجمة نجوم القرية، سلطانا تنحني له الرقاب.. إذا كان محفورا على الجبين أن نكد في أرضنا كفاية بطوننا ولم نبلغ الأرب، فحري بنا أن نبيع عرقنا في أسواق الجملة، في ما وراء البحار". ليس لياسين من مخرج غير التطلع إلى تلك العوالم النائية.. هنالك يستجدي بعرقه ودمه مهر مالكته، ذلك النفس العليل والجسد البض الأسيل. وكيف لراعي غنم، حفار الشمندر ونتَاف الفول أن يستأثر بقلب تواق إلى الخفقان خارج أشواك القرية؟ النعيم كل النعيم في أن تذوب الذات في عالم المدن والحواضر، وتلك فلسفة مالكة وشريعتها في ملكوت دنياها. وفجأة أرعد الرعد وأبرق البرق، وأفلت الومضة وأظلم البحر. عادت سطوة الموج وهوج الرياح تتقاذف المطية القاصرة المحتضرة.. أما هو فخارت قواه من فرط ما استنزف من الطاقة في إفراغها. وبعد لأي خبا لهيب الأنواء، توارى نفس من اليأس، ودب شعاع الأمل في النفوس. زاد الوضع اطمئنانا أن صاح القائد في القطيع: "تنفسوا الصعداء أيها البغال المنهكة.. ليس بيننا وبين الغابة سوى دقائق معدودات.." ورقص ياسين طربا ونشوة على الرغم مما هو فيه من ارتباك ومحنة، وعنت مالكة في الأفق البعيد تترقب أخبار طائرها الرحال، فانبرى يناغي طيفها بين اليأس والرجاء.. "هوني عليك مالكتي.. ها قد بلغت بر الأمان.. أرقب العمران وتداعب روحي نسائم الجنان.. سوف تهدأ العاصفة وتنسحب عين الرقيب، وأغزو الديار فارسا لا يخيب.. سوف أعود إليك سلطانا مظفرا.. سوف أوشح صدرك بمهر أغنمه من ساحة المعارك الشائكة.. لا يفصلني عن تلك الرياض المضاءة سوى أن يعلن الليل انسحابه.. دغل لا يطاق يلفنا يا مالكة.. يكاد يجهز علينا برهبة ظلامه ولسعة برده.. حفيف الأفاعي تتربص عند جذوع الشجر.. القردة على الأفنان تقذفنا بتمار البلوط،، ثم تكشر ساخرة منا .. أما الخنازير المعربدة فحدث ولا حرج.. من أين لأجفاننا أن تنعم بلذيذ النوم يا مالكة؟! لا هم ولا شجون.. كل أمر في سبيلك يهون" وحيى السراب واستدار ساغب البطن مقرور البدن.. كاد فؤاده ينخلع من وطأة ما هو فيه من جحيم مزعج مميت. أحنى رأسه وانسل في عشه البلاستيكي يترقب انبلاج الفجر.. أطبق براحتيه على أذنيه اتقاء نعيق بومة جاثمة على غصن شجرة بمحاذاته. وبسط الفجر أرديته الفضية على السهول والجبال، وقف ياسين يغالب الأرق.. ينظر إلى تلك المباني المشرفة على المخيم الإجباري في قلب الغاب.. وحلا له أن يناغي مالكته: "مالكتي وضمادة جراحي وأشجاني.. قريبا سنختم آخر الأشواط.. سنطير كالنحل إلى سماء الروض.. استيقني حبي.. سأملأ بطني بالرحيق وأعود إلى الخلية ملك يمينك.. أفرغ فيها عصارة جوارحي..
سمع حفيف أقدام من خلفه، أدار وجهه من فضول.. كان ثمة عجوز لا تباشر عملها إلا في عز الفجر كهذه اللحظة.. تسرق الحطب وتشحنه على بغلتها.. تقدم نحوها سائلا، مومئا ببنانه إلى ذلك العمران الذي لازالت الأضواء تغمر أزقته وشوارعه:
ــ ألا تزال حالة الاستنفار قائمة هناك سيدتي؟ ألم ينسحب حراس الأمن بعد؟ لقد سئمنا المكوث في هذا الغاب الموحش.. برد وجوع.. قرود وبوم وخنازير، ناهيك عن جفوة النوم.. جهنم لا تستحمل يا خالتي..
ـ ومن أرغمك على اللجوء إلى هذا المكان..
ـ لو وجدت العسل في موطني لما هرولت أبحت عنه في هذه الديار الغريبة..
ـ من أي بلد ساقتكم الأقدار يا هذا؟
ـ من المغرب.. وبالضبط من جبال الريف..
ظنت الحطابة بعقل الفتى الظنون، فخالته مخبولا آثر حياة الغاب والأحراش، وانطلق يضرب الأخماس في الأسداس، وخاطبته مستغربة:
ـ عن أية بلاد غريبة تتحدث... وأي استنفار تعني؟
ورد في حال من الدهشة:
ـ إسبانيا! ألست في أرض غريبة يا امرأة؟
وعادت الحطابة تطمئنه وتحاول رد الاعتبار لوعيه الكسير:
ـ شمل الله عقلك برداء العافية يا بني، واعلم أنك حي ترزق في غابات جبال الريف.. أجل حبيبي.. إننا على مشارف الناظور يا مقهور!!
جحظت عينا ياسين وحملق في محدثته.. فغر فمه وشرع يلهث متدليا لسانه كالكلب.. ربما أدرك بأن المطية المشؤومة دارت دورتها الأفعوانية وحطت من حيت انطلقت! أرسل آهات متقطعة وخر مغشيا عليه ..