عرض مشاركة واحدة
قديم 04-13-2012, 04:51 PM
المشاركة 409
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
حوار مع الروائي محمد جبريل:

أستدعي الإلهام ولا أجلس في انتظاره

حاوره: أ. د. حسين علي محمد
......................................

محمد جبريل (المولود في الإسكندرية عام 1938م) واحد من أبرز الروائيين المصريين في الجيل التالي لنجيب محفوظ، صدرت له اثنتا عشرة رواية: الأسوار (1972م)، وإمام آخر الزمان(1984)، ومن أوراق أبي الطيب المتنبي (1988)، وقاضي البحار ينزل البحر (1989)، والصهبة (1990)، وقلعة الجبل (1991)، والنظر إلى أسفل (1992)، والخليج (1993)، واعترافات سيد القرية (1994)، وزهرة الصباح (1995)، والشاطئ الآخر (1996)، ورباعية بحري (1997).
وله ست مجموعات قصصية، هي:
تلك اللحظة (1970)
انعكاسات الأيام العصيبة (1981)
هل؟ (1987)
حكايات وهوامش من حياة المبتلى (1986)
سوق العيد (1997)
انفراجة الباب (1997).
وقد كتبت عن رواياته وقصصه عشرات المقالات والدراسات لكتاب من مصر في الدوريات الأدبية والثقافية، كما صدر كتابان بعنواني: "محمد جبريل وعالمه القصصي"، و"قراءات في أدب محمد جبريل" في سلسلة "أصوات معاصرة" يضمان نحو ثلاثين مقالة مختارة مما كُتب عنه.
*منذ ما يقرب من أربعين عاما وأنت تعمل بالصحافة حرفةً، فهل ترى أن الصحافة كانت المجال المناسب لعمل الأديب؟ وهل أفدت من أجوائها في تجربتك الأدبية؟
في عام 1960م قدمت من مدينتي الإسكندرية إلى القاهرة بحثا عن الفرصة في إحدى الصحف، باعتبار أن الصحافة هي الأقرب إلى طبيعة الكاتب، حتى لو لم يكن صحفيا متخصصاً. وكان العمل بجريدة "المساء" هو مشوار العمل الأساسي، وإن عملت أثناء ذلك خبيراً بالمركز العربي للسكان والتنمية والتعمير، ورئيساً لتحرير كتاب "الحرية"، ومشرفاً على جريدة "الوطن" العُمانية.
ولعلي أصارحك بأن الفن ـ والقصة والرواية تحديدا ـ عالمي الذي أوثره بكل الود. أتمنى أن أخلص لهما ـ تجربة وقراءة ومحاولات للإبداع ـ دون أن تشغلني اهتمامات مغايرة .. لكن الإبداع الروائي في بلادنا لا يؤكِّل عيشاً، وربما أتاحت رواية وحيدة في الغرب لكاتبها أن يقضي حياته بلا عوز مادي؛ فهو يسافر ويعيش ويتأمل ويخلو إلى قلمه وأوراقه، دون خشية من الغد وما يضمره من احتياجات. لكن المقابل المحدّد والمحدود الذي يتقاضاه الأديب في بلادنا ثمنا لعمله الفني، يجعل التفرغ فنيا أمنية مستحيلة !!
من هنا كان اختياري ـ الأدق: لجوئي ـ إلى الصحافة، فهي الأقرب إلى قدرات الأديب واهتماماته وهمومه أيضا. وكنت أتذكّر المازني العظيم وهو يجد في كل ما يصادفه مادة صحفية، بينما الفن ـ وحده ـ شاغله وهواه.
وكتبت فيما أعرفه، واستعنت بالقراءة فيما لم أكن أعرفه، ووجدت في حياتي الصحفية أحيانا ما يُغري بكتابة عمل أدبي ـ مثلا روايات "الأسوار" و"النظر إلى أسفل" و"الخليج" ـ لكن الأدب ظل على هامش وقت الصحافة، أحاول الكتابة وأكتب إذا وجدت في أسوار الصحافة منفذاً. لذلك كان ترحيبي ـ متحسراً ـ بالسفر إلى سلطنة عمان للإشراف على إصدار جريدة أسبوعية ـ تحولت إلى يومية فيما بعد ـ وكنت أمني النفس بأن أدخر في الغربة ما يعينني على الإخلاص للفن، لكن الأمنية ظلت في إطارها لا تجاوزه. وكان لابد أن أكتب في موضوعات تقترب من الفن، أو تبعد عنه. وحتى لا أفقد ذاتي في سراديب مجهولة النهاية، فقد فضلت أن تكون محاولاتي أقرب إلى ما يشغلني فعلا في الفن، وفي الحياة عموما.
*ما العلاقة بينك وبين الكتابة؟ وهل من الممكن أن تتخلى عنها في يوم ما أو تتركها؟
-أكاد أتصوّر أن الكتابة خُلقت من أجلي، قبل أن أخلق أنا للكتابة. لا أتصوّر نفسي في غير الكتابة، وفي غير القراءة والتأمل وتسجيل الملاحظات والتحصيل المعرفي.
*ما تصورك للعلاقة بين القارئ والكاتب باعتبارك كاتباً لك قراؤك، وبصورة أخرى أنت قارئ لمبدعين آخرين قدامى ومحدثين؟
-العلاقة بين المبدع والمتلقي أشبه بالعلاقة بين جهازي الإرسال والاستقبال، وعلى المبدع أن يطمئن إلى سلامة توصيلاته، بمعنى أن يطمئن إلى صدقه الفني، فلا يتعمد الغموض وإنما يترك العمل يكتب نفسه مستفيداُ من خبرة الفنان وتجاربه على أن يكون الناقد في ذات المبدع هو صاحب النظرة الأخيرة التي تناقش وتحذف وتضيف، وقد يكتب الكاتب قصة في ليلة ويُراجعها في أشهر .. وهذا ما أفعله شخصيا.
*تقول في حواراتك إنك تُفضِّل أن يكتب العمل الفني نفسه .. كيف يحدث ذلك معك، أو في تجربتك الأدبية على وجه خاص؟
-تعوّدت أن أستدعي الإلهام، ولا أجلس في انتظاره. أثق أن العمر أقصر من أن نُقدِّم فيه كل ما نريد. لا أُحب جلسات القهاوي، ولا الثرثرات العقيمة، أشغل معظم وقتي بالقراءة، وأحاول الكتابة ولو بضعة أسطر كل يوم. كما أني أُفضِّل أن أبدأ العمل الفني ولست أملك سوى البداية، أو الفكرة الهلامية، ثم أترك العمل الإبداعي يكتب نفسه ـ سواء أكان قصة قصيرة أم رواية ـ. لا أخطط مسبقا لعدد الصفحات، وإنما أبدأ الكتابة وفي ذهني فكرة ما قد تكون ضبابية، ثم تبدأ الشخصيات والأحداث في التخلُّق على النحو الذي يفرضه العمل نفسه.
بدأت في كتابة روايتي "من أوراق أبي الطيب المتنبي" وفي تصوُّري أنها قصة قصيرة، لكنها طالت ـ لا أدري كيف ـ فأصبحت رواية. وقصتي القصيرة "نبوءة عراف مجنون" بدأت في كتابتها كاستقالة من العمل الذي كنت أشغله خارج مصر، فتحولت إلى قصة قصيرة. وبعد أن كنت قد أنهيت عملي اليومي في جريدة "الوطن" العُمانية التي كنت أُشرف عليها جرى القلم على الورق بخطوط وتكوينات، ثم بدأت في الكتابة ـ كانت الساعة قد جاوزت الثالثة صباحا ـ دون تفكير مُسْبَق ، أثمر قصتي "اعترافات النفس المُتداعية".
*لماذا تميل إلى كتابة الرواية القصيرة التي لا تتعدى غالباُ المائة والخمسين من الصفحات؟
-إذا كنت قد كتبت الروايات القصار "الصهبة" و"قاضي البحار ينزل البحر" و"الأسوار" و"الخليج" .. وغيرها، فإني كتبت الروايات المطولة مثل "زهرة الصباح" و"النظر إلى أسفل" و"قلعة الجبل" و"اعترافات سيد القرية" و"رباعية بحري" التي تتجاوز الألف صفحة.
*لماذا تظل رواياتك ـ بعد الانتهاء من قراءتها ـ مفتوحة للتأويل؟ ولماذا لا تكون نهاياتها حاسمة ومحددة كما يفعل غالبا نجيب محفوظ وبعض أبناء جيلك؟. بمعنى آخر لماذا لا تكون نهايات الروايات حاسمة بالنسبة للشخصيات الروائية على الأقل؟ هل لأن الرواية لها قضية تريد أن تطرحها تظل رواياتك مفتوحة ..؟
-إن إنهاء العمل الإبداعي عند نقطة معينة محددة ينطوي على تعسف مطلق في التعامل مع حيوات كان يجب أن تظل مستمرة، وهي تلك التي كانت لشخصيات الرواية قبل أن تختفي بالنهاية المغلقة. إن القصة قد تنتهي عند نقطة ما تختارها، لكنها ليست النقطة التي تنتهي عندها حياة الشخصية ـ أو الشخصيات ـ في الرواية. وإذا كان تشيكوف يرفض أن يكون الكاتب قاضيا يحكم على شخصيات عمله الإبداعي ويُطالب بأن يكون شاهدا غير متحيز فإني أجد أن انحياز الكاتب لقضية ما ـ أو وجهة نظر معينة لموقف أو مجموع ـ مسألة مهمة ومطلوبة، بل إني أتصورها بالنسبة للمبدع الحقيقي مسألة بديهية.
*كيف تنظر إلى التراث الذي لجأت إليه في بعض أعمالك في الرواية والقصة القصيرة؟
-نحن نخطئ إذا نظرنا إلى التراث باعتباره مجموعة من الأفكار القديمة والكتب الصفراء! التراث يختلف عن ذلك تماماً، إنه جِماع خبرة الشعب في توالي عصوره وأجياله بكل ما تحمله من قيم وعادات وثقافات وسلوكيات. من الصعب أن نُعيد الماضي بكامله، ومن الصعب كذلك أن نبني نهضة حقيقية، أن نضيف ونطور ونثري ما لم يكن ذلك كله مستنداً إلى تراث يأخذ منه، ويتصل به.
*ما دمنا تحدثنا عن رؤيتك للتراث، فدعني أسألك عن السبيل إلى تحقيق ثقافتنا؟
-من الخطأ أن نرتمي في حضن التراث، كما أنه من الخطأ أن نرتمي في حضن الثقافة الغربية. نحن نفيد من التراث في تحقيق التواصل، ونفيد من الثقافة الغربية في تحقيق المعاصرة. الصواب أن نفيد من التراث ومن الثقافة الغربية المعاصرة في تحقيق شخصيتنا المنفردة، في صياغة ملامح متميزة لإبداعنا وفكرنا وثقافتنا الخاصة.
أكرر: من الخطأ أن نكتفي بإحياء تراثنا القديم أو بالنقل عن الغرب، الأصوب أن نقدم معطياتنا نحن، فلا نكتفي بالنقل أو التلخيص أو حتى الاستفهام، وإنما يجب أن نضيف إبداعنا الآني.
*حاولت أن توظف التراث الأدبي في رواية "من أوراق أبي الطيب المتنبي"، وحاولت توظيف التراث التاريخي في "قلعة الجبل" و"اعترافات سيد القرية". فما الذي جذبك إلى التراث القصصي العربي، وبخاصة "ألف ليلة وليلة"؟ وماذا عن آفاقها الروائية المتخيلة في ذاكرة الروائي؟
-روايتي "زهرة الصباح" محاولة لتوظيف تراث "ألف ليلة وليلة" في عمل معاصر، وإن ظلت ليالي ألف ليلة إطاراً له. زهرة الصباح ابنة أحد الوزراء المقربين من شهريار، اختيرت لتكون التالية بعد شهرزاد، تنتظر دورها: إما أن يمل شهريار الحكي، أو تخفق شهرزاد. وتسعى زهرة الصباح خلال ذلك بواسطة أبيها، إلى الإفادة من كل ما يقرأه ويستمع إليه من الحكايات والحواديت والأساطير والسير الشعبية المصرية، تحفظها حتى تبقي على حياتها لو حل عليها الدور. وأثناء ذلك أيضا يخفق قلب زهرة الصباح بحب سعد الداخلي الملواني، الشاب المقيم في البيت المقابل، ويرضخ الأب لإرادة ابنته الزواج من الشاب، ويتم زواجهما في السر، ويحيا الشاب في قصر أبيها باعتباره خادما، وتظل زهرة الصباح تنهل مما ينقله إليها أبوها من قراءات وحكايات شفاهية، في الوقت الذي تنشط فيه حركات التذمر ضد شهريار مقابلا لإصراره على قتل بنات الناس. ويواجه شهريار ـ في النهاية ـ بغضبة الناس المعلنة، كما يُفاجأ بأن شهرزاد قد أنجبت منه ثلاثة أبناء .. وهو ما حدث في "ألف ليلة وليلة" بالفعل. ويعود شهريار عن غيه، ويعفو عن شهرزاد ممثلة لكل النساء، والسؤال يشغل الجميع: هل جرى ما جرى خوفاً من غضبة الناس، أو أن الكلمة قد أثرت في شهريار من خلال حكايات الليالي الألف، فتبدّلت أحواله؟ .. أما زهرة الصباح، فإنها تكون قد عاشت الخوف وتجاوزته، وبينما يعفو شهريار عن شهر زاد، ويعترف بأبنائه الثلاثة، تكون هي حاملا من زوجها سعد الداخلي!
*هل تعد الرواية فنا غربيا وافداً تجاوز البدايات العربية في الخبر والحكاية في أدبنا القديم؟
-الإضافات التي قدمها الإبداع الغربي إلى فن القصة والرواية بما يُجاوز معطيات الإبداع العربي القديم لا يعني اعتبار الفن الروائي والقصصي في الغرب بداية مطلقة لهما، وإلا فإنه بوسعنا أن نعتبر كل إضافة في كل زمان ومكان بداية غير مسبوقة للفن الذي ننتمي إليه، أي أننا معتبر البداية في الإضافة والتطوير، وهو اجتهاد غير مقبول، ومرفوض.
*هل يستطيع الكاتب الروائي أن يكتب عن شخصيات لم يُعايشها؟ بمعنى آخر: هل يستطيع كاتب طيب أن يصور تصويرا صادقا وغير مفتعل شخصية شريرة؟
-لقد أعلنت زوجتي ـ وهي ناقدة معروفة دهشتها من شخصية "زاو مخو" في روايتي "اعترافات سيد القرية"، لأنها شخصية تفكر في الشر وتُجيد صنعه بما يُخالف طبيعتي التي تجيد الطيبة إلى ما يشبه السذاجة أحيانا؛ فأنا أصدِّق أي كلام، وأطمئن إلى أي تصرف، وأُحسن الظن بالآخرين. أسقطت من مخزوني المعرفي ما يُسمى بالدروس المستفادة. أنا ابن اللحظة التي أحياها، وناس هذه اللحظة ربما يختلفون عن هؤلاء الذين ربما ضرني أذاهم.
"زاو مخو" هو الذات الثانية على حد تعبير "كاتلين تيلو سستون"، الذات التي تعوض الفنان، إنها المقابل أو الشخصية الضد، المؤلف الضمني كما يسميها "واين بوث". قالت زوجتي: هل أنت كل ذلك ولا أعرف؟!
والحق أني لم أكن كل ذلك، إنما هي محاولة لتقديم شخصية مستعارة، ربما جاءت تعويضا عما أثق أنه أنا. لعله التعويض الذي أتابع به ـ بنشوة مباريات المصارعة الحرة في التليفزيون. إنه شخصية تقول ما لم يفكر فيه المؤلف، ولا قاله، ولا يستطيع التفكير فيه أو قوله، فضلا عن أنه لا يُحسن العدوانية في كل الأحوال.
*لماذا تتشابك رواياتك وقصصك مع السياسة. هل أزمة أبطال رواياتك مبعثها السياسة؟ ولماذا هذا الإسقاط السياسي ضد فترة حكم معينة، وبخاصة في رواية "من أوراق أبي الطيب المتنبي؟
-مشكلة بعض النقاد مع روايتي "من أوراق أبي الطيب المتنبي" أنهم توقفوا أمام ما تصوّروه من انعكاسات أحداث قريبة، مثل فترة السادات وما صحبها من تطورات. الرواية ـ في تصوُّر كاتبها ـ لا تُناقش قضايا آنية، لكن القضية المحور هي علاقة المثقف بالسلطة من ناحية، وعلاقته بمواطنيه من ناحية ثانية. وهي قضية تلح في الكثير من أعمالي الروائية والقصصية. ثمة قضايا عدة تشملها الرؤية الشاملة، فلسفة الحياة لعالمي الإبداعي، ومن بين هذه القضايا: المُطاردة، غزو الخارج، قهر الداخل، صلة المثقف بالسلطة وبمجتمعه، وما يتصل بذلك كله من قضايا الحرية والعدل والانتماء.
*إن المطاردة وغزو الخارج وقهر الداخل كلها مفردات سياسية تنبهنا إلى أبطالك الباحثين عن الحرية. ماذا حققت روايتك "النظر إلى أسفل" موضوعيا وفنيا وهي تشتبك مع الواقع الانفتاحي الذي نشأ من منتصف السبعينيات؟
-روايتي "النظر إلى أسفل تتناول فترة تاريخية، وقد استخدمت فيها تكنيكا غير مسبوق: اللحظة الدائرية المتصلة التي يُخاطب فيها الراوي شخصية غير محددة. وظني أنها تختلف تماما في فنيتها ـ وحتى في لغتها ـ عن الروايات التي حاولت توظيف التراث.
إن "شاكر المغربي" بطل "النظر إلى أسفل" ساداتي النزعة، أو فلنقل أنه كان تعبيراً عن المرحلة الساداتية. وكان من الطبيعي في تصوري أن ينتهي ـ ولو معنويا ـ بانتهاء المرحلة. ولو أن امتدادات الساداتية ـ كما أرى ـ متعاظمة في حياتنا على نحو لم يكن متصورا، بل لعل شاكر المغربي يبدو الآن سمكة صغيرة بالقياس إلى حيتان الفترة التي نحياها!!
*لاحظتُ ـ كما لاحظ الكثير من النقاد ـ أن الإسكندرية مكاناً هي الفضاء الأثير لرواياتك، وإن كنت خرجت من فضائها في أعمال قليلة، فلماذا هذا الاستغراق الحميم في الإسكندرية وعلى وجه أخص حي بحري أو "الأنفوشي"؟
-لقد وُلدت ونشأت في الإسكندرية، لذلك فمن الطبعي أن تكون مكاناً للعديد من أعمالي، حتى الأعمال التي جرت أحداثها الحقيقية في أماكن أخرى جعلت الإسكندرية فضاء لها؛ فأحداث روايتي "الصهبة" الحقيقية جرت في قرية بالقرب من الجيزة، لكنني فضلت أن أنقلها إلى الإسكندرية ـ إلى حي بحري تحديدا ـ لأنه المكان الذي أعرف ملامحه جيدا، ومن ثم فإنه بوسعي أن أتحرّك فيه بحريتي! .. ومع ذلك فإن المكان في رواياتي لا يقتصر على الإسكندرية. أذكرك برواياتي : قلعة الجبل، واعترافات سيد القرية، والأسوار، ومن أوراق أبي الطيب المتنبي، وبوح الأسرار … إلخ.
*هل قام النقد بدوره المطلوب تجاه تجربتك الأدبية في الرواية والقصة القصيرة على امتداد ثلث قرن؟
-إذا تحدثت عن موقف النقد من حيث الكم الذي تناول أعمالي الأدبية، فلعلي أعترف أنه كثير للغاية إلى حد أن جماعة "أصوات معاصرة" ضمّت بعض المقالات والدراسات والحوارات التي ناقشت أعمالي إلى 1984م في كتابين، وثمة أعمال أخرى سابقة وتالية تفوق ما احتواه كتابا "أصوات معاصرة". ومع ذلك فإني ـ حتى الآن ـ لست مدرجا في قوائم السادة الأيديولوجيين إذا أرادوا أن يتحدثوا عن كتاب القصة والرواية يكتفون بالقائمة التي تضم ممثلي الأيديولوجية ـ أو الشلة ـ في أقل تقدير ..!
ولأني أتصور الكاتب أكبر من أي تنظيم حزبي أو أيديولوجي، ولأني أرفض مبدأ الشللية في إطلاقه، ولأني لا أتردد على القهاوي والندوات، وأُفضل الحياة مع الناس العاديين، وقضاء غالبية الوقت في بيتي أقرأ وأكتب .. لذلك كله فإن قوائم الشلل والأيديولوجيات تخلو من اسمي، وإن وجدت المقابل في حفاوة طيبة بكل ما أكتب من خلال العديد من الرسائل الجامعية. إن الأكاديميين هم الأمل في مستقبل نقدي موضوعي وجاد.
*مع أنك حصلت على جائزة الدولة في النقد الأدبي، فإنك لم تتقدم إلى جائزة الرواية أو القصة القصيرة ـ لماذا؟
-لقد ملأ الناقد الصديق نبيل فرج استمارة التقدم لجائزة الدولة في النقد الأدبي بتحريض من الصديقين: الأديب الكبير يوسف الشاروني، والناقد الراحل الدكتور سيد حامد النساج. ومن ناحيتي فأنا لا أذكر أنني تقدمت يوما بما كتبت لصحيفة أو لمسابقة. لعله الكسل في طبيعتي. وعموما فإن أفضل جائزة عندي هي أن يناقشني واحد من الذين قرأوا أعمالي فيما كتبت.
*ما الذي يشغلك الآن؟ وما الذي تريد أن تكتبه مستقبلا؟
-لدي الكثير الذي أريد أن أقوله، أفكار هلامية ومحددة وواضحة، ما يدخل في إطار الإبداع، وما يقترب من التنظير، وما لا يجاوز حتى القراءة الإيجابية. أنا أكتب ما يلح عليَّ، وما يفرض نفسه، ولا أُخطط لشيء على الإطلاق ..!
*أخيرا: ما نصيحتك للأدباء الشبان؟
-نصيحتي للأدباء الشبان ـ دائما ـ أن يحذفوا كل ما لا يحتاجه العمل الإبداعي، لا يشفقوا على عبارة جميلة، فيبقون عليها، حتى لو كانت نابية عن السياق. أذكرهم بما فعله تولستوي في "الحرب والسلام"، لقد بلغت أصولها ـ عقب الكتابة الأولى ـ أكثر من أربعين ألف صفحة فحذف الفنان تسعة أعشارها