الموضوع: ماذا سأكتب؟
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-21-2021, 10:38 AM
المشاركة 147
ياسَمِين الْحُمود
(الواعية الصغيرة)
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي
الحضور المميز الألفية الثانية الإداري المميز الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى وسام الإدارة التكريم الكاتب المميز 
مجموع الاوسمة: 9

  • غير موجود
افتراضي رد: ماذا سأكتب؟
سأكتب عن الحب كله..

اسمها " كانتي"
أما أنا فأسميها " الحب كله"
كانت تمسك بيدي بقوة، بدت لي للحظات وأنا ألج قاعة المغادرين في مطار ستيوارت الدولى بصحبتها ، وكأنها طفل صغير تائه بنظرات زائغة لا تدري أين توجه بالضبط، كانت تضغط على يدي بقوة تزداد مع كل خطوة تخطوها، لكنني وأنا التي لا أقل عنها حيرة وضياعاً حاولت أن أحافظ على ابتسامتي فأحدثها عن قرب رؤيتها لأولادها بعد غياب أربع سنوات.
"ساعات قليلة وستكونين بينهم يا كانتي وهذه المرة ستكونين معهم دائما"، قلت لها ذلك وأنا أغالب دمعتي اليتيمة التي سقطت بهدوء وأخيراً على خدّي الأيمن معلنة استسلامي للأسى الذي هيمن علي منذ أن قررت كانتي فجأة ترك العمل ومغادرتي نهائياً.
لكن دموعها حازت قصب السبق فتدفقت بغزارة عندما هممت بتوديعها الوداع الأخير، احتضنتني وهي تهمس في أذني" ماما…ماما" ولعلها أجمل " ماما" سمعتها من تلك السيدة التي تكبرني في السن، ولكنها اعتادت أن تناديني " ماما" منذ قدومها للعمل في المنزل منذ عدة سنوات،
رُغم أن بقية العاملين والعاملات لديّ يناديني " مدام" لكنها أبت أن تكون مثلهم، كنت أستلذ بهذه الـ" الماما" وأشجعها عليها فأعاملها كابنة لي تماما، لولا أنها لم تكن تزعجني بأي طلبات كما يزعج الأبناء أمهاتهم عادة.

قبل قليل ودعت ابنتي " كانتي" للأبد ، وعلي أن أغالب ذلك الأسى الذي تضاعف في تلك اللحظات الأخيرة واستولى على بقية مشاعري تجاهها.
منذ أن أرتني بعد فترة من عملها صورة أطفالها الثلاثة،. أنا في حيرة من أمر مشاعري التي لا أعرف كيف أصفها تماماً، كانت " نوشادي" ابنتها الصغيرة، جميلة كقرنفلة قرمزية، لها عينان تشعان بالذكاء الذي كاد أن يخترق بؤس الفوتوغرافيا، ولها ابتسامة ساحرة، لا أدري كيف أظهرها، ذلك البؤس بكل هذا الإشراق والعفوية والحبور، ورغم أن " كانتي" لم تكن تأتي على ذكر " نوشادي" إلا نادراً ألا أنني كنت أتحين الفرص لأسألها عنها، وخصوصاً عندما أرى غيوم كآبة سوداء تتجمع تحت عينيها في تلك المساءات المليئة بالشجن والتعب والغضب المكتوم.
كانت كانتي قد حكت لي بما يشبه الأغنيات حكايا سيريلانكا بكل ما أوتيت من ذكريات ومفردات عربية اجتهدت لتجميعها في سياق مفهوم وحنين لا ينضب أبداً، حكت لي عن البحر وعن النهر وعن الجبل وعن الغابة ، وعن الأشجار التي كانت تملأ محيط بيتها وتشم رائحتها كلما اشترينا فاكهة غريبة.
لكن سيريلانكا التي نقشت لتلك العاملة الخمسينية تفاصيلها على صفحة الحكايا المتقطعة بيننا أجمل بكثير من الدمعة الساقطة من شبه القارة الهندية في غفلة من الزمن وانتباهة المستعمر البريطاني في ذلك الزمن البعيد.
لا أعرف إن كانت " كانتي" تعرف تاريخ بلادها وجغرافيتها كما قرأته في الكتب، لكنني أعرف أنها تحن إليه كلما طرا طارئ، أو كلما لمحت مشهداً عابراً عن كارثة حلت بقومها على شاشة التلفزيون دون أن تعرف التفاصيل، ولعلها كانت تحن إليه دائماً لكن التعبير عن الشوق المغلف بالحنان لم يكن ليظهر إلا في لحظات علنية مشتركة يبثها التلفزيون كمشاهد إخبارية.
أنا أحب " كانتي" ولا أحتاجها بالضرورة، أعلنت لنفسي بوضوح شديد بعد تردد طال طويلا، كان الجميع يقترح علي أن أطلب من مكتب الخدم واحدة بديلة عنها قبل أن تسافر، وهكذا تجد " كانتي" فسحة من الوقت لتدريب القادمة البديلة على عادات السيدة العتيقة، لكنني لم أستسغ الفكرة من أساسها، الواقع ليست لي عادات محددة أريد لخادمة أن تعرفها، والأهم أن " كانتي" لم تكن خادمة ، كانت ببساطة صديقتي، فكيف أستبدل بها وافدة جديدة، هكذا بهذه الطريقة البعيدة عن اختيار صديق لصديقه؟!
صحيح أنها جاءت هكذا… بنفس الطريقة، لكنها أصبحت صديقتي، فكيف أخون عاطفتي تجاهها بهذا السلوك المستهلك؟
لا أحد يفهم علاقتي بها، فهل كانت هي تفهم تلك العلاقة حقا؟!
لا أدري، ولا يهمني، ما يهمني حقاً أنها أصبحت صديقتي للأبد رغم غيابها، ورغم تقشفي الموروث في اختيار الأصدقاء والصديقات.
فليس. من السهل أن أضيع فرصة أن تكون لي علاقة بحجم صداقة مع امرأة مخلوقة من مادة الحب الخالص وأضيعها.
عندما عبرت " كانتي" البوابة المؤدية إلى طائرة السفر الأخير، كنت قد فقدتُ قطعة من قلبي…
ولا أدري حتى هذه اللحظة كيف سيعمل قلب بكفاءة قادرة على استمراره في الحياة وهو مستمر في فقدان ذاته قطعة بعد أخرى
.