عرض مشاركة واحدة
قديم 09-17-2013, 05:53 PM
المشاركة 9
عمر مصلح
فنان تشكيلي وأديب عـراقـي
  • غير موجود
افتراضي
الاستاذ عمر مصلح

تقول " تبقى الذاكرة ناشطة أحياناً، وتختزن أحداثاً موغلة بالقِدَم.. حيث أتذكر ماحصل لي وأنا لم أبلغ السادسة من عمري.. وهذه الذكرى كانت محفزتي للبحث والتنقيب والدرس لسنين طويلة.
في يوم قائظ، ألبستني أمي (شورت وقميص)، مازلت أذكر لونه الكاكي وتفاصيل تطريزة الصدر.
فاستغليت قيلولتها، وتسللت إلى الشارع الذي قادني إلى (نجارخانة)* والدي التي لاتبتعد كثيراً عن بيتنا.. واخترقت باعة الخضار الذين افترشوا الأرصفة، وضجيج إعلاناتهم الذي يصم الآذان.. عن بضاعتهم. فإذا بسيدة، لاتختلف عن باقي النسوة إلا بضخامتها، و - خصوصاً رأسها - ، وتهدّل كتفيها.. تلفني بعباءتها، وتركبني باصاً خشبياً.. فتفاجأت بحشد من نسوة، يقارب العشرين، وثلاثة رجال. أجلستني هذه السيدة تحت ركبتيها وغطتني بعباءتها، فمكثت بين أكداس هائلة من (الرقِّي)**، إلى أن اختفت أ صوات الباعة.. فرفعتني وأجلستني على حجرها، وصارت تمسد بيدها على رأسي، وتعدني بتبنيها لي، وبأنها ستوشمني بوشم على صدغي، ولم تنسَ أن توصي جارتها التي خلفها بأن تركَّب لي سناً ذهبياً.
ألغريب بالأمر أن الرجال الثلاثة لم يعيروا أمر اختطافي أي أنتباه، بل كانوا يتصدرون الباص، وقد شغلتهم لفافات التبغ التي كانوا يصنعونها يدوياً بعد أن يخروجوا من أكياس حمر تبغاً ويلفونه بأوراق صغيرة.

==

انت تشترك في هذه الحادثة مع انيس منصور فقد سبق ان كتب عن حادثه ممثالة حصلت له وقال انه ايضا تعرض للاختطاف ولكنه امضى وقت اطول مع مختطفته واتصور هذه الحادثة لوحدها تمثل صدمة ذهنية هائلة صنعت منك فنانا مرهفا كما صنعت من انيس منصور كاتبا غزيرا.

==

وهذه قصة انيس منصور مع الغجر "

نحن أولاد الغجر
تربطني بجماعات الغجر صلة وثيقة منذ الطفولة، عندما هربت إلى الغجر هربا من أسرتي، فقد كانت أمي رحمها الله تضربني كثيرا، ومعها حق، وهي قصة طويلة، ولي كتاب اسمه «نحن أولاد الغجر»، فقد وجدت شبها قويا بيني وبين الغجر، بين المشتغلين بالفلسفة والرهبان والعلماء، فنحن جميعا نعيش في عزلة اخترناها، في صوامعنا ومعاملنا وغرفنا الصغيرة، نحن الذين فرضنا العزلة والانطواء والغربة والاغتراب على أنفسنا. والغجر مثلنا، لولا أنهم لم يختاروا الغربة، وإنما هو المجتمع الذي نبذهم ونفاهم جميعا ووضعهم على الحافة بين القانون والخروج عليه.
فهناك نوعان من التشرد، أن يجد الإنسان نفسه مشردا بلا مأوى ولا سكن ولا أهل ولا احترام من أحد أو لأحد، ومن يختار أن يعيش مشردا حرا، فالمشردون أكثر حرية، فلا بيت ولا سكن ولا أهل ولا جدران ولا سقف، وعددهم في الدنيا مائة مليون، ولو أضفنا إليهم الذين يعيشون كأنهم مشردون لصار عددهم ألف مليون!
وقد عرف العرب الشعراء الصعاليك المشردين الذين يعيشون في الصحاري على ما ينهبون ويسرقون. وعدد من الصعاليك أصحاب مواهب شعرية فذة، ولكنهم اختاروا أن يكونوا أعداء للمجتمع حتى لو لم يكن المجتمع معاديا لهم.
والأديب الفرنسي جان جينيه: صعلوك مشرد لص، وعندما اعتقله البوليس ثم سجنه، قامت مظاهرة يتقدمها الفلاسفة والشعراء والفيلسوف الوجودي سارتر، يطلبون له الرحمة لأنه لا خوف منه ولا ضرر، وإنما هو روح متمردة ثائرة ساخطة وصاحب موهبة عظيمة، إنه متشرد باختياره، وهو لقيط باعترافه، وغجري بإرادته.
عندما ذهبت إلى بلاد التشيك بعد انفصالها عن تشيكوسلوفاكيا سألت عن هؤلاء، قالوا: الغجر، وأسعدني ما رأيت وكأنني وجدت ضالتي بين الناس، هؤلاء غجر بالضرورة وليسوا غجرا بالاختيار، ودون أن أفكر تسللت بينهم وطلبت من يصورني معهم، فملامحهم شرقية مصرية آسيوية هندية. ويقال إن الغجر من مصر ويقال من الهند، ويقال إنهم مجموعة ضالة من الناس، قرروا ألا يندمجوا وأن يبقوا على فقرهم ونفورهم وأن يتنقلوا بين القارات، وعددهم في أوروبا خمسة ملايين، يرفضون أن تكون لهم جنسية، وإنما يظلون هكذا فارين هاربين ملعونين من كل الناس، والتقطوا لي صورة أسعدتني. وعندما عدت إلى الفندق وجدتهم قد سرقوا حافظتي وجواز السفر، ولم أضحك، فهي عقوبة استحقها.
ولما سئل الغجر لماذا يسرقون؟ فكان جوابهم ـ هكذا تقول موروثاتهم الشعبية: إننا كنا عند صلب المسيح فسرق جدنا الأكبر أحد المسامير التي كان يجب أن تدق في جسد المسيح، فخففنا عنه الألم، فقال لنا: افعلوا في دنياكم ما شئتم فقد عفوت عنكم، ومن يومها ونحن نسرق، فلا عقوبة لنا يوم القيامة!ويقال إن الشاعر المصري السليط اللسان المتشرد الصعلوك الغجري عبد الحميد الديب سئل يوما: وماذا تعمل الآن؟ وكان قد التحق بالعمل في دار الكتب، فقال: بالأمس كنت مشردا أهليا واليوم صرت مشردا رسميا!



==
وهذه عن قصة انيس منصور مع الغجر : نحن أولاد الغجر":
By أنيس منصور

عبر مجموعة من المقالات الساخرة والمتنوعة يستعرض الكاتب العديد من الأحداث والمواقف التى أصابت أبطالها لعنة الغجر، فمعظم المشتغلين بالفلسفة والفن، والرهبان يمارسون هذه الوحدة والعزلة الروحية، واعتزال الناس من أجل فهم الناس، فليس الغجر هم الذين زرعوا الوحدة وبذروا العزلة فى عقولنا؛ ولكنهم هم الذين كشفوا عن هذه الرغبة الدفينة. إنهم لا يمتلكون إلا أنفسهم؛ لأنهم ليسوا من الأغلبي عبر مجموعة من المقالات الساخرة والمتنوعة يستعرض الكاتب العديد من الأحداث والمواقف التى أصابت أبطالها لعنة الغجر، فمعظم المشتغلين بالفلسفة والفن، والرهبان يمارسون هذه الوحدة والعزلة الروحية، واعتزال الناس من أجل فهم الناس، فليس الغجر هم الذين زرعوا الوحدة وبذروا العزلة فى عقولنا؛ ولكنهم هم الذين كشفوا عن هذه الرغبة الدفينة. إنهم لا يمتلكون إلا أنفسهم؛ لأنهم ليسوا من الأغلبية لأنهم على الهامش لا يريدون، ولا يرفضون. وليست حياتنا الفلسفية إلا حقدًا على الغجر ومجاراة لهم، والمثل يقول: اهرش أى فنان أو مفكر أو عالم أو صوفى يظهر لك الغجرى

أستاذنا الموقر.. تحايا واحترام
من دواعي سروري متابعتكم لمواضيعي، وهذا ماأعتز به كثيراً.
أما حكاية استاذنا الكبير أنيس منصور، القريبة جداً من حكايتي.. لم أطلع عليها قبل الآن، لكن هذا لايعني أنها لم تحدث لغيرنا.. فأنا على يقين بأنها تكررت كثيراً، كون الاختطاف ديدن الغجر على مر الأزمنة.
وقد أغفلها البعض، خجلاً أو خشية.
ومقارنة جنابكم الإبداعية مع العملاق أنيس منصور، تجعلني أشعر بالرعشة، وأن أكون أكثر حرصاً على رصانة العمل الذي أبغي نشره.
ومن طريف القول.. معروف عن ذاكرتي أنها مثقوبة، نسياني مرعب.. لكن أحتفظ بذاكرتي جل الأحداث والمواقف الكبيرة، منذ طفولتي وإلى الآن..
فأتذكر مثلاً.. كنت تلميذاً في الإبتدائية، حين أخذني والدي "رحمة الله عليه" لزيارة الإمام موسى الكاظم في بغداد، خشية الحسد.
بعد مدة ليست قليلة..
عتعتني والدي من ياقة قميصي، وصوته المتهدج يصرخ بي.. لماذا تركتني أبحث عنك منذ أكثر ساعة في هذا الزحام؟.
فأومأت له برأسي مشيراً إلى ذلك الرسام الإيراني الذي كان يتخذ محلاً صغيراً كمشغل له.. عندها ابتسم وأوصاني بعدم التخلف عنه في الأماكن المزدحمة.
إذاً هي حالة فطرية، تولد مع الإنسان.. لذا نشأت مع الرسم والكتابة.
أما عن العزلة التي تحدث عنها أستاذنا الكبير منصور، فهي وجهة نظر.. لأني أرى أن العزلة الصوفية، رغم شطحاتها.. هي بمثابة رياضة روحية للتأمل الفلسفي والإبداع.