الموضوع: زر مقطوع
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
6

المشاهدات
3964
 
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي


ريم بدر الدين is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
4,267

+التقييم
0.67

تاريخ التسجيل
Jan 2007

الاقامة

رقم العضوية
2765
01-22-2011, 11:09 PM
المشاركة 1
01-22-2011, 11:09 PM
المشاركة 1
افتراضي زر مقطوع
زر مقطوع



منذ لحظة الغروب تبدأ الأعمال هنا بالتكاثر بمتتالية هندسية لا تشهدها ساعات النهار ..تلك الظاهرة محيرة و غريبة عندما يتفق الألم و الوجع و أغرب الحوادث و أكثرها فجيعة مع قدوم الليل و كأن ما بينهما اتفاقية يمنح الليل للألم تخفيضات الانتقال إلى المرضى أو لكأن المرضى أنفسهم يشغلهم النهار و لا يفرغون لأوجاعهم إلا في المساء ..الأكثر غرابة أن حالات الولادة المستعصية تكون معظمها في جنح الليل.
مرت من أمامي كوكبة من الممرضات المناوبات كن يثرثرن كعادتهن و يتفقن على عشاء يلي اجتماع القهوة في غرفة الاستراحة .. النساء لا تتغير طباعهن في أي مكان ..زادهن الثرثرة و الأحاديث المكررة حتى و هن منهمكات في إنقاذ الناس و معالجة أمراضهم.
و بالرغم من هذا أستغرب كيف تستطيع إحداهن شرب قهوتها بتلذذ و إدارة مجلس نميمة بكل اقتدار أو أن تنصت لغزل الطبيب المناوب و من الغرفة المجاورة تصلها أنات المريض المتأرجح على الحافة الفاصلة بين الحياة و الموت و عمره يفرغ قطرة إثر قطرة من كيس المحلول المغذي؟ بل و أكثر من هذا كيف تستطيع هاته الممرضات تناول طعام ممزوج برائحة الأدوية و المرض و معجون بسواد الموت؟
منذ دخولي إلى كلية الطب و أنا أجفل من رؤية الموتى أو المرضى المشرفين على الموت ..ظننت أنني سأعتاد هذه الحالة فيما بعد عندما أنخرط في العمل ..و كان يقيني أن التطبيع ظاهرة تنسحب على كل مواقف الحياة بدءا من دخول قسري إلى كلية الطب مرورا بزواج بروتوكولي و انتهاء باستخدام قسري لأجهزة الإنعاش رغم اليقين الكامل أن هذا المريض لا يرجى شفاؤه ..
بالرغم من هذا لم أستطع أن أصل إلى هذه المرحلة بعد مرور ثلاثين عاما من العمل في غرفة الطوارئ هذه...مازلت حتى الآن أجد غصة مريرة لدى إعلان ساعة وفاة المريض و يدهشني زملائي الذين ينهمكون في محاولات مستميتة لإنقاذ مريض ما ثم في لحظة عندما يستقيم المؤشر معلنا أن لا فائدة يسجلون ساعة الوفاة و يخرجون من الغرفة بانسيابية و كأن شيئا لم يكن ليدخلوا غرفة أخرى و يعالجوا مرضى آخرين بينما أتوقف لدقائق لا يسمح لي عملي بغيرها لأنظر إلى هذا الذي غادرته الحياة و أخترع له شريط ذاكرة و أستحضر في داخلي كلمة عزاء لذويه المنتظرين خارجا.
يقول زملائي أن هذا ترف لا تسمح به أعمال غرف الطوارئ لأننا دوما على عجالة لننقذ مريضا ما و أن دقيقة واحدة قد تكون لها مفاعيل كبيرة ..قد يكون كلامهم صحيحا لكنني لا أستطيع أن أتعامل مع المريض أيا كان على انه مقطع تشريحي..
في الركن القصي من المدخل يجلس عامل التنظيفات ...يتناول سندويش الفلافل أمام عربته الملأى بمخلفات المرضى من أمبولات أدوية فارغة و أكياس محاليل و قطن و شاش مغطى بالدم و القيح .. يتناول طعامه ما بين تنظيف غرفة و أخرى و يطالع وجوه المرضى و الجرحى و الموتى على مدار الساعة ..لا بد أن حمى التطبيع قد اجتاحته أيضا ..
أكثر ما يؤلمني أننا في غمرة انهماكنا بإنقاذ حياة إنسان ما لا نستطيع أن نرصد اللحظة الأخيرة لأننا ببساطة مشغولين بتأخيرها ..
دخلت نقالة الاسعاف على عجل ..سيدة في الستين من عمرها على ما يبدو ..ما يظهر من أعراض عليها هو علامات أزمة قلبية ..وقعت عيناي على معطفها و أول ما لفتني كان أن الزر الثاني من الأعلى لمعطفها مفقود...بحركة لا إرادية مددت يدي إلى جيب معطفها أبحث عن الزر ..كانت أمي إذا سقط أحد أزرارها تخفيه في جيبها كي تقوم بتثبيته فيما بعد .. لم أجد الزر في جيب تلك المرأة و لمت نفسي لغبائي الشديد في تضييع الوقت في البحث عن زر بينما الأدعى إنعاشها.
بعد الصدمة الكهربائية بدأ المؤشر ينتظم و بدأ قلبها في الخفقان من جديد.. شعرت برغبة شديدة في الجلوس بقرب سريرها أراقبها و صرفت الممرضة التي انتدبت لهذا العمل و هي في غاية السرور
كانت المرأة بيضاء الشعر بالكامل ملابسها رثة ...تغضنات وجهها تشي بحياة متعبة
أطلت إحدى الممرضات من الباب و دعتني إلى العشاء فاعتذرت لها ..
- تمر بنا تلك الحالات على مدار الساعة ألم تعتد بعد؟
- لا أظنني أستطيع
فتحت المرأة عينيها الواهنتين في حدود ما أمكنها و حركت رأسها المقيد بأنابيب جهاز التنفس و منظم ضربات القلب .. سألت بعينيها : أين أنا؟
-حمدا لله على سلامتك ..
-لن أكون بخير ...هذه المرة الثالثة ..لا تحاول إنعاشي في المرة القادمة ..دعني أموت في هدوء
أغمضت عيناها .. كيف تتساوى الحياة و الموت لدى إنسان ما ؟ لا بد أنها ترى أن ما بعد الموت ليس اسوأ مما عاينته قبله..
عند الفجر صحوت على صراخ مؤشرات جهاز تنظيم ضربات القلب
دخلت الطبيبة المناوبة فيما أنا أحاول استرجاع ما مر بسرعة
- هذا احتشاء آخر يا دكتور ؟ هل نصدمها بالكهرباء؟
- لا .. ليس هذه المرة !
وسط ذهولها استأنفت:
لأول مرة ستتابعين مجريات اللحظة الاخيرة عن كثب و دون ضوضاء ... تقلص بطيني .. تقلص أذيني .. توقف القلب تماما ... ساعة الوفاة الرابعة و خمس و عشرون دقيقة فجرا.
غادرت الغرفة بهدوء حسدت نفسي عليه !
طلبت من الممرضة إبلاغ ذويها .. اخبرتني أنها متسولة وجدت في أحد الشوارع الكبيرة ملقاة على الرصيف و لا هوية لديها ... كل ما كان في حوزتها محرمة مطرزة و بضعة نقود معدنية و زر خشبي بني
-ماذا أكتب في بيان الوفاة يا دكتور ؟
-زر مقطوع

ريم بدر الدين