الموضوع: مفعولٌ بي
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-02-2016, 03:16 PM
المشاركة 7
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مفعول بي بقلم مها الألمعي

عتبة النص تعتبر الخطوة الأولى التي تخطوها نحو النص ، مفعول بي عنوان صادم جدّا ومثير جدّا ، فمن جهة النّاس يحبّون الفاعلية و يبتغون دورا حقيقيا في الحياة ، قد تكون السّلبية التي يحملها العنوان منفرّة لو سيق بأسلوب مرسل "مفعول به" ، كمصطلح متداول مستهلك ، لكن دخول ياء المتكلم على العنوان جعلته يتخلّص من تداوليته و بعثتت فيه روحا جديدة ، فنحن نحبّ بشكل من الأشكال أن يكون الآخر مفعولا به ، لكن حين ينطق القارئ "مفعول بي " ، تخزه ياء المتكلم ، وتشدّه هذه الفرادة إلى النّص . من جهة ليتعرف على هذا الشخص المفعول به ، إبعادا للتهمة عن الذات . ومن جهة أخرى سعيا إلى إثبات فاعلية الأنا و هو يقوم بفعل القراءة و التفاعل الإيجابي مع ما يوجد أمامه .

العنوان أختير بكثير من الحنكة ، و أتحدث عن نوع من الحدس الجبار الذي يقود الكاتب إلى إبداعات غير مألوفة و في نفس الوقت كفاءة الاختيار، ملكة عجيبة في اختيار المفردة القادرة على إثارة الانتباه ، هذا فعلا ليس شيئا بسيطا و لا سهلا ، وهو في نفس الوقت يشكل عبءا إضافيا على النص و الكاتب ، فلو لم يستطع النص ترجمة العنوان لكان محبطا جدّا للقارئ ، ويشعره أنه مجرّد مفعول به وقع عليه النّصب .

هل في النصّ ما يؤازر العنوان و يشد من أزره من الألفاظ ، أختار لكم بعضا منها لنكون على بينة و نجيب على السؤال ، لماذا هذا النّص موفق؟ :

في المقدّمة خصوصا التي تعبر أقوى مؤشر على نجاح النصّ ، شخصيا أعتبر المقدّمة ركيزة النّص عكس الكثيرين الذين يحبّون النهاية ، فالإنطلاقة هي بؤرة النجاح وعماده ، و النهاية تحصيل حاصل ، و من أنجز انطلاقة قوية لابد تكون محفزا فعليا لملكة الكتابة على الاسترال بنشاط . والمالك لقدرة الحبك لا بد ينطلق من المنطلق الحقيقي للنص ، و كثير من النصوص تجدها مبعثرة ، وتودّ لو كان بإمكانك أن تتدخل وتعيد ترتيبها ، لأنها قدمت بشكل لا يستقيم و نسق شامل يعطي البنية وجودا حقيقيا .

كل صباح أرتدي هذا الزي العسكري منذ عشر سنوات
باستثناء صباحات الإجازة القليلة
التي أحصل على بعض منها خلسة


الصباح مؤشر على البداية و هو مفتاح الأمل ،" أرتدي " الفعل تبدو من خلال ظاهره الفعالية ، لاحظ قوة الصياغة وتعلّم يا من يريد انتاج النصوص "هذا الزي العسكري " فالكاتبة لم تقل كل صباح أرتدي الزيّ العسكري ، أضافت اسم إشارة لتقول لك انتبه يا أخي الزي العسكري لم أختره اعتباطا بل له مركزية قوية وهو أقوى رموز الفعالية و الفاعلية و لو بالقوة ، لكن ماذا بعد ذلك هل أتبعته نعتا لا ، لو فعلت لكان هذا تقريرا لا أكثر ، ماذ اختارت الكاتبة لمؤازة الزي العسكري برشة المفعولية و التقليل من سطوة الفعل "أرتدي" و من فعالية "الصّباح" ، "منذ عشر سنوات" يا لها من مدّة طويلة فعلا " هذه العشر سنوات والعمر والزمان بصفة عامّة يؤلم الفرد يشعره بحقيقة تحاصره على الدّوام هي محدودية الأجل ، عشر سنوات تستشعر من خلالها وجود ملل وتكرار زائد ، هنا موازنة الجملة بكثير من الحرفية والإيجاز هنا انتقال من الفاعلية إلى المفعولية بسلاسة بتلميح بعيد عن التّصريح . هل توقفت الكاتبة لا ، فالإنسان لا يحب هذا الملل المبشع بالرتابة ، يجب أن يشرق الأمل من جديد ، هكذا تعمل موازين الجمل والنصوص ، "إلا" ، هناك استثناء ، الإجازة رمز من رموز تحرر الذات و الانتعاش بعد الروتين المملّ ، لاحظ استعمال الصباح في صيغة الجمع للإكثار من منسوب الأمل ، لكن الكاتبة عبقرية بشكل غريب ، وازنت الجملة الثانية بكلمة خفيفة " القليلة" ، لتوقظك مرة أخرى ، أن هناك دائما من يتحكّم ، و يصرّ على جعلك مفعولا به . و استمرت في تفسير الموقف ، و ترشق الجملة بنعت خفيف " خلسة" ، لتقول أنا فاعل لكن في صيغة المفعول به .

أليست هذه المقدّمة قصيرة جدّا؟ بلى ، لكنها أحاطت بالموضوع و وضعتك في الصّورة بإيحاءات لا غير ، في جمل خبرية ، بلا وصف والسرد فيها إخباري ، هل أحسست بالمكان ، بالطبع لا ، لن تحس به ، لأنه قابع في أعماق النفس ، نفس الكاتب هي الكان الذي يشير إليه هذا التقديم يا صاحبي ، هل أحسست بالزمان ، طبعا هناك صيغ كثيرة ، صباح ، صباحات ، عشر سنوات ، لكن هل هو زمن النص ، لا يا صاحبي ، فالنفس ليس لها زمن محدّد ، النفس لحظة مستمرة غير محدودة ، ليس لها ماض و لا حاضر و لا مستقبل ، تنقبض لشيء حدث بالأمس كما لو حدث اللّحظة ، لأفسر قليلا ، أصابك جرح اليوم في موضع معين من جسدك و ترك شجّة ما هذه الشجة كلّما رأيتها تعود النفس بسهولة فتحس بذلك الألم ، و ذلك الانقباض ، إنها نفس اللحظة ، تفرح النفس اليوم لجائزة تستحصل عليها غدا ، لا وجود للزمان في صيغه المعروفة في أعماقك ، هناك فقط لحظة مستمرة .

هل هناك فجوة بين المقدّمة و ما بعدها ، مؤكد لا ، لماذا لأن طبيعة النص و ضمير الأنا يمنع ذلك ، فالضمير ستجده دائما هو نفسه ، والراوي لا يملك الفرصة ليستطرد في الزمكانية و حتى الوصف ، و حتى فنون السرد تجنح إلى الإخبار ، فهو مضطر لبناء شخصيّته منذ البداية و سيتمر فيها إلى الحد الذي يظهر فيه أعماق نفسه ، فباشر الأحداث التي يراها مناسبة لتوكيد المفعولية . و سيطرة الآخر" بكل معانيه " على الذات في ثقافتنا .

هل سأقوم بتفصيل النص جملة جملة ، شيء أحبّ القيام به ، لكنّك ستحس بالملل ، و لن أحترم الإيجاز الغريب الذي سبك به النّص و جمله ، سأنتقل إلى وحدة أحداث النص .

البداية كانت بالأب ، "الأب " رمز "القدسية " قدسيّته تمنع عنك الفعالية ، اختياراته ، لا اختياراتك ، تضطر للقبول أملا في اكتساب الفاعلية من المفعولية ، لست أدري إن وضحت الفكرة ، عند الصينين يقولون إذا أردت أن تصعد فانزل ، مزيدا من التوضيح لنين يقول ، خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام ، ستكون الصورة وضحت ، لكن الكاتبة لم تحتج كلّ هذا لتفهمك ، هناك إيجاز غريب ، كان والدي يقول : " إن السلك العسكري يعلم روّاده النظام و يصنعه فيهم " أرأيت كيف يتم التعبير بالإشارة " مهما حاولت أن لا أدخل إلى اختيارات الكاتبة في استعمال المفردات أجدني لا أستطيع ، أبي رمز للسطوة ، يعلم ، رمز لفوقية المعلم ، يصنع ، أنت مجرد مادّة قيد التشكيل ، و النتيجة يا صاحبي ، تمرد ، رد فعل سلبي ، ولك أن تحدّد أنت هل رد الفعل فعالية أو مفعولية ، أو يء بينهما ، وجود بالفعل ، أم وجود بالقوة .

الحدث الثاني : "الاعتراف "

قلت يوما في لحظة ضعف :
"سحقت المكاره فينا إباء ، وابتلي بعدها اللسان بنزف النواح "
هل الاعتراف فعالية أو مفعولية اقرأ المقطع و أجبني ، ماذا قالت " المعلّمة" على لسان بطلها ، لا تحتاج لهذا ، " فكلمة بائس تغنيك عن العودة إلى النصّ .

"التصنيف "

الطبقية الاجتماعية ، الطبقية الثّقافية ، الطبقية الفكرية ، و قس على ذلك لتعرف ماذا تعني و أين يريدك الآخر أن تكون ، هل يريدك رمزا للفعالية أو المفعولية ، و كيف تتفاعل الذات الحيّة مع تلك الإكراهات ، و العسكرية فعلا هي المكان الذي تتجسد فيه الطبقية بشكل واضح جدّا و مبرر جدّا ، فبإمكان الأعلى رتبة أن يرسلك إلى الموت بكثير من النشّوة ، و هي آخر ما يمكن أن تصله الطبقية .
قال ضريف يوما لواحد من التيار اليساري عندما وصمه بالتعاطف مع "العدليين " في المغرب ، مشكلتنا الحقيقة هي هذا الإفراط في التصنيف ، لا يمكن أن تقول كلمة دون الرجوع بك إلى خلفية ما ، و وضعك في خانة ما ، المهم يجب أن تحاصر ، نوع من الحجر ، نوع من ممارسة سطوة الآخر على الذات . نوع من إجبار الذات على المفعولية .

نافذة الاعتراف تلك فتحت أبواب نفس البطل و كيف يمارس ذاتيته ، من عدم قبول المفعولية إلى محاولة التعايش معها إلى الاجتهاد والذوبان في ثقافة المجتمع ياله من ترتيب محكم عبر أحداث بسيطة رشيقة ، مع ربطها بتساؤلات النفس و محاولتها الغوص في تفسير السلوك المقترف ، حين وجد الأب نفسه يعيد ممارسة نفس ما مارسه المجتمع على ذوات أخرى ، هنا وصل اعترافه إلى كلمة و مفردة واخزة : " المسخ"

فأجبتْ بأنه مسكين لا يحظى بالكثير من المال
شهدتُ تعجب عيني ولدي حين أسقطتُ جميع امتيازات الرجل
أمام المال
تلك الليلة شعرت بأنني اكتشفت مسخي


المسخ هو تغير الملامح ، عدم القدرة على معرفة الذات ، و هي تعبير عن استغربات لسلوكات الذات ، و هنا تقودنا الكاتبة بكثير من الحرفية إلى نقد عبثية الذّات ، أعتقد أن أدب ما بعد الحداثة ماهو إلا تعبير عن فشل العقلانية في فرض سطوتها ، يعني تحكّم العقل " الذات العاقلة" في وجودها ، فجاء أدب ما بعد الحداثة لكسر قوانين العقلانية ، كصرخة معبرة عن المسخ ، وهناك من يعتبر هذا مذهبا جديدا ، لانه متشبع بالتصنيف ، فهو ليس أكثر من صرخة ، و ليس أكثر من تمرد كما يفعل البطل ، ليقول هذا خطأ ، فهذا الأدب يريد أن يرسخ ثقافة الاعتراف بالآخر ، و منه الاعتراف بالذات ، عندما تلغي الغير فبالضرورة تلغي الذات ، يريد أن يصل إلى فكرة أن وجودك رهين بوجود الغير ، يريد أن يقلص من سطوة الوحدة بمفهومها المتمثل في الانصهار والذوبان في الآخر و يعوضها بمفهوم البنية ، التي تعتمد على الاختلاف كمرتكز للوحدة ، فالنص الأدبي ، لن تصنعه لفظة واحدة تتكرر ، بل هناك هناك مفردات متداخلة في علاقات وسياقات تعطي البنية مفهومها ، هنا أيضا جاءت فكرة التعدّدية في إطار نظام أو قانون .

بعد المسخ وصلت الكاتبة عبر بطلها إلى العدمية و منها إلى إعادة الحياة رغم طابعها الزائف ، ليس لأنّها زائفة من البداية ، لكن لمحاولة التعايش .

هناك مقطع هائل لا بدّ من الإشارة إليه ، و هو :
دائمًا ما أحببت الامور الطارئة التي تجبرني على مزاولتها فورًا
ولا تفتح لي مجالًا واسعًا لأفكر .

وصلت الكاتبة إلى التلقائية في التصرف ، وهي غاية و منتهى ألق الذّات ، لكن خذ بالك ، وجد البطل هذا السلوك عبثيا ، زائفا ، رغم أنه يعطي الذات فعالية أكبر ، لماذا ، لأن هذا التصرف لم يأت بعد تفكير يمنح حق الاختيار ، و لماذا أيضا لأن فطرة الذات السّليمة تعرضت لكثير من الدّمار ، فأضحت خطواتها غير موثوقة .

لماذ المقطع الأخير يا مها الألمعي .

تقول مها ، لأن النص قصة قصيرة ، لابد من مكان وحدث حقيقي ، لحظي آني ، هل كل ما سبق مقدمة ؟ لا ، ليس تقديما بل هو النفس الحقيقية التي كتبت عنها ، وهذا المقطع خاتمة ، لا أريد لنفسي أن تحارب طيلة الوقت ، لا أريد أن أرى الآخر دائما عدوّا ، هناك حلول أخرى يمكن خلالها أن نتعقل . ونعيد العقل إلى مكانه الطبعي ، و هو الخير .

أين المفعولية يا مها ؟ و هل تعتبرني فعلا أومن بالمفعولية ، إنها النزول للصعود ، إنها خطوة إلى الوراء للدفع بخطوتين إلى الأمام ، مالك وهذه المصطلحات كلها ، خذ أحسنها وأرقها و أجلها :
"وَلَا تَسْتَوي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ . ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ "