عرض مشاركة واحدة
قديم 11-15-2016, 01:36 AM
المشاركة 53
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ترامب و«طرنيب» الانحطاط
[1]
«أكلناها»، قال صديقي العربي الأمريكي.
«من أكلها»؟ سألته.
«نحن العرب»، قال.
«نحن أكلناها من زمان»، قلت.
«ولكن ترامب عنصري»، قال.
«صحيح»، جاوبته، «ومقزز أيضا».
قلت لصديقي انني لا أفهم كيف صوتت له النساء، «هل هذا معقول»؟
«انها غيرة النساء من هيلاري وكيدهن»، قال.
«هذا تصريح ترامبي»، قلت، «يوجد ترامب صغير فيكم جميعا».
«هل تعلم ماذا تعني كلمة ترامب بالانكليزية»، سألني، وتابع شارحا أن معنى ترامب هو «الطرنيب»، أي أن الرجل «طرنب وقش الطاولة».
وعندما تعجب الرجل من عدم اندهاشي بترجمته للكلمة افترض أنني لا أعرف معنى «الطرنيب»، فشرح لي أن «الطرنيب» هو من ألعاب ورق الشدّة، وأن ما يُطلق عليه اسم الطرنيب محصور بأوراق «الكُبة» التي تحمل اشارة القلب الحمراء، وأن ورقة طرنيب مهما كان رقمها أقوى من أية ورقة تنتمي إلى احدى الفئات الثلاث الأخرى، يكفي أن تملك أوراق الطرنيب هذه كي تنتصر.
قال إن طرنيب ترامب كان احتقار الآخر سواء أكان ملونا أم أنثى أم مسلما، وبهذه الورقة التي دغدغت مكبوتات الرجل الأبيض، «طرنب» دونالد ترامب الرئاسة الأمريكية، وخيّب جميع التوقعات وانتصر.
أعجبني تحليل صديقي الذي بسّط الأمور مستعينا بلعبة ورق الشدّة التي لا أستسيغها، بصفتها طريقة لقتل الوقت، وأنا لا أفهم لماذا يوحي الناس لأنفسهم، عبر هذه اللعبة وألعاب أخرى مشابهة، بأنهم يقتلون الوقت، بينما يقوم الوقت بقتلهم فعليا.
«طرنب» ترامب كي يقتل الوقت، ولم يقتله رمزيا فقط، مثلما يفعل لاعبو الورق والنرد، بل قتله فعليا، وأعاد العالم إلى مزيج من لغة القرن التاسع عشر القومية، ولغة الزمن الفاشي.
هذا التحليل المسلّي الذي قدمه صديقي العربي الاميركي، وهو يحاول التغلّب على خوفه من احتمال وضع عرب أمريكا في معسكرات اعتقال، على غرار ما قام به الامريكيون خلال الحرب العالمية الثانية، جعلني أشفق عليه وأشفق على نفسي، فنحن وأمثالنا نواجه مفاجأة الصعود الجديد للفاشية في العالم، من دون أن نملك سوى لغة قديمة لم تعد تصلح للمواجهة.
الظاهرة الترامبية كانت مفاجأة المثقفين والصحافيين وكل «الاستابليشمنت»، في أمريكا والعالم، كأن الرجل جاء من لا مكان، كي يمسح الأرض بواشنطن ويبهدل الطبقة السياسية الامريكية، ويطيح بالقيم الديموقراطية بضربة واحدة.
لكن الظاهرة الترامبية أكثر تعقيدا من تبسيطها في مقولات ثقافية.
صحيح ان الديمقراطيين قدموا مرشحة تقليدية لم تثر حماسة أحد، كأنهم يسخّنون طبقا بائتا لمدعوين يسعون إلى نكهة جديدة. مؤسسة الحزب الديمقراطي نجحت في ابعاد اليساري ساندرز عن الحلبة، ومعه استبعدت الحماسة والتألق والأفكار الجديدة والرؤية اليسارية، لتعيدنا إلى عهد بيل كلينتون، أي إلى ما قبل قبل أوباما. وفي المقابل فشلت المؤسسة الجمهورية في استبعاد مرشح جاء من خارجها، فأستطاع هذا الرأسمالي أن يحدث المفاجأة، وجاء مع أكثرية مريحة في الكونغرس، كي يطبق سياساته.
استبعاد ساندرز كان بداية الفشل، لكن هذا لا يكفي لفهم ظاهرة ترامب، التي تأتي وسط صعود عارم لليمين الفاشي في الغرب. فالمسألة لا يمكن فهمها بمعزل عن حقيقتين:
الأولى هي العنصرية، الناجمة عن العولمة، التي هشمت الكثير من القطاعات الاقتصادية، وتهدد الطبقة العاملة البيضاء، بالانحدار الاجتماعي. هذه المشكلة الاجتماعية التي لم تستطع القوى الليبرالية ايجاد حلول لها، امتزجت بالخوف من المهاجرين، مشكلة أرضية خصبة للفاشية.
والثانية هو ميل نجم الامبراطورية الامريكية إلى الأفول. وفي أزمات الأفول، تحتل لغة الهوية وكراهية الآخر الصدارة.
ظاهرة صعود الاسلام التكفيري بأصولياته المتنوعة لم تكن صحوة، الا إذا كان المقصود هو صحوة الموت. المشرق العربي منذ الهزيمة الحزيرانية المروعة، وسقوط الدولة القومية، يتمرّغ في وحل التاريخ، لذا جاءت هذه الصحوة كرد فعل على الموت لا وظيفة لها سوى تسريعه.
امريكا التي فقدت هيبتها بشكل مخزٍ في حربها الهمجية الفاشلة على العراق، دخلت في وحل المجهول، اقتصادها يعاني ازمة نمو، وصورتها تهشمت في العالم، ولم يبق سوى تسريع عملية الأفول، عبر لعبة «طرنيب» صنعت مفاجأة الانتخابات الامريكية.
الذهول الذي أصيبت به النخب طبيعي، فلقد حاربت ترامب بمجموعة من القيم الأخلاقية، التي نجحت في استبدال النضال الاجتماعي والطبقي بالنضال الثقافوي. وكانت النتيجة أن ما اعتبر قدحا وذما في الرجل كان سلمه إلى الصعود. ظهرت كل المكبوتات دفعة واحدة، ذكوريته وفظاظته وعنصريته وبجاحته وقلة حيائه وتهربه من دفع الضرائب، كلها اجتمعت في شخصه لتقدم صورة نمطية عن الغباء، الذي يدغدغ اوهام السيطرة عند الرجل الأبيض. انه عالم جديد لا نملك ادوات فهمه، أو تناسينا هذه الأدوات عندما غرقت النخب المثقفة في العالم في خطاب ثقافوي حملته المنظمات غير الحكومية ngo بصفتها بديلا سياسيا لليسار المتهافت، فكانت النتيجة الغاء للعمل السياسي النضالي، وتضخيما لرؤى اخلاقية ثقافية، لا يكون النضال من أجل تحقيقها مجديا إلا اذا ارتبط بمشروع سياسي طبقي يقاوم الرأسمالية المتوحشة.
مع ترامب جاءت الرأسمالية المتوحشة عارية الى السلطة بعدما خلعت جميع اقنعتها لنكتشف أنها بربرية جديدة.
«على البشرية ان تختار بين البربرية والاشتراكية»، كما كتب كارل ماركس مرة. ويبدو أن الخيار البربري الأمريكي جزء من سياق سياسي عالمي جديد.

ترامب و«طرنيب» الانحطاط
الياس خوري