عرض مشاركة واحدة
قديم 02-21-2016, 12:47 PM
المشاركة 41
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

ذهب ذلك الجراد الي غير رجعة...لكن صنفا اخر من الجراد، كان اشد فتكا، وأعظم خطرا، بعد ان اتقن لعبة النجاة عبر السنيين في معركة صراع البقاء، وتكاثر بصمت في حصونه وصياصيه لعدة قرون مضت، وفي أماكن كثيرة...في الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب...في الاصقاع الباردة، والصحاري الحارة...حتى ان بعضه هاجر الى الاراضي الجديدة، واستحكم مع الزمن في مفاصلها، وصار له هناك نفوذ عظيم..

وظل اثناء ذلك كله، ولسنوات عديدة يحلم في السيطرة على بلاد السمن والعسل، بدلانا فلسطين...وأصبح مع الأيام صاحب شكيمة، ونفوذ، وامتلك وعلى عكس الجراد الصحراوي، أدوات بقاء، واستمرار، وانتصار...فقد أصبح مدرعا، وله يد طويلة، وعيون كثيرة، وأدوات خبيثة، وأساليب ماكرة...

وبينما كان ذلك الجراد الصحراوي من صنف واحد، ولون واحد أقرب الي لون الرمال الصحراوية، الا ان هذا الجراد الاخر استفاد من سعة رقعة انتشاره في البلاد والاصقاع، فأنتمى اليه أناس كثر من عدة اجناس والوان...منهم الأبيض كبياض الاسكندنافيين ومنهم الأسود كسواد الاثيوبيين...منهم له عيون زرقاء بزرقة السماء ومنهم من ظلت عيونهم على أصولها اسود، وبني، وعسلي...وهو ما يشي باصول شرق اوسطية...

وكان بعضه قد استوطن منذ سنوات في الساحل الفلسطيني، وبعد ان نجح في استقدام المزيد من بني جنسه الي الأرض التي نسج حولها حلمه وحلمهم في العودة والرخاء، استجمع قوته، وعاود الانتشار من جديد في هجمة توسعية، شرسة، وكان ذلك بعد سبع سنوات تقريبا من هجوم الجراد الصحراوي الكاسح...

وما لبث هذا الجراد ان استحكم بكل قوة، وجبروت، واستوطن في رؤوس الجبال، وبدأ يقضم بمخالبه الأرض، والشجر، والحجر، ووضع يده على عيون الماء...الذي هو مصدر لكل حياة...وظن البعض حينها انها موجة عابرة، او هي سحابة صيف لا بد زائلة...لكنه هذا الجراد استوطن في حقولنا، وجبالنا، واستفحل في اذاه...ومرت السنين تلو السنين وهو ما يزال يستحكم في ربوع ارض فلسطين، ويجثم بصلافة، واستهتار واستكبار على صدور اهلها...ولا يوجد في الأفق ما يشير الى متى سيرحل هذا الجراد...

وان كانت كل تلك الحشرات والجرادات التي حدثتكم عنها فيما سبق قد تسببت بأذى عظيم لأهل فلسطين فذلك الأذى لا يعدو نقطة من بحور الأذى والالم والقهر والعذاب والترويع التي صنعها، وتسبب بها هذا الصنف الاخر من الجراد...وتلك اوديسا الم أخرى يطول سردها وتتعدد فصولها...وسوف نعود لقصها عليكم بتفاصيلها المؤلمة، والمروعة، والمرعبة، لكننا نعود لنستكمل أولا مصادر الألم والخوف الاهون في حدة ترويعها والتي عصفت بفلسطين كما اذكرها في طفولتي المبكرة فما يزال في جعبتي ويعصف بذاكرتي مصادر الم أخرى حفرت لها مكان في الذاكرة...

وكان بعض هذه المصادر حشرة صغيرة لا تكاد ترى بالعين المجردة... وكانت تسكن في رؤوسنا...ذلك هو القمل اللعين ...الذي كان يسرح ويمرح في غفلة منا ويتغذى على دمائنا، ويتكاثر هناك بين بصلات شعر رؤوسنا دون رادع، وكأنه في غابة استوائية، واظنه كان يفضل ان يختفي في المساحات الكائنة خلف اذاننا، او ربما انه كان يجد في تلك الأماكن اقصر الطرق لما يشبع نهمه من المغذيات والملذات...

وكان انتشاره آفة رهيبة من افات ذلك الزمن...وكان القضاء على هذا الصنف من الحشرات تحديدا من اشد اهتمامات والدي...ومن ضمن أولوياته...واظنه كان يخشى ان يكون القمل من آيات الله المرسلات على الناس في ذلك الزمان...كما سبق وان ارسلت هي والطوفان، والضفادع على قوم فرعون...اعداء موسى وهارون...

واذكر تماما كيف انه كان يشرف شخصيا ومباشرة ونحن صغار على قص شعورنا وبحضوره الدائم...وقد وظف لذلك الغرض حلاقا، وكان البعض يسمونه، مزينا وكان اسمه جميل عبيد...وكان والدي يدفع له في تلك السنوات، اجرة سنوية عبارة عن صاع واحد من القمح تضاعف مع مرور السنين مرات ومرات الى ان اصبح الدفع نقدا هو المستحب، وذلك مقابل خدماته في تزين كل رأس من رؤوسنا...وذلك بحلقها وتنظيفها تماما من أي شعر بماكنته شبه المعطلة بشكل دائم...والتي كانت كثيرا ما تخلع الشعر خلعا بدل قصه، وتتسبب لنا في كثير من الألم...بينما كانت ردة فعل المزين جميل عبيد حينما كنا نتوجع ونعبر عن ذلك بصيحة اخ...اخ...اخ...كانت ردة فعله ابتسامة بعرض الأفق...واحيانا قهقه تزيد المتألم المسكين الما اشبه بطعنة سكين...او كأنه كان يرش ملحا على الجرح...فقد كانت اسنان ماكنته بالية...

وكانت النمرة المفضلة لطول الشعر عند والدي، هي النمرة صفر دائما وكأن الحلاقة طقوس دينية، بينما كنا نحن الصغار نقاوم الصلعة والنمرة صفر باستماته، وبكل ما اوتينا من قوة وحيلة واساليب...وكنا نظن النمرة صفر نوع من العقاب الفردي والجماعي احيانا...وكنا نخجل من أنفسنا إذا ما اجبرنا عليها امام الاخرين ...وكنا نحن نستهين بذلك العدو اللعين ونفضل ان يظل شعرنا مرسلا...طويلا مسترسلا...كاشجار غابة استوائية...وان كان لا بد من قصه، فلتكن القصة على النمرة أربعة...وان لم يكن فالنمرة اثنان...لكنا كنا دائما نخسر المعركة مع والدنا ونستسلم لإرادته ورغبته في استباحة شعورنا حتى لا تصبح مرتعا لتلك الحشرة المخيفة...التي ارتبط وجودها في وجدان الناس وعقولهم بالغضب الالهي والعذاب المبين...

وقد استمرت حرب والدي على حشرة القمل التي كانت تعشش في رؤوسنا حتى أصبحنا في الصفوف الدراسية العليا...لان المدارس الابتدائية كانت أحد أسباب انتشار تلك الافة بصورة وبائية احيانا...وقد اشتركت المدارس في تلك الحرب الفتاكة على القمل...فكانت الماردس تمارس رقابة شديدة على طول شعورنا وتجبرنا على قص شعورنا على النمرة صفر في محاولة للسيطرة على ذلك الوباء، وكان اذا صدف وطال شعر احدنا بمقياس يزيد على مقاييس المدرسة، يرسلوننا الي المنزل وعلى ان لا نعود حتى نجتث الخطر...واستمر الامر على ذلك المنوال الى ان تبدلت الأحوال وهزم القمل شر هزيمة واظن ان ذلك حدث بفضل المبيدات الحشرية التي لم تكن موجودة في ذلك الزمن... وبفضل وفرة الماء الذي اصبح يُصب صبا من الصنابر والدشات التي صارت منتشرة في كل مكان...بينما كان الماء في بداية الستينيات ينز نزا بالقطرات من الجرار والاباريق...او من تلك الاوعية المتطورة قياسا بما كان متوفرا وهي عبارة عن براميل يركب في اسفلها حنفيات تفتح وتغلق حسب الطلب ولا يكون هناك حاجة لمساعدة شخص آخر في كل مرة تريد فيها صب الماء للتنظيف وما اشبهه.. كانت تلك الباميل تملا بالماء كلما تيسر ذلك فالحصول على الماء في تلك الايام لم يكن سهلا...فقد كان الامر يتطلب جهدا كبيرا حيث يؤتى بالماء من الابار...التي كانت احيانا بعيدة ومخيفه ...بل وقد تستغربون حين اقول انها واحدة من اهم مصادر الخوف في تلك الايام... وللماء والابار عندي حكاية ورواية سوف اقصها عليكم فيما يلي...

هزم القمل شر هزيمة منذ زمن بعيد ولو انه ما يزال يظهر بين حين وآخر، هنا وهناك، لكنه ما يلبث ان تشن عليه حروب شرسة فيقضى عليه ويزال من الوجود اذا ما ظهر...وقد اصبح الامر سهلا لان ادوات مقاومته تطورت مع الايام واهمها وفرة الماء الذي صار يصلنا عبر الانابيب والصنابر دون اي عناء من الينابيع والابار الارتوازية، وكذلك وفرة الصابون، والشامبوهات...والمبيدات الحشرية....

والمفارقة ان شريحة الشباب اصبحت هذه الأيام تعتبر حلق شعر الرأس على النمرة صفر، تلك التي كان يفضلها والدي اختيار مميز، وموضة محببة، تشي بصلابة، ورجولة وجمال... يسعى اليها الشباب بأيديها وأرجلها...وكأن ابي كان يستشرف المستقبل ربما...ولو ان اهدافه التي سعى اليها في ذلك الزمان كانت التخلص المطلق من ذلك البلاء العظيم...

يتبع ...