عرض مشاركة واحدة
قديم 09-26-2017, 02:30 PM
المشاركة 15
زهرة الروسان
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
رحيل

الخالة: بني، كيف حال شهد؟
-هي بخير أمي، كسرت ساقها وأصيبت ببعض الرضوض. أنت كيف حالك؟
-أحسن حالا من قبل. الحمد لله... صار بإمكاني التحرك.
-هناك موضوع مهم علي التحدث معك حوله... لكن عليك أن تكوني هادئة و أن لا تنفعلي... فأنا أبحث عن إجابات.
-ما الأمر بني؟ أقلقتني....
اتجه جود نحو المنزل مسرعا بعد أن عرف الحقيقة وتأكد أن من عبث بالمكابح هي من تدعي اللطف وتتظاهر بالبراءة... دخل المنزل ليجد فداء جالسة على كرسي قرب المدفئة وهي تحمل كأسا من الشاي الساخن وتتأمل المطر في الخارج.
-فداء: عدت يا جود... كيف حال أمي... وشهد؟
-هما بخير، فداء أخبريني لم فعلت ذلك؟
-ماذا فعلت؟ أنا لم أفعل شيء.
-لا تحاولي خداعي فقد عرفت كل شيء.
-ما الذي عرفته؟
-عرفت حقيقة موت أخيك الصغير... وحقيقتي... عرفت ما فعلته قبل أربع وعشرين عاما. عرفت اليوم لم كانت شهد تبعدني عنك كل تلك السنين... فهمت أخيرا حقيقة الانتقام الذي تسعى إليه... الذي حققته.
-ماذا تعني؟
-ألا تذكرين، ما أخبرتك به حول ما قالته شهد بشأن الانتقام... بشأن حرمان من تسبب بألمها من معاني الحب... أنت حقا لا تعرفين معنى المحبة يا فداء، لم تتذوقي طعم قلق الأم، أو اهتمام الأخ. لم تعيشي بين أخوتك الصغار رغم أنك الكبرى. لم تداعبي أخويك... ربما كثيرا ما اطعمتهما واخذتيهما الى السرير وتفقدت لباسهما... لكنك لم تعطهم الاهتمام الحقيقي بل كان كل ما فعلته بعد طلب من أمي... أنت لم تبادري. مشاعرك باردة اتجاهنا جميعا.
-أسعيد أنت بما فعلته شهد... لطالما حذرت والدتي من ذلك... لطالما أخبرتها أن حرماني منك يسبب انقطاعا بيننا... أسعيد بالظلم الذي عشته بسببها.
-ظلم! أي ظلم هذا! أخبرتك أنني قد عرفت حقيقتك... كيف حرقت قلب أم على طفلها مع أنه حي في الغرفة المجاورة... كيف سلبت حياة طفل ببساطة... دون أن تشعري بأي ذنب.
-هذا كذب.
-ليس كذبا... قالتها شهد كثيرا من قبل، هي لم تكن نائمة لحظة رحيل أمها... لقد سمعت كل شيء... لقد شهدت قسوتك.
- لا أصدق هذا... كيف هذا... لقد كانت تكذب.
-سأخبرك القصة كما روتها لي شهد. في ذلك اليوم أنجبت أمها طفلا رائعا، ولأول مرة لم يمت... حملته بسعادة و هي تتأمل وجهه الصغير، أرضعته وخلدت الى النوم؛ فقد كانت متعبة جدا. عندها أسرعت شهد للعب مع أخيها لتجده نائما، فتمددت بجانب والدتها وغفت وهي تنتظر استيقاظهما... بعد مدة من الزمن استفاقت على صوتها وهي ترجو فتاة أن تعيد لها صغيرها وهي تبكي. مع أنها كانت تحمله بيد وتحاول إخفاء شهد تحت الغطاء بيدها الأخرى... نظرت شهد للفتاة من خلف ذراع والدتها... لترى نظرات مظلمة ومخيفة. عندها أخبرت الفتاة الأم أن الصغير قد مات، وأنه لا فائدة من إعادته لها، وخرجت من الغرفة وهي تضع الطفل في حقيبتها وكأن شيء لم يكن. أدركت شهد أن الطفل الذي تحمله أمها ليس أخوها... وأنها كانت تحاول إخفائها كي لا تؤذيها الفتاة.
طلبت أم شهد منها الإسراع في مناداة والدها... فاتجهت نحو الباب فإذا بأمها تصارع مع سكرات الموت... فعادت اليها لتساعدها، فهي لم تكن تدرك أن كل هذا الألم هو ألم الرحيل... أمسكت أمها يدها بلطف محاولة التقليل من خوفها و طلبت منها أن تخبر والدها بالأمر وأن تعيد الطفل لعائلته... ذلك الطفل كان أنا... طلبت منها إعادتي وأخبرتها أن هذا واجب عليها وأمانة برقبتها، طلبت منها أن تكون قوية ولا تسمح للخوف من احتلال قلبها، وأن لا تسمح لدموعها من زعزعة قوتها... أمرتها أن تكون صلبة لا تلين... ثم رحلت وهي تحدثها عن روعة والدها وحبه لها، وعن فخرها بكون شهد ابنتها الوحيدة... بعد رحيل الأم، خافت شهد من أن لا يصدق والدها القصة، ثم تعود الفتاة وتؤذيها وآثرت النوم بجانب أمها الميتة، فجسدها الساكن كان أكثر مكان قد يحتمل غزارة دموعها.
حين جاء أبي وطلب من أمي إرضاعي رأتك شهد تبتسمين له ببراءة. ورأت تلك النظرة التي لطالما وصفتها بالبلهاء تعلو وجهك... وبعد أن قرر أبي الزواج من أمي، لم تجد شهد سبيلا لتلبية رغبة والدتها سوى بالانصياع للأمر... فأعيش مع أمي الحقيقية و تتمكن هي من الانتقام منك.
-لا أصدق... كيف لهذا أن يحصل...هذا أكثر من أن أصدقه. لكنك فسرت لي سبب كره شهد لي... عليك أن تعلم يا جود أني لم أقتل الطفل عمدا... في ذلك اليوم سمعت الأطباء يتحدثون عن سيدة فرصة نجاتها قليلة بسبب الجهد الكبير الواقع على جسدها بسبب الولادات المتكررة... وأنها مع علمها أن الطفل ربما لن ينجو، و أنها قد تموت بسبب الإجهاد... إلا أنها وافقت على الحمل و الولادة. تابعتهم الى غرفة السيدة، و تأكدت أن زوجها حي؛ فقد كانت أمي أرملة وتمنيت أن تعود لحظات الفرح الى بيتنا، ففكرت أنه إن ماتت تلك السيدة وولدها لن أستفيد من شيء... وأخي-الذي هو أنت- لم يكن هناك تهديد على حياته... ففكرت أن آخذ الطفل قبل موته الى أمي وآخذك الى السيدة. عندها سيموت الطفل وتظن أمي أنك من رحلت، وتموت السيدة ويضطر زوجها للزواج حتى يهتم أحد بصغاره، سيدة ترضع طفله...وأمي ستكون ثكلى و ستكون أول شخص قد يفكر فيه زوج السيدة.
انتظرت أمي لتنام وأخذتك الى غرفة السيدة ووضعتك على السرير، وحملت ابنها وفي لحظات سمعتها تناديني... فوضعت الطفل في الحقيبة دون أن تلحظ ذلك... طلبت مني أن أقرب لها صغيرها لترضعه فقد كانت منهكة وجدا ولا تستطيع الحراك... حملتك وبدأت ترضعك ، فاتجهت للباب للخروج فإذا بها توقفني وتقول أن هذا ليس ابنها، لا أدري كيف أدركت فقد كان كلاكما كومة من اللحم الأحمر... على ما أظن أن الطفل في الحقيبة كان يحتضر لأنه بدأ بالحراك بشكل غريب مما أثار انتباهها وعلمت أنني وضعته في الحقيبة... حاولت اقناعي بإخراجه لكنني رفضت فلم أكن أعلم أنه يحتضر، حاولت الصراخ لتنادي الطبيب، لكن صوتها كان خافتا بسبب التعب.
بعد أن أخذت الطفل لأمي كان قد مات، لم أهتم بالأمر لأنني ظننت أنه مات من تلقاء نفسه... لكن عندما جاء الطبيب أخبرنا أنه اختنق من شيء ما... أدركت أنه قد اختنق في الحقيبة... حاولت تجاوز الأمر... حاولت نسيانه... لكن لا، نظرات شهد تستمر في إعادتي الى تلك اللحظات المؤلمة... كلما نظرت إلي أرى أمها وهي ترجوني أن أعيد الصغير... كلما شعرت بالهدوء النفسي أسمع صوتها الهادئ يزلزل قلبي... حاولت اجباركم على ابعادها عن المنزل... في كل مرة تحدث شهد عن قصة بوليسية. أنفذ أحداثها لتعتقدوا أنها مختلة وتخرجوها من المنزل... لكنكم كنتم تجدون حلولا أخرى.
-كيف فعلت ذلك! هل أنت أو حتى الأطباء من يقرر كم سيعيش الطفل أو أمه... لربما عاشا كلاهما ولم يحدث كل ذلك... وهذا يعني أن شهد محقة... أنت من كان يؤذي الصغار.
- لا يا جود... في كل مرة أرتب لحادث ما، أتأكد أن الطفلين لن يتأذيا. في يوم الحريق، علمت أن شهد سترفض الاعتراف بأنها استمعت لي وتفقدت الصغار... فعدت من بعدها وأشعلت البخور وألقيته على الأرض لتشتعل الغرفة... وبقيت واقفة الى أن اشتدت النار قليلا لأقنعكم بالأمر عندها صرخت لتهبو الي و تنقذوا الصغار.
-وأنت من عبث بالمكابح؟
-أجل... قررت أن أنهي الأمر اليوم، برحيل إحدانا على الأقل... عبثت بالمكابح و أفسدت وسادة الأمان في مقعد السائق.
-لكن أمي هي من كانت تقود. ولم ترحل أي منكما.
-كيف ذلك؟ لقد اتفقتا أمامي أن تقود شهد.
-أجل، هذا قبل هطول المطر... فشهد تخشى القيادة في المطر.
- وهل أمي بخير؟ هل أصابها مكروه؟
-كما قلت سابقا... أصيبت ببعض الكسور.
-حمدا لله. كم هي محظوظة هذه الفتاة، هطل المطر كي لا تتأذى. لطالما احبت المطر. ماذا الآن يا جود؟ هل ستسلم أختك الوحيدة للعدالة؟
-أختي الوحيدة! أنت لم تكوني لي أختا حقا كما كانت شهد... واليوم فهمت الأمر.
-أي أمر؟
-أنت لست أختي.
-هذا واقع يا جود، لا يمكن للمشاعر تغير الحقائق وتبديل الأنساب.
-طبعا لا تبدلها... لكنني لا أصف أية مشاعر... قد صدمت بالحقيقة ولم أرد التصديق فالحقيقة مؤلمة... قمت اليوم بعمل تحليل للحمض النووي لجميع أفراد هذا المنزل... بعض العينات من صندوق شهد، لأمها، أبيها، لأمي ولها... لم يكن من الصعب الحصول على عينات لك و للتوأم.
حمضي النووي تطابق مع أمي و أخوي بشكل كبير... أما أنت فلا.
-ماذا تعني... لا جود هذا كذب، لعلك خلطت العينات أو أنك أخذت عينة شخص غيري.
-لا، حين أخبرت أمي بالنتائج، لم تتفاجأ وأخبرتني بالأمر...
-أنت تكذب... أنا أختك... أنها أمي... أنتم عائلتي، وشهد فقط الغريبة عنا.
-ألا تذكرين يوم زارتنا صديقات أمي... قالتا أنك لا تشبهينها أبدا.
-لكنك قلتها في ذلك الوقت... هن يجاملن وحسب.
-أجل، جاملن شهد وقلن أنها تشبه أمي حين اعتقدوا أنها ابنتها... لكنك تذكرين الرسالة... قالت إحدى السيدات أن أمي أخبرتها أنها تزوجت رجلا وتبنت ابنته... وهي حبلى بمولود، من زوجها الجديد.
-هذا حصل... تزوجت والد شهد وتبنتها.
-وأين الطفل؟
-التوأم.
-لقد كنت بالعاشرة... لقد ولد التوأم قبل وفاة أبي بثلاث سنوات... هذا ليس منطقيا، أليس كذلك... هل لاحظت أن أمي تحب شهد وتهتم لها، كما تحبك أو ربما أكثر قليلا... وتحبني كما تحب التوأم تماما؟
-هي تحاول أن ترضيها وحسب.
-ما كانت لتحبها حقا كما تحب ابنتها... هذه هي غريزة الأم. لا يمكن لها أن تفضل أي شخص على ابنها الحقيقي حتى لو ارادت ذلك... مثلما ميزت أم شهد أنني لست ابنها من مجرد النظر... كما قلت، حين حدثت أمي بالنتائج، أخبرتني بالحقيقة.
-وما هي؟
-كان عمرك عام ونصف، حين تسبب جدي بحادث سير أودى بحيات والدتك... رأى جدي أنه المسئول عن فقدانك والدتك، وشعر بالذنب حيال ذلك. فقدم أمي للزواج من والدك لتعوضك عن حنان الأم الذي فقدتيه بسببه... في ذلك الوقت كانت أمي لا تزال صغيرة في السن... ووالدك كان كبيرا بعض الشيء، مع ذلك كانت سعيدة معه وراضية بتربيتك كابنتها. عندما أتممت الخامسة، رحل والدك بسبب مرض ألم به... تزوجت بعده والدي و توفي قبل ولادتي بشهور، كنت في الخامس عشر من العمر... هذه هي القصة.
-مستحيل، أنا لا أذكر هذا.
-لأنك كنت طفلة غير واعية، لو أنك كنت أكبر قليلا لربما تذكرت ذلك... أو على الأقل، لتذكرت شكل والدك الحقيقي... فأمي أتلفت صوره بعد زواجها من أبي حتى لا تعرفي الحقيقة... فهي شعرت بأنك ابنتها حقا... لا أقول أن ما فعلته أمي كان صوابا، لكنه واقع وعلينا التعايش معه.
-إذن يا جود، هذه هي النهاية... فأنا لست أختك في نهاية الأمر.
-لا يزال الوقت باكرا على النهاية. فشهد وأمي طلبا مني التجاوز عن الأمر... شهد شعرت بأنك تتألمين وأنها قست عليك أكثر من اللازم... فهي تراك أختها فأنت بجانبها منذ الصغر. قد تمكنت من إقناع الضابط أنني قد أخطأت في اصلاح المكابح حين كنت أتعلم من صديقي طريقة إصلاح السيارات... وقد اقتنع، ولن يقاضي أحدا... سيسجل الحادث بأنه عرضي وسيرفق شهاداتنا كإثبات . سأدفع غرامة مادية لإصلاح السياج المحطم وكلفة علاج شهد وأمي. لن نسلمك لأحد، فأنت لا تزالين أختنا مهما حصل. لكن عديني أن تكوني الفتاة الرائعة التي كنت تحلمين بالعيش مثلها.
-جود، أخبرتك أنه على إحدانا الرحيل.
-فداء أرجوك. لطالما تشبهت بسندريلا... كوني مثلها لأجلي.
-رأيت من اللطف ما حطمني، لأول مرة يا جود يكون اللطف قاسيا... اللطف الذي يلين القلوب كسر لي قلبي و حطمه. حتى أسرتي التي دمرت لأجلها سعادة آخرين تبين أنها كذبة، لذا علي الرحيل... لقد قلدت كل الحوادث الذي رويتها لنا إلا واحدة... قضية الملح المسموم، أتذكرها. لكن الملح لا يوضع في القهوة.
-ما الذي تتحدثين عنه! فداء أنت لم تضعي لنفسك سما صحيح؟ أرجوك قولي أنك لم تفعلي.... بهاء كرم أحضرا الهاتف بسرعة...
-بهاء وكرم ليسا هنا... أرسلتهما الى أمي مع الطبيب نبيل... خاطب المدللة شهد. لكي لا يريا جسدي هامدا أمامهما... لقد تأخرت يا جود.
-أين الهاتف... ها هو.... ..
ترنحت فداء أمام جود من ثم سقطت أرضا بلا أي حركة، بعد وقت وجيز وصل رجال الإسعاف ونقلت الى المشفى... وكانت تلك، هي نهاية قصة الألم... وبداية حياة معتدلة تخلو من الأحقاد والآلام، تبشر بمستقبل واعد.
هذه حكاية فتاة لم تكن كسندريلا، فسندريلا كما يقال في الحكايات، أنها تميزت بالقلب الطيب والتسامح... بالمناسبة لدي صديقة عبر مواقع التواصل اسمها سندريلا، تتميز بهذه الصفات... اسمتها أمها بهذا الاسم لأنها حلمت أن تكون كسندريلا، و ظفرت بهذا الحلم، عاشت حياة قاسية، مع زوجة أبيها-التي لم تكن قاسية بالمناسبة- من ثم تزوجها رجل نبيل... ليس نبيل أبي، بل هو نبيل من الداخل، وأخذها بعيدا عن هذا العالم القاسي- كما تقول-....ماذا؟ هل اعتقدتم أنني سأضع نهاية حزينة؟ هذا ضد مبادئي... فأمي علمتني أن النهايات السعيدة هي طريقة بسيطة لإسعاد القراء، حتى لو بدا لهم عكس ذلك، ففي أعماقهم هم سعداء... في الواقع هذا من أثر أبي على أمي، فهو يلقب بصانع البسمات... فأمي جعلت عيونها كغيم لا ينقطع غيثه، لكن أبي يسارع في صناعة بسمة جميلة تعلو وجهها ليخالط دموعها لمسة سعادة سحرية... وما عادت تضع نهايات مأساوية بعد الآن.